الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا. فإن أحسنت اليه فلا تحسبه علىّ يدا، وإن لم تحسن اليه لم أعدّه عليك ذنبا، والسلام. فركب أبو العيناء الى الجاحظ وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان. فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتى فيمن أعتنى به. قال: فإذا بلغك أنّ صاحبى قد شتمك فآعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه. وقال أبو العيناء: مررت يوما بدرب بسامرّاء؛ فقال لى غلامى:
يا مولاى، فى الدرب حمل سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه وغطّيته بطيلسانى وصرت به الى منزلى. فلما كان من الغد جاءتنى رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس حمل، فأخبرنى صبيان دربنا أنك أنت سرقته، فأمر بردّه متفضّلا. قال أبو العيناء: فكتبت اليه: أى سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغّاء وأكذّبهم ولا أصدّقهم، وتصدّق أنت صبيان دربكم أنى سرقت الحمل!. قال فسكت وما عاودنى.
ولأبى العيناء أخبار كثيرة وحكايات مشهورة قد أوردنا منها ما يدخل في هذا الباب وتركنا ما سواه.
ذكر ما ورد في كراهة المزح
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مزح استخفّ به» .
وقال حكيم: خير المزاح لا ينال، وشرّه لا يقال؛ سكرات الموت به محدقة، وعيون الآجال اليه محدّقة. وقال آخر: تجنّب شؤم الهزل ونكد المزاح؛ فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد عسر، وفحلان إذا لقحا لم ينتجا غير ضرّ. وقالوا:
المزاح يضع قدر الشريف، ويذهب هيبة الجليل. وقالوا: لا تقل ما يسوءك عاجله، ويضرّك آجله. وقالوا: إيّاك وما يستقبح من الكلام، فإنه ينفر عنك
الكرام، ويجسّر عليك اللئام. وقال عمر بن عبد العزيز: اتّقوا المزاح، فإنها حمقة تورث ضغينة. وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إياك والمزاح؛ فإنه يذهب ببهاء الوجه ويحطّ من المروءة. قال شاعر:
اكره لنفسك ما لغيرك تكره
…
وافعل لنفسك فعل من يتنزّه
وارفع بصمتك عنك سبّات الورى
…
خوف الجواب فإنه بك أشبه
ودع الفكاهة بالمزاح فإنها
…
تودى وتسقط من بها يتفكّه
وقيل:
ألا ربّ قول قد جرى من ممازح
…
فساق اليه الموت في طرف الحبل
فإنّ مزاح المرء في غير حينه
…
دليل على فرط الحماقة والجهل
وقيل:
فإياك إيّاك المزاح فإنه
…
يجرّى عليك الطفل والرجل النّذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه
…
ويورث بعد العزّ صاحبه ذلّا
وقال بعض البلغاء: المزاح خرف، والاقتصاد فيه ظرف، والإفراط فيه ندامة.
وقالوا: من كثر مزحه لم يسلم من استخفاف به أو حقد عليه. ويقال: أكثر أسباب القطيعة المزاح. وإن كان لا غنى للنفس عنه للجمام «1» ، فليكن بمقدار الملح فى الطعام. قال أبو الفتح البستىّ رحمه الله:
أفد طبعك المكدود بالهمّ راحة
…
تراح وعلّله بشىء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
…
بمقدار ما يعطى الطعام من الملح