الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول لابنته: يا بنية، إذا أنا مت فلا تندبينى، والناس يسمعونك، وتقولين: وا أبتاه، أندبك للصوم والصلاة، للفقه والقرآن، فيكذّب الناس ويلعنوننى. ثم التفت فرأى المرأة، فغطّى وجهه بكمه وقال لها: يا فلانة، بالله إن كنت استحسنت شيئا مما أنا فيه، فصلى على النبىّ صلى الله عليه وسلم ولا تهلكينى؛ فغضبت المرأة وقالت:
سخنت عينك! وفي أى شىء أنت مما يستحسن؟ أنت في آخر رمق! قال: قد علمت، ولكن قلت لئلا «1» تكونى قد استحسنت خفة الموت علىّ وسهولة النزع، فيشتدّ ما أنا فيه. فخرجت من عنده وهى تسبّه، وضحك من كان حوله من كلامه ومات.
ذكر شىء من نوادر أبى دلامة
هو أبو دلامة زند بن الجون. وزند بالنون. وهو كوفىّ، أسود، مولى لبنى أسد؛ كان أبوه عبدا لرجل منهم يقال له قصاقص، فأعتقه. وأدرك آخر زمن بنى أمية ولم يكن له نباهة في أيامهم، ونبغ في أيام بنى العباس، فانقطع الى أبى العباس السفّاح وأبى جعفر المنصور والمهدىّ، وكانوا يقدّمونه ويفضّلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره.
قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كان أبو دلامة ردىء المذهب، مرتكبا للمحارم، مضيّعا للفروض، متجاهرا بذلك؛ وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محلّه. وله أخبار وأشعار ليس هذا موضع ذكرها، وإنما نثبت في هذا الموضع ما له من نادرة أو حكاية مستظرفة. فمن ذلك أنه دخل على أبى جعفر المنصور، وكان المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد والقلانس الطوال، تدعم «2» بعيدان من
داخلها، وأن يعلّقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم:(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
. فلما دخل عليه أبو دلامة في هذا الزىّ قال له المنصور:
ما حالك؟ قال: شرّ حال يا أمير المؤمنين، وجهى في نصفى، وسيفى في استى، وقد صبغت بالسواد ثيابى ونبذت كتاب الله وراء ظهرى؛ ثم أنشد:
وكنا نرجى منحة من إمامنا
…
فجاءت بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها
…
دنان «1» يهود جلّلت بالبرانس
فضحك منه المنصور وأعفاه وحذّره من ذلك، وقال: إياك أن يسمع هذا منك أحد.
وحكى عنه: أنه كان واقفا بين يدى السفاح أو المنصور، فقال له: سلنى حاجتك؛ فقال أبو دلامة: كلب صيد؛ قال: أعطوه إياه. قال: ودابّة أتصيّد عليها. قال: أعطوه. قال: وغلام يقود الكلب ويتصيّد به؛ قال: أعطوه غلاما.
قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال «2» فلا بدّ لهم من دار يسكنونها؛ قال: أعطوه دارا تجمعهم.
قال: فإن لم يكن ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك مائة جريب»
عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: مالا نبات فيه. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافى بنى أسد. فضحك وقال:
اجعلوا المائتين كلها عامرة. قال: فأذن لى أن أقبّل يدك؛ قال: أمّا هذه فدعها، فإنى لا أفعل. قال: والله ما منعت عيالى شيئا أقلّ عليهم ضررا منها.
وروى: أنه دخل على المنصور فأنشده قصيدته التى يقول فيها:
إنّ الخليط أجدّوا البين فانتجعوا
…
وزوّدوك خبالا بئس ما صنعوا
والله يعلم أن كادت، لبينهم
…
يوم الفراق، حصاة القلب تنصدع
عجبت من صبيتى يوما وأمّهم
…
أمّ الدّلامة لمّا هاجها الجزع
لا بارك الله فيها من منبّهة
…
هبّت تلوم عيالى بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهو الألوان، أوجهنا
…
سود قباح، وفي أسمائنا شنع
إذا تشكّت إلىّ الجوع، قلت لها
…
ما هاج جوعك إلا الرّىّ والشّبع
أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا
…
على الخليفة منه الرىّ والشبع «1»
لا والذى يا أمير المؤمنين قضى
…
لك الخلافة في أسبابها الرّفع
ما زلت أخلصها كسبى فتأكله
…
دونى ودون عيالى ثم تضطجع
شوهاء مشنأة «2» فى بطنها ثجل «3»
…
وفي المفاصل من أوصافها فدع «4»
ذكّرتها بكتاب الله حرمتنا
…
ولم تكن بكتاب الله ترتجع
فاخر نطمت «5» ثم قالت وهى مغضبة «6»
…
أأنت تتلو كتاب الله يا لكع!
أخرج تبغّ لنا مالا ومزرعة
…
كما لجيراننا مال ومزدرع
واخدع خليفتنا عنّا بمسألة
…
إنّ الخليفة للسّؤال ينخدع
قال: فضحك أبو جعفر وقال: أرضوها عنه بمائتى جريب عامرة- ويروى ستمائة جريب عامرة وغامرة- فقال: أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنّجف، وإن شئت زدتك. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة.
قال: ولما توفّى السفّاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزّونه، فقال:
أمسيت بالأنبار يابن محمد
…
لم تستطع عن عقرها تحويلا
وبلى عليك وويل أهلى كلّهم
…
ويلا وعولا في الحياة طويلا
فلتبكينّ لك السماء بعبرة
…
ولتبكينّ لك الرجال عويلا
مات الندى إذ متّ يابن محمد
…
فجعلته لك في التراب عديلا
إنى سألت الناس بعدك كلّهم
…
فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتى أخّرت بعدك للتى
…
تدع العزيز من الرجال ذليلا؟
فلأحلفنّ يمين حقّ برّه
…
تالله ما أعطيت بعدك سولا
قال: فأبكى الناس قوله: فغضب المنصور غضبا شديدا وقال: إن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعنّ لسانك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ أبا العباس أمير المؤمنين كان لى مكرما، وهو الذى جاء بى من البدو، كما جاء الله بإخوة يوسف اليه؛ فقل كما قال يوسف:(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
. فسرّى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لى بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ قال: هؤلاء (وأشار الى جماعة ممن حضر) فوثب سليمان ابن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبى
أيّوب الخازن [وهو مغيظ «1» ] : يا سليمان ادفعها اليه وسيّره الى هذا الطاغية (يعنى عبد الله بن علىّ، وكان قد خرج بالشام وأظهر الخلاف) فوثب أبو دلامة وقال:
يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن أخرج معهم، وو الله إنى مشئوم. قال المنصور:
امض فإن يمنى يغلب شؤمك. فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما أحبّ أن يجرّب ذلك منّى على مثل هذا العسكر، فإنى لا أدرى أيّهما يغلب: يمنك أو شؤمى؛ إلّا أنى بنفسى أوثق وأعرف وأطول تجربة. فقال: دعنى وهذا، فمالك من الخروج بدّ.
قال: فإنى أصدقك الان، شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت، وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك تمام العشرين فافعل. فضحك المنصور وأمره أن يتخلّف مع عيسى بن موسى بالكوفة.
وعن جعفر بن حسين اللهبىّ قال: حدثنى أبو دلامة قال: أتى بى المنصور او المهدىّ وأنا سكران، فحلف ليخرجنّى في بعث حرب؛ فأخرجنى مع روح بن حاتم المهلّبىّ لقتال الشّراة «2» . فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أنّ تحتى فرسك ومعى سلاحك لأثّرت في عدوّك اليوم أثرا ترتضيه! فضحك وقال: والله العظيم لأدفعنّ اليك ذلك ولآخذنّك بالوفاء بشرطك؛ فنزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفع ذلك إلىّ، ودعا بغيره فاستبدل به. فلمّا حصل ذلك في يدى قلت: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت أبياتا فاسمعها. قال: هات، فأنشدته:
إنى استجرتك أن أقدّم في الوغى
…
لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة
…
وتركتها ومضيت في الهرّاب
ماذا تقول لما يجىء ولا يرى
…
من بادرات الموت بالنّشّاب
فقال: دع هذا عنك، وبرز رجل من الخوارج يدعو الى المبارزة فقال:
اخرج اليه يا أبا دلامة. فقال: أنشدك الله أيها الأمير في دمى. فقال: والله لتخرجنّ! فقلت: أيها الأمير، فإنه أوّل يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما تنبعث منى جارحة من الجوع، فمر لى بشىء آكله ثم أخرج؛ فأمر لى برغيفين ودجاجة؛ فأخذت ذلك وبرزت عن الصفّ. فلما رآنى الشارى أقبل نحوى وعليه فرو قد أصابه المطر فابتلّ، وأصابته الشمس فاقفعلّ «1» وعيناه تقدان، فأسرع إلىّ؛ فقلت: على رسلك يا هذا! فوقف؛ فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟
قال لا. قلت: أنستحلّ أن تقتل رجلا على دينك؟ قال لا. قلت: أفتستحلّ ذلك قبل أن تدعو من تقاتله الى دينك؟ قال: لا، فاذهب عنى الى لعنة الله، فقلت: لا أفعل أو تسمع منى. قال: قل. فقلت: هل كانت بيننا عداوة أو ترة أو تعرفنى بحال تحفظك علىّ أو تعلم بينى وبين أهلك وترا؟ قال: لا والله؛ قلت:
ولا أنا والله لك إلا على جميل [الرأى «2» ]، فإنى لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أرادك. فقال: يا هذا، جزاك الله خيرا فانصرف. قلت: إنّ معى زادا أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتوكّد المودّة بيننا ويرى أهل العسكرين هوانهم علينا؛ قال: فافعل. فتقدّمت اليه حتى اختلفت أعناق دوابّنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودّعنى، ثم قلت له:
إنّ هذا الجاهل، إن أقمت على طلب المبارزة ندبنى اليك فتتعب وتتعبنى، فإن رأيت ألّا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت؛ فانصرف وانصرفت. فقلت لروح:
أمّا أنا فقد كفيتك قرنى، فقل لغيرى يكفيك قرنه كما كفيتك. وخرج آخر يدعو الى البراز؛ فقال لى: اخرج اليه، فقلت:
إنى أعوذ بروح أن يقدّمنى
…
الى القتال فتخزى بى بنو أسد
إن البراز الى الأقران أعلمه
…
مما يفرّق بين الرّوح والجسد
قد حالفتك المنايا إذ رصدت لها
…
وأصبحت لجميع الخلق كالرّصد
إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم
…
فما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أنّ لى مهجة أخرى لجدت بها
…
لكنها خلقت فردا فلم أجد
قال: فضحك روح وأعفانى.
قال: وشرب أبو دلامة في بعض الحانات وسكر، فمشى وهو يميل، فلقيه العسس فأخذه؛ فقيل له: من أنت؟ وما دينك؟ فقال:
دينى على دين بنى العبّاس
…
ما ختم الطّين على القرطاس
إذا اصطحبت أربعا بالكاس
…
فقد أدار شربها براسى
فهل بما قلت لكم من باس
فأخذوه وخرقوا ثيابه وساجه «1» ، وأتى به الى أبى جعفر، فأمر بحبسه مع الدّجاج فى بيت. فلما أفاق جعل ينادى غلامه مرّة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو مع ذلك يسمع صوت الدّجاج وزقاء «2» الديك. فلمّا أكثر قال له السجّان:
ما شأنك؟ قال: ويلك! من أنت؟ وأين أنا؟ قال: أنت في الحبس، وأنا فلان السجّان. قال: ومن حبسنى؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلسانى؟
قال: الحرس. فطلب أن يأتيه بدواة وقرطاس، ففعل فأتاه؛ فكتب الى أبى جعفر المنصور يقول:
أمير المؤمنين فدتك نفسى
…
علام حبستنى وخرقت ساجى
أمن صهباء صافية المزاج
…
كأنّ شعاعها لهب السّراج
وقد طبخت بنار الله حتى
…
لقد صارت من النّطف النّضاج
تهشّ لها القلوب وتشتهيها
…
اذا برزت ترقرق في الزّجاج
أقاد الى السجون بغير جرم
…
كأنى بعض عمّال الخراج!
فلو معهم حبست لكان سهلا
…
ولكنى حبست مع الدجاج
وقد كانت تخبّرنى ذنوبى
…
بأنى من عقابك غير ناج
على أنّى وإن لاقيت شرّا
…
لخيرك بعد ذاك الشرّ راجى
فاستدعاه المنصور وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدّجاج. قال:
فما كنت تصنع؟ قال: أقوقىء «1» معهم الى الصباح؛ فضحك وخلّى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله:
وقد طبخت بنار الله؟ (يعنى الشمس) قال: لا والله، ما عنيت إلا نار الله الموقدة التى تطّلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرّض له.
وروى عن المدائنىّ قال: دخل أبو دلامة على المهدىّ وعنده إسماعيل بن على وعيسى بن موسى والعبّاس بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بنى هاشم؛ فقال له المهدىّ: أنا أعطى الله عهدا إن لم تهج واحدا ممن في البيت، لأقطعنّ لسانك أو لأضربنّ عنقك. فنظر اليه القوم، وكلما نظر إلى أحد منهم غمزه بأنّ علىّ رضاك. قال أبو دلامة: فعلمت أنى قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أحدا أحقّ بالهجاء منّى ولا أدعى الى السلامة من هجاء نفسى، فقلت:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه
…
فلست من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان «1» قردا
…
وخنزيرا إذا نزع العمامه
جمعت دمامة وجمعت لؤما
…
كذاك اللؤم تتبعه الذمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا
…
فلا تفرح فقد دنت القيامه
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.
قال: وخرج المهدىّ وعلىّ بن سليمان الى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء.
فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، ورمى المهدىّ سهما فأصاب ظبيا، ورمى علىّ بن سليمان فأصاب بعض الكلاب فقتله؛ فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدىّ ظبيا
…
شكّ بالسهم فؤاده
وعلىّ بن سليما
…
ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كلّ
…
امرىء يأكل زاده
فضحك المهدىّ حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية؛ فلقّب علىّ بن سليمان بعد ذلك صائد الكلب، فغلب عليه.
قال: وتوفّيت حمادة بنت عيسى، وحضر المنصور جنازتها؛ فلما وقف على حفرتها قال لأبى دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: ابنة عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنة عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها. فضحك المنصور حتى غلب وستر وجهه.
قال الهيثم بن عدىّ رحمة الله عليه: حجّت الخيزران، فلما خرجت، صاح أبو دلأمة: جعلنى الله فداك، الله الله في أمرى! فقالت: من هذا؟ قالوا: أبو دلامة.
فقالت: سلوه ما أمره؛ قالوا له: ما أمرك؟ قال: أدنونى من محملها؛ قالت أدنوه؛ فأدنى، فقال لها: أيها السيدة، إنى شيخ كبير وأجرك فيّ عظيم. قالت:
فمه! قال: تهبينى جارية من جواريك تؤنسنى، وترفق بى وتريحنى من عجوز عندى؛ قد أكلت رفدى، وأطالت كدّى؛ فقد عاف جلدى جلدها، وتشوّقت فقدها.
فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلمّا رجعت تلقاها وأذكرها وخرج معها الى بغداد، فأقام حتى غرض «1» . ثم دخل على أمّ عبيدة حاضنة موسى وهارون فدفع اليها رفعة قد كتب بها الى الخيزران، فيها:
أبلغى سيّدتى بالله
…
يا أمّ عبيده
أنّها أرشدها الله
…
وإن كانت رشيده
وعدتنى قبل أن تخرج
…
للحج وليده
فتأنّيت وأرسلت
…
بعشرين قصيده
كلما أخلقن أخلفت
…
لها أخرى جديده
ليس في بيتى لتمهيد
…
فراشى من قعيده
غير عجفاء عجوز
…
ساقها مثل القديده
وجهها أقبح من حو
…
ت طرىّ في عصيده
ما حياة مع أنثى
…
مثل عرسى بسعيده
فلما قرئت عليها، ضحكت ودعت بجارية من جواريها فائقة الجمال، فقالت لها:
خذى كل مالك في قصرى، ففعلت؛ ثم دعت بعض الخدم وقالت له: سلّمها الى أبى دلامة. فانطلق الخادم بها فلم يصادفه في منزله؛ فقال لامرأته: اذا رجع أبو دلامة فادفعيها اليه وقولى له: تقول لك السيدة: أحسن صحبة هذه الجارية فقد أمرت لك بها. فقالت له نعم. فلما خرج الخادم دخل ابنها دلامة فوجد أمّه تبكى؛ فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت أن تبرّنى يوما من الأيام فاليوم.
قال: قولى ما شئت فإنى أفعله. قالت: تدخل عليها فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرّمها عليه وإلا ذهبت بعقله فجفانى وجفاك، ففعل ودخل الى الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه، وخرج. فدخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية؟ قالت:
فى ذلك البيت، فدخل اليها شيخ محطّم ذاهب، فمدّ يده اليها وذهب ليقبّلها؛ فقالت:
مالك ويحك! تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيّدة؟ قالت: إنها بعثت بى الى فتى من هيئته وحاله كيت وكيت، وقد كان عندى آنفا ونال منى حاجته. فعلم أنه قد دهى من أمّ دلامة وابنها. فخرج أبو دلامة الى دلامة فلطمه ولبّبه «1» وحلف ألّا يفارقه إلا الى المهدىّ. فمضى به ملببّا «2» حتى وقف بباب المهدىّ، فعرّف خبره؛ وأنه جاء بابنه على تلك الحال. فأمر بإدخاله فلما دخل قال: مالك؟ قال: فعل بى هذا ابن الخبيثة ما لم يفعله ولد بأبيه، ولا يرضينى إلا أن تقتله. قال: ويحك! وما فعل بك؟ فأخبره الخبر؛ فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال له أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟! فقال: علىّ بالسيف والنّطع. فقال له دلامة: قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين، فاسمع حجّتى. قال:
هات! قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، هو يفعل بأمّى منذ أربعين سنة ما غضبت، وفعلت أنا بجاريته مرّة واحدة غضب وصنع بى ما ترى. فضحك المهدىّ أشدّ من ضحكه الأوّل، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة، وأنا أعطيك خيرا منها؛ قال: على أن تخبأها لى بين السماء والأرض وإلا فعل بها والله كما فعل بهذه؛ فتقدّم إلى دلامة ألّا يعاود مثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ثم وهب له جارية.
قال عبد الله بن صالح رحمه الله: جاء ابن أبى دلامة يوما الى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إنّ شيخى كما ترون قد كبر سنّه ورقّ جلده ودقّ عظمه، وبنا الى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشىء يمسك رمقه ويبقى قوّته فيخالفنى فيه، وإنى أسألكم أنّ تسألوه قضاء حاجة لى أذكرها بحضرتكم فيها صلاح جسمه وبقاء حياته، فأسعفونى بمسألته معى.
فقالوا: نفعل حبّا وكرامة؛ ثم أقبلوا على أبى دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حتى رضى ابنه وهو ساكت، قال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببليّة.
فقالوا له: قل؛ فقال: إن أبى إنما قتله كثرة الجماع، فتعاونونى حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء فيكون أصحّ لجسمه وأطول لعمره. فعجبوا بما أتى به وضحكوا. ثم قالوا لأبى دلامة: قد سمعت فأجب. قال: قد سمعتم أنتم فعرّفتكم أنه لم يأت بخير. قالوا: فما عندك في هذا؟ قال: قد جعلت أمّه حكما فيما بينى وبينه، فقوموا بنا اليها. فقاموا بأجمعهم ودخلوا اليها، وقصّ أبو دلامة القصة عليها وقال: قد حكّمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابنى هذا أبقاه الله قد نصح أباه ولم يأل جهدا، وما أنا إلى «1» بقاء أبيه أحوج منى الى بقائه، وهذا أمر لم يقع به تجربة منّا ولا جرى بمثله عادة لنا؛ وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فاذا عوفى ورأينا ذلك قد أثّر عليه أثرا محمودا استعمله أبوه. فضحك أبوه والقوم وانصرفوا يعجبون من خبثهم جميعا.
ومنهم أبو صدقة.