الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا هند إنك لو علم
…
ت بعاذلين تتابعا
قال: فبدرت من بينهم فقبّلت عينيه، فتهافت القوم عليه يقبّلونه، ولقد رأيتنى وأنا أرفعهم عنه شفقة عليه.
وكانت وفاة ابن سريج بالعلّة التى أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان ابن عبد الملك أو في خلافة الوليد، ودفن في موضع يقال له «دسم «1» » . رحمة الله عليه وعفا عنه وغفر له. والحمد لله ربّ العالمين.
حكى أنه لما احتضر نظر إلى ابنته نبكى فبكى وقال: إنه من أكبر همّى أنت وأخشى أن تضيعى بعدى. فقالت: لا تخف فما غنّيت شيئا إلا وأنا أغنّيه.
فقال: هاتى، فاندفعت فغنّت وهو مصغ إليها. فقال: قد أصبت ما في نفسى وهوّنت علىّ أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلى فزوّجه إيّاها؛ فأخذ أكثر غناء أبيها وانتحله.
ذكر أخبار معبد
هو معبد بن وهب، وقيل: ابن قطنىّ مولى ابن قطن؛ وقيل: إن قطنا مولى العاص بن واقصة «2» المخزومىّ، وقيل: مولى معاوية بن أبى سفيان. غنّى معبد فى أيام بنى أميّة في أوائلها، ومات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق.
قال أبو الفرج الأصفهانى:
إنه لمّا مات خرجت سلامة جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك وأخذت بعمود السرير والناس ينظرون إليها وهى تندبه وتقول شعر الأحوص:
قد لعمرى بتّ ليلى
…
كأخى الداء الوجيع
ونجىّ الهمّ منّى
…
بات أدنى من نجيعى
كلما أبصرت ربعا
…
خاليا فاضت دموعى
قد خلا من سيّد كا
…
ن لنا غير مضيع
لا تلمنا إن خشعنا
…
أو هممنا بخشوع
وكان معبد قد علّمها هذا الصوت فندبته به. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ:
كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقا «1» ؛ وهو إمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثر ونشيط الفارسىّ مولى عبد الله بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز (بطن من بنى سليم) . وفي معبد يقول الشاعر:
أجاد طويس والسّريجىّ بعده
…
وما قصبات السّبق إلا لمعبد
وحكى أبو الفرج أيضا:
أن الوليد بن يزيد اشتاق إلى معبد، فوجّه اليه البريد إلى المدينة فأحضره. فلما بلغ الوليد قدومه أمر ببركة ملئت ماء ورد وخلط بمسك وزعفران، ثم جلس الوليد على حافة البركة وفرش لمعبد مقابله وضرب بينهما ستر ليس معهما ثالث. وجىء بمعبد فقيل له: سلّم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلّم فردّ عليه من خلف السّجف، ثم قال له: أتدرى لم وجّهت إليك؟ قال: والله أعلم وأمير المؤمنين.
قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. فقال له معبد: أأغنّى ما حضر أو ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: [بل «2» ] غنّ:
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم
…
حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء
فغنّاه. فرفع الجوارى السّجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها، ثم خرج منها، فاستقبله الجوارى بثياب غير الثياب التى كانت عليه، ثم شرب وسقى معبدا ثم قال له: غنّنى يا معبد:
يا ربع مالك لا تجيب متيّما
…
قد عاج نحوك زائرا ومسلّما
جادتك كلّ سحابة هطّالة
…
حتى ترى عن زهرة «1» متبسّما
لو كنت تدرى من دعاك أجبته
…
وبكيت من حرق عليه إذا دما
قال: فغنّاه. وأقبل الجوارى فرفعن السّتر، وخرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثيابا غير تلك الثياب، ثم شرب وسقى معبدا وقال له:
غنّنى يا معبد:
عجبت لمّا رأتنى
…
أندب الربع المحيلا
واقفا في الدار أبكى
…
لا أرى إلّا الطلولا
كيف تبكى لأناس
…
لا يملّون الذّميلا «2»
كلما قلت اطمأنت
…
دارهم جدّوا «3» الرحيلا
قال: فلما غنّاه ألقى نفسه في البركة ثم خرج فردّوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد حظوة عند الملوك فليكتم أسرارهم. فقال:
ذلك ممّا لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائى به. فقال الوليد: يا غلام احمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصّل «4» له في بلده وألفى دينار لنفقة طريقه؛ فحملت إليه كلّها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة. وقد قيل: إنه أعطاه في ذلك المجلس خمسة عشر ألف دينار.
وقال أبو الفرج بسند رفعه:
إن معبدا كان قد علّم جارية من جوارى الحجاز الغناء تدعى «طيبة «1» » وعنى بتخريجها؛ فاشتراها رجل من أهل العراق وأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها وذهبت به كلّ مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان؛ فأخذ جواريه أكثر غنائها عنها.
فكان لمحبّته إيّاها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقرّه، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر الأغانى من أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه وبلغ معبدا خبره. فخرج من مكة حتى أتى البصرة؛ فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك الوقت واليوم إلى الأهواز. فجاء معبد في طلب سفينة تحمله إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، فركب فيها وكلاهما لا يعرف الآخر؛ وانحدرت السفينة. فلما صاروا بفهم نهر الأبلّة «2» ، أمر الرجل جواريه بالغناء فغنّين، إلى أن غنّت إحداهنّ صوتا من غناء معبد فلم تجد أداءه؛ فصاح بها معبد:
يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو! ألا تمسك «3» وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنّت أصواتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلّم حتى غنّت من غنائه فأخلّت ببعضه؛ فقال لها معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا كثيرا. فغضب الرجل وقال له:
ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك معبد. وغنّى الجوارى
مليّا؛ ثم غنّت إحداهنّ صوتا من غنائه فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد:
يا هذه، أما تقومين «1» على أداء صوت واحد! فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة! فأقسم بالله إن عاودت لأخرجنّك من السفينة.
فأمسك معبد، حتى سكتت الجوارى سكتة، فاندفع يغنّى الصوت الأوّل حتى فرغ منه. فصاح الجوارى: أحسنت والله يا رجل، فأعده. قال: لا والله ولا كرامة.
ثم اندفع يغنّى الثانى؛ فقلن لسيّدهن: ويحك! هذا والله أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا ولو مرّة واحدة لعلنا نأخذه منه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا.
قال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكنّ وأنا خائف مثله منه، وقد استقبلناه بالإساءة، فاصبرن حتى نداريه. قال: ثم غنّى الثالث فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فقبّل رأسه، وقال: يا سيّدى أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: وهبك لم تعرف موضعى، قد كان ينبغى لك أن تتثبّت ولا تسرع إلى سوء العشرة وجفاء القول.
فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه، وكان معبد قد أجلس في مؤخّر السفينة. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ قال: أخذنه من جارية كانت لى، كانت قد أخذت الغناء عن أبى عبّاد معبد وكانت تحلّ منى مكان الروح من الجسد، ثم استأثر الله بها وبقى هؤلاء الجوارى وهنّ [من «2» ] تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصّب لمعبد وأفضّله على المغنّين جميعا، وأفضّل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: وإنك لأنت هو! أفتعرفنى؟ قال لا.
قال: فصكّ معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا «3» والله معبد وإليك قدمت من الحجاز ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، وو الله لا قصّرت في جواريك