الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنت ضيف ولك حقّ فتشفّع في حقّى إلى مولاى فإنه مكرم لضيفه فلا يردّ شفاعتك فعساه يحلّ القيد عنّى. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفّع فى هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرنى وأهلك جميع مالى؛ فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتا طيّبا، وإنى كنت اعيش من ظهور هذه الجمال فحمّلها أحمالا ثقالا وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاث ليال في ليلة من طيب نغمته فلما حطّت أحمالها موّتت كلّها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفى فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهى، فما أظنّ أنى قط سمعت صوتا أطيب منه.
قال: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحرّكه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على سائر البهائم فإن جميعها تتأثّر بالنغمات الموزونة. ومهما كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب.
قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرّك ما هو فيه.
ذكر أقسام السماع وبواعثه
وأقسام السماع تختلف بآختلاف الأحوال: فإن منه ما هو مستحبّ وما هو مباح وما هو مكروه وما هو حرام. أما المستحبّ فهو لمن غلب عليه حبّ الله تعالى ولم يحرّك السماع منه إلا الصفات المحمودة. وأما المباح فهو لمن لا حظّ له من السماع إلا التلذّذ بالصوت الحسن، وأما المكروه فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين
ولكن يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو. وأما الحرام فهو لأكثر الناس من الشباب ومن غلبت عليه شهوة الدنيا فلا يحرّك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة. وقد تكلم على هذه الأقسام الإمام أبو حامد الغزالىّ فقال رحمه الله ما مختصره ومعناه:
الكلمات المسجعة الموزونة تعتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار فى القلب وهى سبعة مواضع:
الأوّل: غناء الحجيج فإنهم يدورون أوّلا في البلاد بالطبل والغناء وذلك مباح لما فيه من التشويق إلى الحجّ وأداء الفريضة وشهود المشاعر.
الثانى: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وهو مباح أيضا لما فيه من استثارة النفس وتحريكها على الغزو وإثارة الغضب على الكفّار وتحسين الشجاعة وتقبيح الفرار.
الثالث: ما يرتجزه الشّجعان عند اللقاء في الحرب وهو مباح ومندوب لما فيه من تشجيع النفس وتحريك النشاط للقتال والتمدّح بالشجاعة والنجدة وقد فعله غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم علىّ بن أبى طالب وخالد بن الوليد وغيرهما.
الرابع: أصوات النّياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج البكاء وملازمة الحزن والكآبة وهذا قسمان: محمود ومذموم.
فأمّا المذموم فالحزن على ما فات. قال الله تبارك وتعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ)
. والحزن على الأموات من هذا القبيل فإنه يغضب الله جل جلاله «1» وتأسّف على ما لا تدارك فيه.
وأمّا المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه.
والبكاء والتباكى والحزن والتحازن على ذلك محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك.
ولذلك كانت نياحة داود عليه السلام محمودة، فقد كان يحزن ويحزن ويبكى ويبكى حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه، وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيّب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرقّقة للقلب ولا أن يبكى ويتباكى ليتوصّل به الى بكاء غيره وإثارة حزنه.
الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيدا للسرور وتهييجا له إن كان ذلك السرور مباحا كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب ووقت الوليمة والعقيقة وعند الولادة والختان وعند حفظ القرآن، وكل ذلك معتاد لأجل إظهار السرور. قال: ووجه جوازه أنّ من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب وكل ما جاز السرور به جاز إثارة السرور فيه، ويدلّ على هذا إنشادهم بالدفّ والألحان عند مقدم النبىّ صلى الله عليه وسلم يقولون:
طلع البدر علينا
…
من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داعى
فإظهار هذا السرور بالنغمات والشعر والرقص والحركات محمود. فقد نقل عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم كما سيأتى في أحكام الرقص وهو جائز في قدوم كل غائب وكل ما يجوز الفرح به شرعا. ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام.
السادس: سماع العشّاق تحريكا للشوق وتهييجا للعشق وتسلية للنفس؛ فإن كان في حال مشاهدة المعشوق فالغرض تأكيد اللذّة، وإن كان مع المفارقة فالغرض
تهييج الشوق. والشوق وإن كان مؤلما ففيه نوع لذّة إذا انضاف اليه رجاء الوصال؛ فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوّة لذّة الرجاء بحسب قوّة الشوق والحبّ للشىء المرجوّ، ففى هذا السماع تهييج للعشق وتحريك للشوق وتحصيل للذة الرجاء المقدّر في الوصال مع الإطناب في وصف حسن المحبوب. قال:
وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سرّيته فيصغى إلى غنائها لتتضاعف لذّته في لقائها، فيحظى بالمشاهدة البصر وبالسماع الأذن ويفهم لطائف معانى الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذّة.
فهذا نوع تمتّع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها، وما متاع الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وهذا منه. وكذلك إن غصبت منه جارية أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب فله أن يحرّك بالسماع شوقه وأن يستثير به لذّة رجاء الوصال. فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصل واللقاء.
وأما من يتمثّل في نفسه صورة صبىّ أو امرأة لا يجوز له النظر إليها وكان ينزّل ما يسمع على ما يتمثّل في نفسه فهو حرام لأنه محرّك للفكر في الأفعال المحظورة ومهيّج للداعية إلى مالا يباح الوصول إليه لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. وقد سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: دخان يصعد الى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيّجه السماع.
السابع: سماع من أحبّ الله سبحانه وتعالى وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شىء إلّا رآه فيه، ولا يقرع سمعه قارع إلّا سمعه منه أو فيه؛ فالسماع في حقه مهيّج لشوقه، ومؤكّد لعشقه وحبّه، ومور زناد قلبه، ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كلّ حسّه عن ذواقها؛ وتسمّى تلك الأحوال بلسان الصوفيّة وجدا- مأخوذ من الوجود- وللصوفية على هذا كلام يطول شرحه ليس هذا موضع إيراده. والله أعلم.