المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر أخبار الغريض وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٤

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و

- ‌الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح)

- ‌ذكر مزاحات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌ذكر شىء من مجون الأعراب

- ‌ذكر شىء من نوادر القضاة

- ‌ذكر شىء من نوادر النّحاة

- ‌ذكر شىء من نوادر المتنبئين

- ‌ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى

- ‌ذكر شىء من نوادر النبيذيّين

- ‌ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى

- ‌ذكر شىء من نوادر العميان

- ‌ذكر شىء من نوادر السؤّال

- ‌ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون

- ‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى دلامة

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى صدقة

- ‌ذكر شىء من نوادر الأقيشر

- ‌ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة

- ‌ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل

- ‌ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه

- ‌ذكر ما ورد في كراهة المزح

- ‌ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه

- ‌الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر

- ‌ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها

- ‌وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة

- ‌ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ

- ‌ذكر آفات الخمر وجناياتها

- ‌ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب

- ‌ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها

- ‌ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها

- ‌فأما من حدّ فيها من الأشراف

- ‌وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء

- ‌منهم: يزيد بن معاوية

- ‌ومنهم: عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌ومنهم: المأمون بن الرشيد

- ‌ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس

- ‌ومنهم: بلال بن أبى بردة

- ‌ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفىّ

- ‌ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز

- ‌ومنهم: حارثة بن زيد العدوانىّ

- ‌ومنهم: والبة بن الحباب الأسدىّ

- ‌ومنهم: أبو الهندىّ

- ‌ومنهم: سعيد بن وهب

- ‌ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم

- ‌ومنهم: يحيى بن زياد

- ‌ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء

- ‌ومنهم: الثّروانىّ

- ‌ومنهم: مطيع بن إياس

- ‌ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ

- ‌ومنهم: أبو هفّان

- ‌ومنهم: الأقيشر

- ‌ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة

- ‌ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة

- ‌وأما من افتخر بشربها وسبائها

- ‌ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر

- ‌فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى

- ‌ومما قيل في وصفها وتشبيهها

- ‌وأما ما قيل في أفعالها

- ‌وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه

- ‌ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء

- ‌ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها

- ‌ومما وصفت به مجالس الشرب

- ‌ومما قيل في طىّ مجالس الشراب

- ‌ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها

- ‌ومما قيل في الراووق

- ‌ومما وصفت به زقاق الخمر

- ‌ومما وصفت به الأباريق

- ‌ومما وصفت به الكاسات والأقداح

- ‌الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة

- ‌[ومما قيل في الندمان]

- ‌ومما قيل في السّقاة

- ‌الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع

- ‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة

- ‌أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك

- ‌أما دليلهم من الكتاب العزيز

- ‌وأمّا دليلهم من السنّة

- ‌وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى

- ‌ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة

- ‌ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية

- ‌وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ

- ‌وأمّا ما ورد في اليراع

- ‌وأمّا ما ورد في القصب والأوتار

- ‌وأما ما ورد في المزامير والملاهى

- ‌ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع

- ‌ذكر أقسام السماع وبواعثه

- ‌ذكر العوارض التى يحرم معها السماع

- ‌العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها

- ‌العارض الثانى في الآلة

- ‌العارض الثالث في نظم الصوت

- ‌العارض الرابع في المستمع

- ‌العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله

- ‌ذكر آثار السماع وآدابه

- ‌المقام الأوّل- فى الفهم

- ‌إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع

- ‌الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة

- ‌الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى

- ‌الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات

- ‌المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد

- ‌المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ

- ‌قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل:

- ‌الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان

- ‌الثانى- وهو نظر للحاضرين

- ‌الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل

- ‌الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه

- ‌الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام

- ‌وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد

- ‌ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه

- ‌[أما من غنّى من الخلفاء]

- ‌منهم عمر بن عبد العزيز

- ‌وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله

- ‌ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر

- ‌ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل

- ‌ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله

- ‌وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ

- ‌فمنهم إبراهيم بن المهدىّ

- ‌وأمّا عليّة بنت المهدىّ

- ‌ومنهم أبو عيسى بن الرشيد

- ‌ومنهم عبد الله بن موسى الهادى

- ‌ومنهم عبد الله بن محمد الأمين

- ‌ومنهم أبو عيسى بن المتوكل

- ‌ومنهم عبد الله بن المعتز

- ‌ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله

- ‌عبد العزيز بن المطلب

- ‌ومنهم ابراهيم بن سعد

- ‌ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما

- ‌ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء

- ‌منهم أبو دلف العجلىّ

- ‌ومنهم أخوه معقل بن عيسى

- ‌ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله

- ‌فأمّا عبد الله

- ‌وأمّا عبيد الله

- ‌ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

- ‌ذكر أخبار سعيد بن مسجح

- ‌ذكر أخبار سائب خاثر

- ‌ذكر أخبار طويس

- ‌ذكر أخبار معبد

- ‌ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

- ‌ذكر أخبار محمد بن عائشة

- ‌ذكر أخبار ابن محرز

- ‌ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح

- ‌ذكر أخبار يونس الكاتب

- ‌ذكر أخبار حنين

- ‌ذكر أخبار سياط

- ‌ذكر أخبار الأبجر

- ‌ذكر أخبار أبى زيد الدّلال

- ‌ذكر أخبار عطرّد

- ‌ذكر أخبار عمر الوادىّ

- ‌ذكر أخبار حكم الوادىّ

- ‌ذكر أخبار ابن جامع

- ‌ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات

- ‌ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق

- ‌ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ

- ‌ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين

- ‌ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة

- ‌ذكر أخبار يزيد حوراء

- ‌ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء

- ‌ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه

- ‌ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى:

الفصل: ‌ذكر أخبار الغريض وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

هؤلاء ولأجعلنّ لك في كل واحدة خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل والجوارى على يده ورجليه يقبّلونها ويقولون: كتمتنا نفسك حتى جفوناك في المخاطبة وأسأنا عشرتك وأنت سيّدنا ومن تتمنّى أن تلقاه. ثم غيّر الرجل أثواب معبد وخلع عليه عدّة خلع وأعطاه في ذلك الوقت ثلاثمائة دينار وطيّبا وهدايا مثلها، وانحدر معه إلى الأهواز فأقام عنده حتى رضى حذق جواريه، ثم ودّعه وانصرف إلى الحجاز.

‌ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

هو عبد الملك، وكنيته أبو زيد «1» ، وقيل: أبو مروان. والغريض لقب لقّب به؛ لأنه [كان «2» ] طرىّ الوجه نضرا غضّ الشباب حسن المنظر، فلقّب بذلك.

والغريض: الطّرىّ من كل شىء. وقال ابن الكلبى: شبّه بالإغريض وهو الجمّار ثم ثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف فقيل: الغريض. وهو من مولّدى البربر.

وولاؤه للثريّا (صاحبة عمر بن أبى ربيعة) وأخواتها الرّضيّا وقريبة وأم عثمان بنات علىّ بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر. قالوا: وكان يضرب بالعود وينقر بالدّفّ ويوقع بالقضيب. وكان قبل الغناء خيّاطا. وأخذ الغناء في أوّل أمره عن عبيد بن سريج، لأنه كان قد خدمه؛ فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشى أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه ويفوقه بحسن وجهه، وحسده، فاعتلّ عليه وشكاه الى مولياته، وكنّ دفعنه اليه ليعلّمه الغناء، وجعل يتجنّى عليه ثم طرده.

فعرّف مولياته غرض ابن سريج فيه وأنه حسده؛ فقلن له: هل لك أن تسمع

ص: 267

نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال نعم. فأسمعنه المراثى فآحتذاها وخرّج غناءه عليها. وكان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. فلما كثر غناؤه عدل الناس إليه لما كان فيه من الشّجا «1» ؛ فكان ابن سريج لا يغنّى صوتا إلا عارضه فيه فيغنّى فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج موقع الغريض اشتدّ عليه وحسده، فغنّى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس. فقال له الغريض: يا أبا يحيى قصّرت الغناء وحذفته. قال: نعم يا مخنّث حين جعلت تنوح على أبيك وأمّك. قال: ولم يفضّل ابن سريج عليه إلا بالسّبق، وأما غير ذلك فلا.

وقال بعضهم: كان الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة. وحكى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى أيّوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال:

حدّثنى بعض مولياتى وقد ذكرن الغريض فترحّمن عليه وقلن: جاءنا يوما فحدّثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفناه بعد ذلك حقيقة. قالت: وكان ابن سريج بجوارنا فدفعناه إليه ولقّن الغناء، وكان من أحسن الناس صوتا، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته. فلما رأى ذلك ابن سريج نحّاه «2» عنه. فكان بعض مولياته تعلّمه النّياحة فبرّز فيها. فجاءنى يوما فقال: نهتنى الجنّ أن أنوح وأسمعتنى صوتا عجيبا، فقد ابتنيت عليه لحنا فاسمعيه منى، فاندفع فغنّى بصوت عجيب في شعر لمرّار الأسدىّ:

حلفت لها بالله ما بين ذى الغضا

وهضب القنان «3» من عوان ومن بكر

ص: 268

أحبّ إلينا منك دلّا وما نرى

به عند ليلى من ثواب ولا أجر

قالت: فكذّبناه وقلنا: شىء فكّر فيه وأخرجه على هذا الجنس. فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجنّ بترجيع وتقطيع، فقد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه. فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء أهل مكة في جمع لنا سمرنا فيه ليلتنا والغريض يغنّينا بشعر عمر بن أبى ربيعة حيث يقول:

أمن آل زينب جدّ البكور

نعم فلأىّ هواها تصير

إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا وأصواتا ذعرتنا وأفزعتنا. فقال لنا الغريض:

إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته وأصبح أبنى عليه غنائى؛ فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها، فصدّقناه تلك الليلة.

وكانت وفاة الغريض باليمن في خلافة سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز، وكان قد هرب من نافع بن علقمة لمّا ولى مكة من مكة إلى اليمن واستوطنها ومات بها.

وللغريض أخبار مستظرفة وحكايات مستحسنة قد رأينا أن نثبت في هذا الموضع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج الأصبهانىّ في كتابه المترجم بالأغانى في أخبار الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومىّ، بعد أن ساق قطعة من أخباره مع عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وأنه كان يهواها ويشبّب بها في شعره، ثم قال في أثناء ذلك: لمّا قدمت عائشة بنت طلحة مكة أرسل إليها الحارث وهو أمير مكة يومئذ، وكان وليها من قبل عبد الملك بن مروان، فأرسل إليها:

إنى أريد السلام عليك؛ فإذا خفّ ذلك عليك أذنت، وكان الرسول الغريض.

ص: 269

فأرسلت إليه: إنّا حرم، فإذا أحللنا أذنّاك. فلما أحلّت خرجت سرّا على بغلتها، ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ومعه كتاب الحارث إليها، وفيه:

ما ضرّكم لو قلتم سددا

إنّ المطايا عاجل غدها

ولها علينا نعمة سلفت

لسنا على الأيام نجحدها

لو أتممت أسباب نعمتها

تمّت بذلك عندنا يدها

فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله!. ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم فاسمعى، ثم اندفع يغنّى في هذا الشعر. فقالت عائشة: والله ما قلنا «1» إلا سددا ولا أردنا إلا أن نشترى لسانه؛ واستحسنت الشعر، وأمرت للغريض بخمسة آلاف درهم وأثواب، [وقالت «2» ] : زدنى. فغنّى في قول الحارث أيضا حيث يقول:

زعموا بأنّ البين بعد غد

فالقلب ممّا أحدثوا يجف

والعين منذ أجدّ بينهم

مثل الجمان دموعها تكف

نشكو وتشكو ما أشتّ بنا

كلّ بوشك البين معترف

ومقالها ودموعها سجم

أقلل حنينك حين تنصرف

فقالت عائشة: يا غريض، بحقّى عليك أهو أمرك أن تغنّينى في هذا الشعر؟

قال: لا وحياتك يا سيّدتى؛ فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت: غنّنى فى [غير «3» ] شعره؛ فغنّاها بشعر عمر بن أبى ربيعة- وكان عمر قد سأله ذلك- فقال:

أجمعت خلّتى مع الهجر بينا

جلّل الله ذلك الوجه زينا

أجمعت بينها ولم نك منها

لذّة العيش والشباب قضينا

ص: 270

فتولّت حمولها واستقلّت

لم تنل طائلا ولم تقض دينا

ولقد قلت يوم مكّة لمّا

أرسلت تقرأ السلام علينا

أنعم الله بالرسول الذى أر

سل والمرسل الرسالة عينا

قال: فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا وأنعم بابن أبى ربيعة عينا، لقد تلطّفت «1» حتى أدّيت إلينا رسالته، وإنّ وفاءك له لمما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك. وكان عمر سأل الغريض أن يغنّيها بشعره هذا لأنه كان قد ترك ذكرها لمّا غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحبّ التصريح بها وكره إغفال ذكرها. فقال له عمر بن أبى ربيعة: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفّى له، وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم. ثم انصرف الغريض من عندها، فلقى عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان وقد كانت حجّت فى تلك السنة؛ فقال لها جواريها: هذا الغريض. فقالت لهنّ: علىّ به؛ فجئن به إليها. قال الغريض: فلما دخلت سلّمت فردّت علىّ وسألتنى عن الخبر، فقصصته «2» عليها. فقالت: غنّنى بما غنّيتها به، ففعلت؛ فلم أرها تهشّ لذلك؛ فغنيتها معرّضا ومذكّرا بنفسى في شعر مرّة بن محكان السّعدىّ يخاطب امرأته وقد نزل به أضياف:

أقول والضيف مخشىّ ذمامته «3»

على الكريم وحقّ الضيف قد وجبا

يا ربّة البيت قومى غير صاغرة

ضمّى إليك رحال القوم والقربا

فى ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا

ص: 271

فقالت وهى مبتسمة: نعم وقد وجب حقّك يا غريض، فغنّنى؛ فغنّيتها:

يا دهر قد أكثرت فجعتنا «1»

بسراتنا ووقرت «2» فى العظم

وسلبتنا ما لست «3» مخلفه

يا دهر ما أنصفت في الحكم

لو كان لى قرن أناضله

ما طاش عند حفيظة سهمى

لو كان يعطى النّصف «4» قلت له

أحرزت قسمك فاله عن قسمى

فقالت: نعطيك النّصف فلا يضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك، وأمرت له بخمسة آلاف درهم وثياب عدنيّة وغير ذلك من الألطاف. قال الغريض: فأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر وقصصت عليه القصة؛ فأمر لى بمثل ما أمرتا لى جميعا؛ وأتيت ابن أبى ربيعة فأعلمته بما جرى، فأمر لى بمثل ذلك. فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به: نظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة- وهما أجمل نساء عالمهما- وبما أمرتا لى به، والمنزلة عند الحارث- وهو أمير مكة- وابن أبى ربيعة وما أجازانى به جميعا من المال.

ولنصل هذا الفصل بشىء من أخبار عائشة بنت طلحة؛ لأن الشىء بالشىء يذكر.

هى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمّها أمّ كلثوم بنت أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وكانت عائشة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمنى بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلى عليهم فما كنت لأستره، وو الله ما في وصمة يقدر أن يذكرنى بها أحد.

ص: 272

قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بنى تيم، هنّ أشرس خلق الله خلقا وأحظاهنّ عند أزواجهنّ. قال: وآلت عائشة من زوجها مصعب بن الزبير، فقالت: أنت علىّ كظهر أمّى، وقعدت في غرفة وهيّأت ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلّمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرّقيّات فسألها كلامه. فقالت: كيف بيمينى؟ فقال: هاهنا الشّعبىّ فقيه أهل العراق فاستفتيه.

فدخل الشّعبىّ عليها فأخبرته؛ فقال: ليس هذا بشىء؛ فأمرت له بأربعة آلاف درهم.

وحكى أبو الفرج أنّ مصعب بن الزبير لمّا عزم على زواج عائشة بنت طلحة، جاء هو وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق وسعيد بن العاص إلى عزّة الميلاء- وكانت عزّة هذه يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء- فقالوا لها: إنّا خطبنا فانظرى لنا.

فقالت لمصعب: يابن أبى عبد الله، ومن خطبت؟ قال: عائشة بنت طلحة.

قالت: فأنت يابن أبى أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان بن عفّان. قالت:

فأنت يابن الصّدّيق؟ قال: أمّ الهيثم بنت زكريا بن طلحة. فقالت: يا جارية، هاتى منقلىّ (تعنى خفّيها) ، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتك، كنّا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك، فديتك، فألقى ثيابك؛ ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتجّ كلّ شىء منها. فقالت لها عزّة: خذى ثوبك. فقالت عائشة:

قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتى. فقالت عزّة: وما هى؟ فديتك! قالت:

تغنّينى صوتا. فاندفعت تغنّى لحنها في شعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذرىّ:

خليلىّ عوجا بالمحلّة من جمل

وأترابها بين الأصيفر فالحيل

نقف بمغان قد عفا رسمها اليلى

تعاقبها الأيام بالرّيح والوبل

ص: 273

فلو درج النّمل الصغار بجلدها

لأندب أعلى جلدها مدرج النّمل

وأحسن خلق الله جيدا ومقلة

تشبّه [فى النسوان بالشادن الطّفل «1» ]

فقبّلت عائشة ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وطرائف من أنواع الفضّة، فدفعته إلى مولاتها. وأتت النّسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهنّ. ثم أتت القوم فى السقيفة. فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يابن أبى عبد الله، أمّا عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة، محطوطة «2» المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقيّة الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن، ضخمة السّرّة، مسرولة الساق، يرتجّ ما بين أعلاها إلى قدميها؛ وفيها عيبان، أمّا أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخفّ: عظم الأذن والقدم. وكانت عائشة بنت طلحة كذلك. ثم قالت عزّة: وأمّا أنت يابن أبى أحيحة فإنى والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط! ليس فيها عيب والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردّة، وإن استشرتنى أشرت عليك. قال: هات. قالت: عليك بوجه تستأنس به. وأمّا أنت يابن الصدّيق: فو الله ما رأيت مثل أمّ الهيثم، كأنها خوط بانة تنثنى، أو كأنها جانّ يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد طرفيها لفعلت، ولكنها شختة الصدر «3» وأنت عريض الصدر، فاذا كان كذلك كان قبيحا، لا والله حتى يملأ كلّ شىء مثله. قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوّجوهنّ.

وحكى أبو الفرج أيضا: أنّ مصعب بن الزبير إنما تزوّجها بعد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر. وقال: وكانت عائشة بنت طلحة تشبّه بخالتها عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، فزوّجتها عائشة من ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وهو

ص: 274

أوّل من تزوّجها. ولم تلد عائشة بنت طلحة من أحد من أزواجها غيره، ولدت له عمران وبه كانت تكنى «1» ، وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، ولكلّ من هؤلاء عقب. وأنا من عقب طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر من ولده ليث ابن طلحة. وليس هذا موضع سرد نسبى فأسرده.

قال أبو الفرج: وصارمت عائشة بنت طلحة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن وخرجت من داره مغضبة تريد عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. فرآها أبو هريرة فسبّح الله تعالى وقال: كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة قريبا من أربعة أشهر. وكان عبد الله قد آلى منها؛ فأرسلت عائشة إليه: إنى أخاف عليك الإيلاء؛ فضمّها إليه وكان موليا منها «2» . فقيل له: طلّقها؛ فقال:

يقولون طلّقها لأصبح ثاويا

مقيما علىّ الهمّ، أحلام نائم

وإنّ فراقى أهل بيت أحبّهم

لهم زلفة عندى لإحدى العظائم

وتوفّى عبد الله بعد ذلك وهى عنده، فما فتحت فاها عليه؛ وكانت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها تعدّ هذا عليها في ذنوبها التى تعدّدها. ثم تزوّجها بعده مصعب بن الزبير، فمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك.

وكانت عائشة تمتنع على مصعب في غالب الأوقات. فحكى أنه دخل عليها يوما وهى نائمة ومعه ثمانى لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها.

فقالت: نومتى كانت أحبّ الىّ من هذا اللؤلؤ. ولم تزل حالها معه على مثل ذلك حتى شكا ذلك الى كاتبه ابن أبى فروة. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لى.

قال: نعم! افعل ما شئت. فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها. فقالت: أفى

ص: 275

مثل هذه الساعة؟ قال نعم؛ فأذنت له فدخل. فقال للأسودين: احفرا هاهنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرنى هذا الظالم أن أدفنها حيّة، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرنى أذهب اليه؛ قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجدّ منه بكت وقالت: يابن أبى فروة، إنك لقاتلى ما منه بدّ؟ قال: نعم، وإنى لأعلم أن الله عزّوجلّ سيخزيه بعدك، ولكنّه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت:

وفي أى شىء غضبه؟ قال: من امتناعك عليه وقد ظنّ أنك تبغضينه وتتطلّعين إلى غيره، فقد جنّ. فقالت: أنشدك الله إلّا عاودته. قال: أخاف أن يقتلنى؛ فبكت وبكى جواريها. فقال لها: قد رققت لك وحلف لها إنه يغرّر بنفسه، وقال لها:

فما أقول؟ قالت: تضمن له عنّى أنى لا أعود أبدا. قال: فمالى عندك؟ قالت:

قيام بحقّك ما عشت. قال: فأعطينى المواثيق فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما.

وأتى مصعبا فأخبره. فقال: استوثق منها بالأيمان؛ فاستوثق منها ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب.

قال: وكان مصعب من أشدّ الناس إعجابا بها. ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا وديانة «1» وجمالا وهيئة وشارة وعفّة. وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطّيب والمجامر، وخلعت على كلّ امرأة منهن خلعة من الوشى والحزّ ونحو ذلك، ودعت عزّة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفته؛ ثم قالت لعزّة: هات يا عزّة فغنّينا. فغنّتهن في شعر امرىء القيس فقالت:

وثغر أغرّ شنيب اللّثات

لذيذ المقبّل والمبتسم

ص: 276

وما ذقته غير ظنّ به

وبالظنّ يقضى عليك الحكم

وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهنّ والستور مسبلة، فصاح بها: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة: أمّا أنت فلا سبيل لنا اليك مع من عندك، وأمّا عزّة فتأذنين لها أن تغنّينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزّة اليهم فغنّتهم هذا الصوت مرارا، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا. ثم قال لها: يا عزّة، إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها.

قال: ولم تزل عند مصعب حتى قتل عنها. فخطبها بشر بن مروان، وقدم عمر ابن عبيد الله بن معمر التّيمى من الشأم فنزل الكوفة، فبلغه أن بشرا خطبها، فأرسل إليها جارية لها وقال: قولى لابنة عمّى: ابن عمك يقرئك السلام ويقول لك:

أنا خير لك من هذا المبسور المطحول، وأنا ابن عمك أحقّ بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا. فتزوّجته فبنى عليها بالحيرة، فمهّدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع؛ فأصبح ليلة بنى بها عن تسعة. فلقيته مولاة لها فقالت:

أبا حفص، فديتك! قد كملت في كلّ شىء حتى في هذا. وقيل إنه لمّا تزوّجها حمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهر، وخمسمائة ألف هديّة، وقال لمولاتها:

لك علىّ ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقى في الدار وغطّى بالثياب؛ وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا؟ أفرش أم ثياب؟ قالت:

انظرى إليه؛ فنظرت فاذا هو مال، فتبسّمت. فقالت الجارية: أجزاء من حمل هذا المال أن يبيت عزبا! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزيّن له وأستعدّ. قالت: وماذا؟ فو الله لوجهك أحسن من كلّ زينة وما تمدّين يديك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فراش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذنى له.

ص: 277

فقالت: افعلى. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدنى إليه طعام فأكل الطعام كلّه حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضّأ فأخبر به، فقام فتوضّأ وقام يصلّى حتى ضاق صدرى ونمت، ثم قال: أعليكم آذن؟

قلت: نعم فادخل، فأدخلته وأسبلت السّتر عليهما. فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا؟ قلت: نعم والله ما رأيت مثلك! فضحك وضرب بيده على منكب عائشة وقال لها: كيف رأيت ابن عمّك؟ فضحكت وغطّت وجهها وقالت:

قد رأيناك فلم تحل لنا

وبلوناك فلم نرض الخبر

ومكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله ثمانى سنين حتى مات سنة اثنتين وثمانين.

ولما مات ندبته قائمة، ولم تندب أحدا قبله من أزواجها إلا جالسة. فقيل لها في ذلك فقالت: إنه كان أكرمهم علىّ وأمسّهم بى رحما، فأردت ألّا أتزوّج بعده. وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة لا تتزوّج بعده أبدا. ولم تتزوّج عائشة بنت طلحة بعد زوجها عمر بن عبيد الله.

ومن أخبار عائشة بنت طلحة أيضا ما رواه أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده إلى يزيد ابن عياض، قال:

استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحجّ، فأذن لها وقال:

ارفعى حوائجك واستظهرى، فإن عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت وتجهزت بهيئة جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها «1» وفرّق جماعتها؛ فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا: هذه جاريتها «2» .

ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم فسألت عنها،

ص: 278

فقالوا: هذه ما شطتها. ثم جاءت مواكب على هذا لحاشيتها، ثم أقبلت في ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج؛ فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى. قال: ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام بن عبد الملك، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء مطرها ومنع السلطان الحقّ. قال: فأنا أصل رحمك وأعرف حقّك. ثم بعث إلى مشايخ بنى أميّة فقال: إن عائشة عندى فاسمروا عندى الليلة فحضروا؛ فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وآثارها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا أسمته. فقال لها هشام: أمّا الأوّل فلا أنكره، وأمّا النجوم فمن أين لك؟

قالت: أخذته «1» عن خالتى عائشة رضى الله عنها؛ فأمر لها بمائة ألف درهم وردّها إلى المدينة.

قال: ولما تأيّمت عائشة كانت تقيم «2» بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصر لها هناك فتتنزه وتجلس فيه بالعشيّات، فتتناضل بين [يديها «3» ] الرّماة. فمرّ بها النّميرىّ الشاعر، فسألت عنه فانتسب لها؛ فقالت: ائتونى به، فجىء به.

فقالت له: أنشدنى مما قلت في زينب؛ فامتنع وقال: بنت عمّى وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك لمّا فعلت؛ فأنشدها قوله:

نزلن بفخّ «4» ثم رحن عشيّة

يلبّين للرحمن معتمرات

يخمّرن أطراف الأكفّ من التّقى

ويخرجن جنح اللّيل معتجرات «5»

ولما رأت ركب النّميرىّ راعها

وكنّ من ان يلقينه حذرات

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت

به زينب في نسوة خفرات

ص: 279