الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معن بن زائدة الشيباني
كان من الكرماء، يقال فيه: حدث عن البحر ولا حرج، وكان عاملاً بالبصرة، فحضر على بابه شاعر وأقام مدة يريد الدخول فلم يتهيأ له، فقال يوماً لبعض الخدام: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل أعلمه بذلك، فكتب الشاعر بيتاً ونقشه على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، وكان معن جالساً على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها وقرأها فإذا فيها هذا البيت:
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي
…
فليس إلى معن سواك رسول
فقال: من الرجل صاحب هذه؟ فأتي به إليه. فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف، فوضع معن الخشبة تحت بساط. فلما كان في اليوم الثاني أخرجها من تحت بساط ينظر فيها، ودعا بالرجل فأمر له بمائة ألف درهم، فلما كان في اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فتفكر الرجل وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج من البلد بما كان معه. فلما كان في اليوم الرابع طلب الرجل فلم يوجد، فقال معن: والله هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار إلا أعطيته له، وفيه يقول القائل:
يقولون معن لا زكاة لماله
…
وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال جولٌ لم يكن في دياره
…
من المال إلا ذكره وجمائله
تراه، إذا ما جئته، متهللاً
…
كأنك تعطيه الذي أنت آمله
هو البحر من أي النواحي أتيته
…
فلجته المعروف والبر ساحله
تعود بسط الكف حتى لو نه
…
أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
…
لجاد بها فليتق الله سائله
ومن قول معن:
دعيني أنهب الأموال حتى
…
أعف الأكرمين عن اللئام
ويروى أن معن بن زائدة خرج في جماعة يتصيدون، فاعترضهم قطيع ظباء، فتفرقوا في طلبه، وانفرد معن خلف ظبي، فلما ظفر به نزل فذبحه، فرأى شخصاً مقبلاً من البرية على حمار، فركب فرسه واستقبله، فسلم عليه وقال له: من أين أتيت؟
قال: أتيت من أرض قضاعة وإن لي بها أرضاً، لها عدة سنين، مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعتها قثاء فطرحت في غير وقتها، فجمعت منها ما استحسنته وقصدت الأمير معن بن زائدة لكرمه المشهور ومعروفه المأثور، وإحاسنه المذكور.
فقال له: كم أملت منه؟ قال: ألف دينار.
فقال: فإن قال لك: كثير.
قال: خمسمائة دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: ثلاثمائة دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: مائتي دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: مائة دينار.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: خمسين ديناراً.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: أفلا أقل من ثلاثين.
قال: إن قال لك: كثير.
قال: أدخل قوائم حماري في حر أمه، وأرجع إلى أهلي خائباً.
فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بعسكره ونزل منزله، وقال لحاجبه: إذا أتاك شيخ على حمار بقثاء فادخل به علي.
فأتى بعد ساعة فلما دخل على الأمير معن لم يعرفه لهيبته وجلالته، وكثرة خدمه وحشمه وهو متصدر في دست مملكته، والحفدة قيامٌ عن يمينه وشماله وبين يديه. فلما سلم عليه قال له الأمير معن: ما الذي أتى بك يا أخا العرب؟ قال: أملت الأمير وأتيته بقثاء في غير أوانها.
قال: فكم أملت فينا؟ قال: ألف دينار.
قال كثير.
قال: خمسمائة دينار.
قال: كثير.
قال: ثلاثمائة دينار.
قال: كثير.
قال: مائتي دينار.
قال: كثير.
قال: مائة دينار.
قال: كثير.
قال: والله لقد كان ذلك الرجل الذي قابلني علي مشؤوماً ثم قال: خمسين ديناراً.
قال: كثير.
قال: أفلا أقل من ثلاثين؟ قال: فضحك معن وسكت فعلم الأعرابي أنه صاحبه فقال: يا سيدي إن لم تعطني الثلاثين فالحمار مربوط بالباب، وها أنا مع معن جالس.
فضحك معن حتى استلقى على قفاه ثم استدعى بوكيله وقال: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائتي دينار ومائة دينار وخمسين ديناراً وثلاثين ديناراً ودع الحمار مربوطاً مكانه.
فبهت الأعرابي وتسلم ألفي دينار ومائةً وثمانين ديناراً، فرحمة الله عليهم أجمعين.
وقيل: كان معن بن زائدة في بعض صيوده فعطش فلم يجد مع غلمانه ماء، فبينما هو كذلك، وإذا بثلاث جوار قد أقبلن حاملات ثلاث قرب فسقينه، فطلب شيئاً من المال مع غلمانه، فلم يجده، فدفع لكل واحدةٍ منهن عشرة أسهم، من كنانته، نصولها من ذهب. فقالت إحداهن: ويلكن لم تكن هذه الشمائل إلا لمعن بن زائدة، فلتقل كل واحدة منكن شيئاً من الأبيات فقالت الأولى:
يركب في السهام نصول تبر
…
ويرمي للعدا كرماً وجوداً
فللمرضى علاجٌ من جراحٍ
…
وأكفانُ لمن سكن اللحودا
وقالت الثانية:
ومحارب من فرط جود بنانه
…
عمت مكارمه الأقارب والعدا
صيغت نصول سهامه من عسجدٍ
…
كي لا يقصر في العوارف والندى
وقالت الثالثة:
ومن جوده يرمي العداة بأسهمٍ
…
من الذهب الإبريز صيغت نصولها
لينفقها المجروح عند انقطاعه
…
ويشتري الأكفان منها قتيلها
وكان مع كرمه صاحب شهامة، فمن ذلك، أنه سعى رجل في إفساد دولة المهدي، وكان من الكوفة فعلم به المهدي فأهدر دمه، وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم، فأقام الرجل حيناً مختفياً ثم ظهر في بغداد فبينما هو في بعض الشوارع إذ رآه رجل من الكوفة فعرفه فاخذ بمجامع طوقه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين فبينما الرجل على تلك الحالة وقد اجتمع حوله خلق كثير إذ سمع وقع حوافر الخيل من ورائه فالتفت فإذا هو بمعن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد؟ أجرني أجارك الله.
فوقف فقال للرجل الذي تعلق به: ما تريد منه؟ قال: هذا طلبة أمير المؤمنين أهدر دمه، وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم.
فقال له معن: دعه! ثم قال: يا غلام أردفه، فأردفه وكر راجعاً إلى داره، فصاح الرجل: معن حال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين ولم يزل صارخاً إلى أن أتى قصر المهدي، فأمر المهدي بإحضار معن، فأتته الرسلُ، فدعا معن أولاده ومماليكه وقال: لا تسلموا الرجل، وواحد منكم يعيش.
ثم سار إلى المهدي فدخل وسلم فلم يرد عليه، ثم قال: يا معن! أتجير علينا عدونا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال المهدي: ونعم أيضاً.
واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، بالأمس بعثتني إلى اليمن مقدم الجيش، فقتلت في طاعتك في يوم واحدٍ عشرة آلاف رجل، ولي مثل هذا أيام كثيرة فما رأيتموني أهلاً أن أجير رجلاً واحداً استجار بي، ودخل منزلي.
فسكن غضب المهدي، وقال: قد أجرنا من أجرت يا أبا الوليد.
قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله بصلةٍ يعلم منها موقع الرضا، فإن قلب الرجل قد انخلع من صدره خوفاً.
قال: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم.
قال: يا أمير المؤمنين، إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية.
قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم.
قال: عجلها يا أمير المؤمنين، فإن خير البر عاجله.
فأحضر معن الرجل وقال له: خذ صلة أمير المؤمنين، وقبل يده، وإياك ومخالفة خلفاء الله في أرضه، " فما كل مرة تسلم الجرة "، فأرسلها الناس مثلاً، وأخذ الرجل المال واستغفر الله، انتهى.
وكان معن لا يغيظ أحداً، ولا أحد يغيظه، فقال بعض الشعراء: أنا أغيظه لكم، ولو كان قلبه من حجر، فراهنوه على مائة بعير إن أغاظه أخذها، وإن لم يغظه دفع مثلها. فعمد الرجل إلى جمل فذبحه وسلخه ولبس الجلد مثل الثوب وجعل اللحم من خارجٍ والشعر من داخل، والذباب يقع عليه، ويقوم، ولبس برجليه نعلين من جلد الجمل، وجعل اللحم من خارج والشعر من ناحية رجليه، وجلس بين يدي معن على هذه الصورة المشروحة ومد رجليه في وجهه وقال:
أنا والله لا أبدي سلاماً
…
على معن المسمى بالأمير
فقال له معن: السلام لله إن سلمت رددنا عليك، وإن لم تسلم ما عتبنا عليك.
فقال الشاعر:
ولا آتي بلاداً أنت فيها
…
ولو حزت الشآم مع الثغور
فقال له: البلاد بلاد الله إن نزلت فمرحباً بك، وإن رحلت كان الله في عونك.
فقال الشاعر:
وأرحل من بلادك ألف شهر
…
أجدُّ السير في أعلى القفورِ
فقال له: مصحوباً بالسلامة.
فقال الشاعر:
أتذكر إذ قميصك جلد شاةٍ
…
وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال له: أعرف ذلك ولا أنكره.
فقال الشاعر:
وتهوى كل مضطبةٍ وسوق
…
بلا عبدٍ لديك ولا وزير
فقال له: ما نسيت ذلك يا أخا العرب.
فقال الشاعر:
ونومك في الشتاء بلا رداء
…
وأكلك دائماً خبز الشعير
فقال: الحمد لله على كل حال.
فقال الشاعر:
وفي يمناك عكاز قويٌ
…
تذود به الكلابَ عن الهريرِ
فقال له: ما خفي عليك خبرها اذهبي كعصا موسى.
فقال الشاعر:
فسبحان الذي أعطاك مُلكاً
…
وعلمك القعود على السرير
فقال له: بفضل الله لا بفضلك.
فقال الشاعر:
فعجل يا بن ناقصة بمالٍ
…
فإني قد عزمت على المسير
فأمر له بألف دينار.
فقال الشاعر:
قليلٌ ما أمرت به فإني
…
لأطمع منك بالشيء الكثير
فأمر له بألف دينار أخرى.
فقال الشاعر:
فثلث، إذ ملكت الملك رزقاً
…
بلا عقلٍ ولا جاهٍ خطير
فأمر له بثلاثمائة دينار.
فقال الشاعر:
ولا أدبٍ كسبت به المعالي
…
ولا خلقٍ ولا رأي منير
فأمر له بأربعمائة دينار.
فقال الشاعر:
فمنك الجود والإفضالُ حقاً
…
وفيضُ يديك كالبحر الغزير
فأمر له بخمسمائة دينار، وما زال يطلب منه الزيادة حتى استكمل ألف دينار، فأخذها وانصرف متعجباً من حلم معن وعدم انتقامه منه ثم قال في نفسه: مثل هذا لا ينبغي أن يهجى بل يمدح، واغتسل ولبس ثيابه ورجع إليه فسلم عليه ومدحه واعتذر له بأن الحامل له على هجوه المائة بعير التي صار الرهن عليها في نظير إغاظته له، فأمر له بمائة بعير يدفعها في نظير الرهن وبمائة بعير أخرى لنفسه، فأخذها وانصرف، والله أعلم.