الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال الملك: بعد النوم.
فقال المجنون: أتوجد لذته وقد انقضى؟ فتحير الملك وزاد إعجابه وقال: لعمري إن هذا لا يحصل من عقلاء كثيرة، فأولى أن يكون نديمي في مثل هذا اليوم، وأمر أن ينصب له تخت بإزاء شباك المجنون، ثم استدعى بالشراب، فحضر فتناول الكأس وشرب، ثم ناول المجنون، فقال: أيها الملك أنت شربت هذا لتصير مثلث فأنا أشربه لأصيل مثل من؟ فاتعظ الملك بكلامه ورمى القدح من يده وتاب من ساعته، والله أعلم.
الست بدور والأمير عمرو
يحكى أن الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فاستدعى جعفراً وقال: أريد منك أن تزيل ما بقلبي من الضجر.
فقال الوزير: يا أمير المؤمنين، كيف يكون على قلبك ضجر، وقد خلق الله أشياء كثيرة، تزيل الهم عن المهموم، والغم عن المغموم، وأنت قادر عليها؟ فقال الرشيد: وما هي يا جعفر؟ فقال له: قم بنا الآن، حتى نطلع فوق سطح هذا القصر ونتفرج على النجوم واشتباكها وارتفاعها والقمر وحسن طلعته كأنه وجه من تحب كما قيل:
فكأنما حسن السماء ولونها
…
قد رقمت فيها أفانين الصور
وكأن هذا البدر حين بدا لنا
…
في بعض ليل من غلاف قد ظهر
فقال الرشيد: يا جعفر، ما تلفتت نفسي إلى شيء من ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، افتح شباك القصر الذي يطلع على البستان وتفرج على حسن تلك الأشجار واسمع صوت تغريد الأطيار وانظر إلى هدير الأنهار وشم روائح تلك الأزهار واسمع الناعورة التي كأنها أنين محب فارق محبوبه، وهي كما قال فيها بعض واصفيها:
وناعورة حنت وغنت وقد غدت
…
تعبر عن حال المشوق وتعرب
وترقص عطف البان تيهاً لأنها
…
تغني له طول الزمان ويشرب
وإما أن تنام يا أمير المؤمنين، إلى أن يدركنا الصباح.
فقال: يا جعفر، ما تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، افتح الشباك الذي يطلع على الدجلة حتى تتفرج على تلك
المراكب والملاحين، فهذا يصفق، وهذا ينشد موالياً، وهذا يقول دوبيت، وهذا يقول كيت وكيت.
فقال الرشيد: ما تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: قم يا أمير المؤمنين، حتى ننزل إلى الاصطبل الخاص وننظر إلى الخيل العربيات وتتفرج على حسن ألوانها، ما بين أدهم كالليل إذا أظلم، وأشقر، وأشهب، وكميت أحمر، وأبيض، وأخضر، وأبلق، وأصفر، وألوان تحير العقول.
فقال الرشيد: ما تلتفت نفسي إلى شي من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، عندك في قصرك ثلاثمائة جارية، ما بين جنكية، إلى عودية، إلى دفية، إلى قانونية، إلى زامرة، إلى مغنية، إلى راقصة، إلى سنطيرية، أحضر الجميع، وأحضر العقار المروق، فعل أن يزول ما بقلبك من الضجر.
فقال: ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين ما بقي إلا ضرب عنق مملوكك جعفر، فإني قد عجزت عن إزالة هم مولانا.
فقال: يا جعفر، أما سمعت قول ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من فم مولانا أسمع.
فقال الرشيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرح أمتي في ثلاث: أن يرى بعينه شيئاً ما رآه، أو يسمع شيئاً ما سمعه، أو يطأ مكاناً ما وطئه "، فيتفق يا جعفر أن يكون في بغداد مكان ما وطئناه، أو شيء ما سمعناه، أو موضع ما رأيناه.
فقال جعفر: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أطلع إلى مجلس النوبة وأنظر أحداً من المسافرين أحضره بين يدي أمير المؤمنين، لعله أن يحدثك بحديث ما سمعته؟ فقال الرشيد: قم وافعل.
فقام جعفر وطلع وعاد بسرعة بالشيخ أبي الحسن الخليع الدمشقي المسامر. قال: فلما رأى أمير المؤمنين سلم فأحسن وترجم فأبلغ، ثم قال: يا أمير المؤمنين وحامي حوزة الدين وابن عم سيد المرسلين وخاتم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أطال الله بقاك وجعل الجنة مأواك والنار مثوى لأعداك لا خمدت لك نار ولا أغيظ لك جار، ثم أنشد يقول:
دام لك العز والبقاء
…
ما اختلف الصبح والمساء
ودمت ما دامت الليالي
…
بمدة ما لها انقضاء
الناس ناس بكل أرض
…
وأنت من فوقهم سماء
قال: فرد الشيخ السلام وقال له: اجلس يا أبا الحسن، وحدثنا بحديث عجيب مليح لم نسمعه قط؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أحدثك بشيء سمعته بأذني أو بشيء رأيته بعيني؟ قال الرشيد: يا شيخ أبا الحسن الذي تراه العين أحسن من الذي تسمعه الأذن.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أفرغ لي عن ثلاثة أشياء منك؟ فقال: ما الثلاثة؟ فقال: ذهنك وسمعك وقلبيك.
فقال الرشيد: هات يا أبا الحسن.
فقال: يا أمير المؤمنين لي عادة أني أسافر في كل سنة إلى البصرة للأمير محمد بن سليمان الزينبي، وأقعد عنده أحدثه الأسمار، وأورد له الأخبار، وأنشد له الأشعار، ولي عليه رسم ألف دينار آخذها وأعود إلى بغداد. فاتفق لي من سنة من السنين أني سافرت إلى البصرة على عادتي ودخلت على الأمير محمد بن سليمان وجلست عنده اليوم الأول والثاني والثالث، فركب إلى الصيد وتركني في منزله وأوصى أرباب دولته بخدمتي وإكرامي إلى أن يعود، وأوصى الطباخ الذي له أن لا يطعمني إلا شيئاً تشتهيه نفسي، فاشتهيت السمك فقلت للطباخ: فعمل لي من السمك عدة ألوان فأكلت وطاب لي الأكل حتى ثقل على فؤادي، فقلت: ما يصرف عني هذا إلا المشي، ولي عدة أسفار إلى البصرة ما أعرف فيها مكاناً، وأريد اليوم أن أجعلها حجة وفرجة. ثم إني نزلت أتمشى في شوارع البصرة فعطشت عطشاً شديداً وناهيك بعطش السمك، فقلت في نفسي: إن تناولت شربة من السقاء لا تطيب نفسي لأنه يشرب منه أصحاب الأمراض، وكبر على نفسي أن أحملها إلى شاطئ الدجلة، وقلت: ما لي إلا أن أقصد بعض دور المحتشمين وأطلب منها شربة من ماء، فأتيت إلى درب وفي ذلك الدرب خمسة دور داران مقابلتان لدارين ودار صدرانية قد قامت من التراب وتعلقت بأذيال السحاب، ولها باب مقنطر مزخرف بمصاطب طولانية، مفروش عليها حصر عبدانية، والباب ساج مصفح بصفائح الذب الوهاج ومسامير الفضة وستر من الحرير الأصفر المدثر مكتوب عليه هذه الأبيات:
ألا يا دارُ لا يدخلك حزنٌ
…
ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار أنت لكل ضيفٍ
…
إذا ما ضاق بالضيف المكانُ
قال: فقلت في نفسي، من هذه الدار أشرب الماء، فأتيت إلى الباب فسمعت صوتاً ضعيفاً من فؤاد نحيف، وقائلاً يقول:
بالله ربكما عوجا على سكني
…
وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضاً بي وقولاً في حديثكما
…
ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فإن تبسم قولا في ملاطفةٍ
…
ما ضر لو بوصالٍ منك تسعفه
وإن بدا لكما في وجهه غضبٌ
…
فغالطاه وقولا ليس نعرفه
قال: فقلت، يا حبذا إن كان قائل هذا الصوت شخصاً صورته على قدر صوته واحتشمت، ثم إني قويت قلبي ورفعت الستر ودخلت الدهليز إلى أن انتهيت إلى آخره ومديت طرفي، وإذا أنا بدار قد أقبلت عليها السعادة، وزالت عنها الشقاوة، ورأيت في صدر ذلك المكان إيواناً وبركة وشاذرواناً، وفي ذلك الإيوان تخت من السياج، وقوائمه من العاج، ومصفح بالذهب الوهاج، وفوق التخت فراش من الحرير الأطلس، ومسند مزركش، وعليه جارية نائمة خماسية القد، قائمة النهد لا بالطويلة الشاهقة ولا بالقصيرة اللاصقة، أشهر من علم، تربية العجم على أكتاف الخدم، بخد أسيل، وطرف كحيل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، إن أقبلت فتنت، وإن ولت قتلت، كما قال فيها بعض واصفيها:
كما اشتهت خلقت حتى إذا اعتدلت
…
في قالب الحسن لا طول ولا قصر
جرى بها الشحم حتى دار أعكنها
…
طي القباطي فلا سمن ولا غور
كأنها أفرغت من ماء لؤلؤةٍ
…
في كل جارحة من حسنها قمر
إلا أن الجارية، يا أمير المؤمنين، قد حكمت عليها يد الأيام ونزلت بها جميع الأسقام وعند رأسها طبيب، وهو يجس يدها ويقول: يا ست بدور، الضارب ضارب والساكن ساكن ولا برد ولا حمى ولا شيء تشتكينه أكثر من سهر الليل وجريان الدمع لعل الست في قلبها هوى من أحد، فلما سمعت كلام الطبيب أنشدت تقول:
إذا هممت بكتمان الهوى نطقت
…
مدامعي بالذي أخفي من الألم
فإن أبح افتضح من غير منفعة
…
وإن كتمت فدمعي غير منكتم
لكن إلى الله أشكو ما أكابده
…
من طول وجد ودمع غير منصرم
قال: فنهض الطبيب قائماً على قدميه فناولته صرة فيها عشرون ديناراً، ثم التفتت
إلي وقالت: من أين يا شيخ؟ فقلت لها: من بغداد، حملني العطش إلى أن أتيت إلى هنا.
فقالت: لعل أن يكون على يدك فرجي، فأنا أكتب لك ورقة فتسال عن بيت الأمير عمرو وتعطيه إياها، فإن رددت علي الجواب فأنا أعطيك خمسمائة دينار.
ثم استدعت بدواة وورق وكتبت، وهي تقول: أما بعد، يعجز لساني ويكل جناني عن بث الأشواق، ولكن أسأل الكريم الخلاق أن يمن علينا بالتلاق بالسعد الرائق والأمر الموافق، وأنا القائلة حيث أقول:
سروري من الدنيا لقاكم وقربكم
…
وحبكم فرض وما منكم بد
ولي شاهد دمعي إذا ما ذكرتكم
…
جرى فوق خدي لا يطاق له رد
إذا الريح من نحون الحبيب تنسمت
…
وجدت لمسراها على كبدي برد
فوالله ما أحببت ما عشت غيركم
…
ولا كنت إلا ما حييت لكم عبد
سلام عليك ما أمر فراقكم
…
فلا كان منكم ما جرى آخراً عهد
أما بعد، فهذا كتاب ممن ليلها في نحيب، ونهارها في تعذيب، لا أتركن إلى عاذلٍ ولا تصغي إلى قائل، قد غلبتها أيدي الفراق، ولو شرحت بعض ما عندها للفسيح ضاق وما وسعته الأوراق، ولكن أسأل الكريم الخلاق، رافع السبع الطباق، أن يمن علينا بالتلاق، وأنشدت تقول:
أحبة قلبي وإن جرتم
…
علي فكل المنى أنتم
رحلتم وفي القلب خلفتم
…
لهيباً فهلا ترفقتم
وأودعتم يوم ودعتم
…
بأحشاي ناراً وأضرمتم
وما كنتم تعرفون الجفا
…
على شؤم بختي تعلمتم
فألف ألف لا أوحش الله منكم والسلام مني عليكم عدد شوقي إليكم ما حن الغريب إلى الأوطان، وغرد حمام الأيك على البان، فرحم الله من قرأ كتابي وتعطف برد جوابي، وأنشدت تقول:
أحبابنا ما رقا دمعي لفرقتكم
…
يوم الفراق ولا كفت غواديه
بنتم فلم يبق لي من بعدكم جلد
…
ولا فؤاد ولا صبر أرجيه
فكم أمني فؤادي بالهوى كذباً
…
ولست أول من بانت غواشيه
قال: ثم إنها طوت الكتاب وختمته بعد أ، نثرت فيه فتات المسك والعنبر، وناولتني إياه
فأخذته، وأتيت إلى دار الأمير عمرو فوجدته في الصيد والقنص، فجلست على بابه ساعة أنتظره وإذا به قد أقبل، وهو راكب على حصان أشقر، من الخيل الضمر يساوي ملك كسرى وقيصر، من أولاد الأبجر، الذي كان لعنتر، إن طلب لحق، وإن طلب لم يلحق، والأمير في ظهره كأنه البدر في منزلته، والمماليك قد أحدقوا به كما تحدق النجوم بالقمر، وهو بخد أسيل وطرف كحيل وخصر نحيل وردف ثقيل وله عذار أخضر فوق خد أحمر وثغر جوهر وعنق مرمر كما قال فيه ابن معشر:
قمر تكامل في نهاية حسنه
…
مثل القضيب على رشاقة قده
فالبدر يطلع من ضياء جبينه
…
والشمس تغرب في شقائق خده
ملك الجمال بأسره فكأنما
…
حسن البرية كلها من عنده
قال أبو الحسن: فما أمهلته دون أن قبلت ركابه، فلما نظر إلي ترجل واعتنقني وخذ بيدي وأدخلني الدار وأنشد يقول:
ما أظن الزمان يأتي بهذا
…
غير أني رأيته في منامي
قال: فلما جلس على حافة البركة أقبل علي يحدثني ساعة، وإذا بالمائدة قد وضعت بين أيدينا، وإذا عليها من ألوان الطعام ما درج وتطاير في الأسحار، وتناكح في الأوكار من قطاً وسماني وأفراخ حمام وبط مسمن ودجاج محمر وأفراخ رضع وبعلبكات السكر فقال لي: بسم الله يا شيخ يا أبا الحسن، فقلت: لا والله يا مولاي، ما أكلت لك طعاماً ولا شربت لك مداماً، إلا أن قضيت لي حاجتي.
فقال: يا أبا الحسن كان هذا من الأول. أين الكتاب الذي للست بدور؟ فقلت: يا سيدي وما هي الست بدور.
فقال: التي جئت من عندها تطلب شربة من الماء منها، ووجدت عندها الطبيب وجرى لك معها ما هو كيت وكيت.
فقلت: يا مولاي أكنت حاضراً؟ فقال: لو كنت حاضراً فلأي شيء كتبت الكتاب؟ فقلت: هل جاء أحدُ من عندها وأعلمك؟ فقال: إنه لا يجسر أحدٌ من غلمانها أن يقابلني.
فقلت: ولا راح أحد من عندك إليها.
فقال: هي أخس وأحقر منم أن يمضي إليها أحد من عندي.
فقلت: يا سيدي! الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى والوحي ما نزل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا عاقل أما سمعت قول القائل:
قلوب العاشقين لها عيونٌ
…
ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير ريشٍ
…
إلى ملكوت رب العالمينا
فقلت: صدقت يا مولاي، ثم ناولته الكتاب ففضه وقرأه ثم بصق فيه وداسه برجله ورماه في البركة فصعب علي، فلما علم مني ذلك قال: مم غيظك؟ أقعد الليلة عندي كل واشرب وخذ مني الخمسمائة دينار التي وعدتك بها الست بدور، وأنا أحب إليك منها وأنشد يقول:
رأيت شاة وذئباً وهي ماسكة
…
بأذنه وهو منقاد لها ساري
فقلت: أعجوبة ثم التفت رأى
…
ما بين نابيه ملقى نصف دينار
فقلت للشاة: ماذا الإلف بينكما
…
والذئب يسطو بأنياب وأظفار
تبسمت ثم قالت وهي ضاحكة
…
بالتبر يكسر ذاك الضيغم الضاري
قال: فلما سمعت كلامه، يا أمير المؤمنين تقدمت وأكلت بحسب الكفاية والنهاية. ثم انتقلنا إلى مجلس الشراب وقدمت بين أيدينا البوطي والسلاحيات، فتناول الأمير عمرو وشرب وسقاني، وأنا أحدثه وأنادمه إلى أن قرب الغروب فقال: يا أبا الحسن، ما لذة الأمير إذا شرب إلى المساء من غير غناء؟ فقلت: يقال: الشراب بلا طرب ولا سماع، الدن أولى به.
فقال لي: قم بسم الله.
فقمت معه إلى مجلس وحضيرة تنقط بالذهب واللازورد العجيب، وهي مزخرفة قد عبقت أزهارها وضحكت سلاحيتها وصفت بواطيها ورفعت أقداحها فجلس الأمير عمرو وأجلسني بجانبه وقدمت بين أيدينا الشموع وأسرجت القناديل فنظرت إلى مجلس عجيب وحضيرة مليحة ثم قلت: يا مولاي، قد تقدم القول إن الشراب بلا سماع، الدن أولى به، فصفق بكف وإذا بثلاث جوار قد أقبلن كأنهن الأقمار. الواحدة تحمل عوداً، والثانية تحمل دفاً، والثالثة تحمل مزماراً ثم نقرت الدفية على دفها، وأًلحت العودية عودها وزمرت الزامرة بمزمارها فخيل إلي أن المجلس الذي نحن فيه يرقص بنا ثم إن الدفية غنت تقول:
أحبابنا إنني من يوم فرقتكم
…
على فراش الضنا ما زلت مضطجعا
داويت قلبي بحسن الصبر بعدكم
…
عسى يفيق من الأسقام ما نفعا
فوالله يا أمير المؤمنين لقد طربت غاية الطرب من حسن صوتها. فلما فرغت الدفية ضربت العودية على عودها طرقاً عديدة، ثم رجعت إلى الطريقة الأولى وأنشدت تقول:
أمؤنس طرفي لا خلا منك ناظري
…
وجامع شملي لا خلا منك مجلسي
ويا ساكناً قلبي وما فيه غيره
…
يحل فما استوحشت فيه لمؤنسي
وبالله يا أغنى الورى من ملاحةٍ
…
تصدق على صب من الصبر مفلس
أنلني الرضا حتى أغيظ به العدا
…
ويا موحشي من بعد ما كان مؤنسي
رضاك الذي إن نلته نلت رفعةً
…
وألبسني في الناس أشرف ملبس
قال: والله يا أمير المؤمنين لم نتمالك عقولنا من الطرب، ثم التفتت العودية نحو الدفية وقالت لها: يا فلانة أتحسني أن تقولي مثل هذا؟ فقالت الدفية: أنا أحفظ أبياتاً ما أظن أنك تحفظين لهن وزناً ولا قافية ولا عَروضاً.
فقالت العودية: هات ما عندك.
فنقرت الدفية على دفها بأناملها ورفعت صوتها وهي تقول:
كرر وردد ذكرهم في مسمعي
…
فهم الشفا لتألمي وتوجعي
أقصر بعذلك يا عذول فإن لي
…
قلباً لعذلك لا يفيق ولا يعي
فقالت لها العودية: أنا أحفظ الوزن والقافية والعروض.
فقالت الدفية: هات.
فضربت العودية طريقة من اثنين واثنين وأربعة وأربعة وثمانية وثمانية وستة عشرة وستة عشر ثم عادت إلى الطريقة الأولى وجعلت تقول:
إن لم أٍل وادي إلا سيل بأدمعي
…
أعلم بأني في الصبابة مدعي
يا سعد إن جئت الغوير وعاينت
…
عيناك بأن المنحني فلترجع
وخذ الحذار من الغزال المختفي
…
واحذر يصيدك لحظ ذات البرقع
قال: والله يا أمير المؤمنين فلقد طربنا حتى قام كل منا ورقص. فلما فرغت الجارية قال لها سيدها: عن لي على الذي بقلبي وحدي، فعندها ساوت عودها وقالت:
ما كنت أول رامق صبا صبا
…
نحو التصابي، وهو في عمر الصبا
فعلام يعذلني العذول على البكا
…
لولا الغرام لما غدوت معذبا
حم الغرامُ بحكمه في مهجتي
…
ولقد غدا قلبي به متقلبا
يا للرجال خبا الهوى بحشاشتي
…
ناراً، فما تخبو على ذاك الخبا
ولقد سبى قلبي غزال لو رأت
…
بلقيس طلعته لما سكنت سبا
ولقد هربت من الغرام فقال لي:
…
مهلاً! فلن تجدن مني مهربا
فلما سمع الأمير عمرو ذلك صرخ ووقع على الأرض مغشياً عليه. فقالت الجارية: يا مولاي، إنه قد نام سيدي، فإن اخترت أن تنام فقم نم في مرقدك، وإن اخترت الشراب فدونك، ونحن بين يديك إلى الصباح.
فقمت ونمت فلما أصبحت قمت وسألت عن الأمير عمرو فقال بعض الجواري: إنه قد سرح إلى الصيد والقنص فأخذت شاشاً لألبسه فرأيت تحته كيساً فيه ألف دينار، فأخذته وأتيت إلى الست بدور، وإذا بها واقفة خلف الباب تنظر وهي تقول:
يا رسولي إلى الحبيب اعتذر لي
…
فلعل الحبيب بقبل عذري
ثم قل للحبيب عني بلطف:
…
أي ذنب جرى فأوجب هجري
فلما رأتني قالت: يا شيخ أقمح أم شعير؟ فقلت: لا والله ما هو إلا زوان، والله ما رضي يقرأ مكتوبك ولا يرد جوابك.
فرمت إلي الصرة وفيها مائة دينار، وقالت: اذهب يا أبا الحسن، ما مضى الليل وأتى النهار على شيء إلا وأزاله وغيره ويغير الله ما في القلوب.
ثم إنها أغلقت الباب في وجهي ومضت وعدت إلى دار الأمير محمد بن سليمان الزينبي فلقيته قد جاء من الصيد فقعدت عنده أياماً وأخذت رسمي وعدت إلى بغداد. ثم إني في السنة الثانية سافرت إلى البصرة على ما جرت العادة به ومضيت إلى الأمير عمرو بن جبير الشيباني لأتمنع بذلك الوجه المليح والقد الرجيح، فوجدت الدار متغيرة الآثار والعبيد لابسين السواد فلما رأيت ذلك بكيت وأنشدت أقول:
يا دار أين ترحل السكان
…
وسرت بهم من بعدها الأظعان
بالأمس كان بك الضياء مع الهنا
…
واليوم عرصاتك الغربان
فسمعني بعض الغلمان، فظهر لي وقال: من ذا الذي يبكي على ديارنا ويندب منازلنا؟ كفى بنا ما عندنا.
فقلت له: يا عبد الخير، إن صاحب هذه الدار كان من أصدق الناس إلي فما فعل به الزمان؟ فقال لي الغلام: يا مولاي هو في قيد الحياة. وهو يطلب الموت فلا يجده.
فقلت له: بالله عليك خذ لي الطريق.
فقال لي الغلام: يا مولاي من أقول.
فقلت: قل الشيخ أبو الحسن الخليع الدمشقي المسامر.
قال: فعبر الغلام وغاب ساعة وعاد وقال لي: بسم الله أدخل. ويقول له: يا مولاي الضارب ضارب والساكن ساكن لا برد ولا حمى ولا تشتكي غير سهر الليل وجريان الدمع، لا يكون المولى إلا مسحوراً.
فلما سمع الأمير عمرو كلام الطبيب بكى وأنشد يقول:
قال الطبيب لقومي، حين جس يدي:
…
هذا فتاكم ورب البيت مسحور
فقلت: ويحك قد قاربت في صفتي
…
عين الصواب فهلا قلت مهجور
ثم إنه ناوله كاغداً فيه بعض دنانير، فأخذها الطبيب وانصرف ثم التفت الأمير عمرو إلي وقال: يا شيخ أبي الحسن أما تنظر إلى هذا الحال الذي وقعت فيه؟
فقلت له: حاشاك من الأسوأ ما سبب ذلك؟ قال: ما أعرف له سبباً إلا أن هجر الست بدور قد قتلني وحبها أضنى فؤادي.
فقلت: يا مولاي، بالعام الماضي تركتك أميراً، واليوم أتيت لقيتك أسيراً فما السبب؟ فقال الأمير عمرو: يا شيخ إني في ليلة من الليالي ركبت في الشط، وقد شحنت مركبي من سائر الأزهار والفواكه والرياحين والطعام والمدام، وأوقدت الشموع حتى صارت مثل ضوء النهار، وقد غرقنا في البسط، وبقينا في لعب وضحك إلى ثلث الليل الأول، وإذ قد أقبل من صدر الشط مركب وهو يعزف بالطارات والدفوف ويضيء كضوء الشمس وفيه وهج عظيم، فقلت للملاح: قدم بنا حتى نتفرج وننظر أينا أحسن تعبية مركبنا أو هذا المركب؟ فمددت عيني فرأيت صاحبتي الست بدور، وهي بين جواريها وغلمانها تلعب وتضحك، وهي مثل اسمها، اسم على مسمى، فلما وقعت عيني عليها، كأنما رمت في قلبي جمرة نار فقلت في نفسي: ما فارقت هذا الوجه المليح بذنب. ثم إني تذكرت العهد القديم الذي كان بيننا فلم أقدر أن اصبر، فمدت يدي وأخذت تفاحة
ورميتها إلى الست بدور فالتفتت فرأتني. فقالت للملاح: ارجع بنا إلى البر، نحن خرجنا هذه الليلة ننشرح، فأرسل الله لنا هذا الفتى ينغص علينا عيشنا. فلما سمعتها تشتمني أضرمت النار في قلبي ثم قلت لنفسي: أنت كنت المطلوب فصرت الطالب، فلم يهن لي عيش في هذه الليلة فقلت للملاح: ارجع إلى الشط. ثم إني نزلت ومضيت إلى منزلي وما ذقت طعم المنام. فلما أصبحت لم يقر لي قرار وصرت أترقب أن يأتي أحد من عندها، ثلاثة أيام، فلم يأت أحد فبعثت من يعرض بذكري لها، فدعت عليهم وشتمتهم. فكتبت لها بعد ذلك ألف كتاب، فلم ترد لي جواباً، وقد رميت روحي على كل كبير في البصرة، فيدخلون عليها فلم تقبل ولم تزدد إلا جفاء، ولي مدة أنتظرك يا شيخ أبا الحسن حتى أبعث معك كتاباً وأنا أحلف لك إن هي ردت لك جوابه أعطيتك ألف دينار، وإن لم ترد جوابه أعطيتك مائة دينار.
فقلت له: اكتب!.
فدعا بدواة وقرطاس وكتب في أول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من متيم يشكو إليك الصبابة ويسألك بالله أن تردي جوابه. أما بعد، فإنه يعجز لساني ويكل جناني مما أنا فيه من طول السهر ودوام الفكر، وبكى لبكائي أصم الحجر فألف ألفٍ لا أوحش الله منك والسلام عليك.
ثم ختم الكتاب وناولني إياه فأخذته وأتيت به إلى دار الست بدور، فلقيت الباب على غير تلك الحالة الأولى عليه ستر مرخي وبواب وخادم. فقلت: لا إله إلا الله، كان هذا الباب بالأمس خالياً من الأصحاب، واليوم عليه خادم وبواب، ثم إني تقدمت إلى الخادم، وقلت له: قم يا ولدي ادخل واستأذن على مولاتك الست بدور وقل لها: الشيخ أبو الحسن الخليع الدمشقي قد أتى ويطلب المثول بين يديك.
فغاب الخادم ثم عاد مسرعاً وقال: بسم الله ادخل.
فدخلت الدهليز فسمعت الست بدور وهي تقول:
ولأصبرن على الزمان وجوره
…
حتى يعود كما أريد وأشتهي
قال: فلما دخلت رأيتها قاعدة على حافة البركة، وبين يديها جارية تروح لها، فتقدمت وقبلت يدها وجلست فنظرت، وإذا عليها غلالة لازوردية، وجميع جسدها بائن من تحت الغلالة كأنه عمود مرمر، وعلى الغلالة مكتوب هذا البيات:
أقبلت في غلالة زرقاء
…
لازوردية كلون سماء
فتأملت في الغلالة ألقى
…
قمر الصيف في ليالي الشتاء
ليتني كنت للمليحة عقداً
…
أو لثاماً للوجه مثل الرداء
أو قميصاً من الحرير خفيفاً
…
لاصقاً بالفؤادِ والأحشاء
ضربتني بخنجر العشق حتى
…
صرت ملقى مخضباً بدمائي
تركتني على الطريق ونادت
…
من يصلي على قتيل هوائي
ثم إني لما فرغت من قراءة الأشعار قالت لجاريتها: هات لي بذلة قماش، ثم غيرت ما كان عليها، وجلست ثم أمرت بإحضار المائدة وقالت: بسم الله، كل يا أبا الحسن.
فقلت: لا والله لا أكلت لك طعاماً ولا شربت عندك مداماً حتى تقضي حاجتي.
فقال: كان هذا من الأول لكن والله قد وقعت من عيننا برواحك إلى الأمير عمرو قبل مجيئك إلينا.
فقلت لها: أنا ما رحتُ.
فقالت: تكون شيخاً وتكذب، أنت ما عبرت عليه ولقيت الطبيب، وهو يقول له: كيت وكيت، وجرى لك معه كذا وكذا، وهذا الكتاب في طي عمامتك وبالأمارة قال لك: إن ردت الجواب أعطيتك ألف دينار وإن لم ترد لي الجواب أعطيتك مائة دينار؟ فقلت: يا ستي من أعلمك بهذا؟ فقالت: أليس القائل يقول:
قلوب العاشقين لها عيون
…
ترى ما لا يراه الناظرونا
وأنا يا شيخ أبا الحسن أعشق منه وأرى أكثر مما يراه.
فقلت: صدقت يا مولاتي، كان ذلك.
ثم ناولتها الكتاب ففضته وقرأته ثم إنها مزقته وبصقت عليه، وداسته ورمته في البركة. فلما رأيت ذلك قلت في نفسي: هذا بذاك وفرض الدين لا بد له من وفاء إلا أني حصل لي بعض غيظ على الألف دينار التي تفوتني، فنظرت غلي وعرفت مني ذلك فقالت: يا شيخ أبا الحسن مم غيظك؟ إن كان وعدك بألف دينار، فبت الليلة عندي وكل واشرب والتذ واطرب، وخذ لك غداً مني ألف دينار وامض في حفظ الله.
فقلت: يا سيدتي يكاد الأمير عمرو أن يموت.
فقالت: دعنا من هذا الكلام.
ثم إن المائدة حضرت فأكلنا بحسب الكفاية، فلما فرغنا قالت: يا شيخ أتعرف لعب الشطرنج.
قلت: ما ألعب إلا على الحكم والرضا.
فقالت: نعم. ثم دعت بالشطرنج فوضع بين أيدينا ولعبت معها الدست الأول، غلبتني فأمرت الجواري أن يرموني في البركة، فمسكوني ورموني في البركة، فضحكت علي ساعة. ثم أخرجوني وقد ابتلت جميع حوائجي. فلما رأتني على تلك الحالة أمرت ببذلة من القماش من أفخر الملبوس فلبست فقالت: أتلعب أيضاً على الحكم والرضا؟ قلت: نعم، فلعبنا فاحتلت عليها، وأتيت لها بحكاية لطيفة مضحكة وشغلتها وسرقت القطع إلى أن غلبتها وتحكمت فيها وقلت: أريد الألف دينار وجواب الكتاب فأعطتني الألف دينار، وطلبت دواة والقرطاس، ثم إنها أطرقت ساعة ورفعت رأسها وكتبت تقول:
ألا يا عمرو كم هذا العناء
…
وكم هذا التجلد والجفاء
كتبت إلي تشكو ما تلاقي
…
من الأسقام إذ نزل القضاء
فسقم لا يزال بطول دهر
…
وداء ما له أبداً دواء
ولو ساعدتنا يا عمرو يوماً
…
لساعدناك إذ نزل البلاء
فعش ضباً ومت كمداً حزيناً
…
فواجدةٌ بواحدةٍ جزاء
فلا فرغت ناولتني الورقة فقرأتها فقلت: يا ستي، بالله عليك لا تفعلي وارحمي الأمير عمراً واكتبي له غير هذا.
فقالت: يا شيخ أبا الحس، أنت رسول أو فضولي؟ فقلت لها: رسول وفضولي وطفيلي، ويعظ القطط ويحلف أنه ما يبيت إلا في الوسط ويغني بليت بكم.
قال: فضحكت من كلامي، وقالت: حكمتك في نفسي.
فقلت: ست بدور أين تلك المحبة التي كنت تحبينها للأمير عمرو؟ فلو أبصرته ما عرفته من شدة ما يقاسي من الأسقام والآلام والأمراض.
فلما سمعت ذلك قالت: أخبرني عن أقوى شيء به من المرض؟ فقلت: يا سيدتي، ما أقدر أصف لك بعض ما فيه من ألم المرض. فترغرغت عيناها بالدموع ثم قالت: يعز علي ما وصفت لي عنه وروحي لروحه الفداء فالحمد لله الذي جعل اجتماعنا على يديك. ثم دعت بدرجٍ غير تلك الورقة وكتبت في أول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم،
ثم إنها ابتدأت تنشد وتقول:
وصل الكتاب فلا عدمت أناملاً
…
عنيت به حتى تضوع طيبا
ففضضته وقرأته، فوجدته
…
لخفي أوجاع القلوب طبيبا
فكأن موسى قد أعيد لأمة
…
أو ثوب يوسف قد أتى يعقوبا
المملوكة تقبل الأرض وتنهي أن شوقها شديد، وغرامها ما عليه من مزيد، ومأمولها من الحميد المجيد أن يجمع شملها بك قبل أن تريد، وأقول:
أشتاقكم حتى إذا نهض الهوى
…
لمقامكم قعدت بي الأيام
والله إني لو وصفت صبابتي
…
فني المداد وقلت الأقلام
ثم إنها نثرت فتات المسك والطيب في رسالتها وطوتها وحققتها وناولتني إياها فأخذتها وقمت مسرعاً وأنا فرحان إلى أن أتيت دار الأمير عمرو ودخلت الدهليز فسمعته يقول:
ترى حرمت كتب المحبة بيننا!
…
أسحر أم القرطاس أصبح غاليا
فاستأذنت عليه ودخلت فلما رآني قال لي: أقمح أم شعير؟ فقلت له: قمح مغر بل ليس فيله كدر. ثم ناولته الكتاب ففضه وقرأه فلما فهم معناه تهلل وجهه بالفرح فبكى وقال:
هجم السرور علي حتى إنه
…
من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين! قد صار البكا لك عادةُ
…
تبكين في فرح وفي أحزانِ
فلما فرغ من البكاء قال لي: يا شيخ ما أظن الحديد يلين ولا الصخر يذوبُ نعل أن تكون صنت هذا الكتاب من عندك؟ فقلت: يا مولاي والله ما صنعته ولا كتبته بل هو خطها بيدها.
فبينما هو يخاطبني، إذ هي عبرت علينا وهي تخطر لفي قوامها وهي تنشد وتقول:
نزوركم لا نجازيكم بجفوتكم
…
إن الكريم إذا لم ستزر زارا
فلما رآها الأمير عمرو نهض قائماً على قدميه ورمى بروحه عليها واعتنقها واعتنقته ساعة زمانية، فقمت لأخلي لهما المكان، فقالت الست بدور: إلى أين تروح يا شيخ؟ قلت أخلي لكما المكان لأنكما ما اجتمعتما من مدة سنة كاملة.
فقالت: لا تفارقني من الساعة إلى الصباح.
فقام الأمير عمرو وأخذنا ومضى بنا إلى مجلس مليح وقدم لنا الطعام المفتخر وأمر بإزالة كل شيء كان عليه من آلة الحزن وجيء له بالماء فغسل يديه وغسلنا أيدينا، وانتقلنا إلى مجلس الشراب، وبتنا في لذة ورأيت الماوية تدب في وجه الأمير عمرو. فلما أَصبحت قالت: يا شيخ أبا الحسن، امض وائتنا بالقاضي والشهود.
فلم يكن بأسرع مما أ؛ ضرتهم. فقالت الست بدور للقاضي: اكتب كتابي على الأمير عمرو، وقد وليت الشيخ أبا الحسن عقد النكاح.
فخطب القاضي خطبة النكاح وعقد العقد بينهما، فرسم الأمير عمرو للقاضي بألف دينار وللشهود بمائتي دينار، وعمل الوليمة وطبخ الطعام وعمل الحلاوات وجمع الناس ووضع بين أيديهم الموائد وأطعم الشارد والوارد، وزفت الست بدور تلك الليلة إلى الأمير عمرو، فلما وقفوا على المنصة قلت: ما تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها، ولو رآها غيره لزلزلت الأرض زلزالها، ثم تقدمت إلى الأمير عمرو وقلت له: يا مولاي، المثل يقول: العصفور يتفلى والصياد يتقلى، وأنتم تقولون: وا طرباه وأنا أقول وا حزناه.
فقالت الست بدور: ما معنى كلامك هذا؟ قلت: يا سيدتي الأمير عمرو وعدني بوعد والوعد على الكرماء دين.
فقالت الست بدور: صدق الشيخ أعطه الذي وعدته به. فقال الأمير عمرو لبعض غلمانه: أعط الشيخ أبا الحسن ألفاً وخمسمائة دينار، يستحق أكثر من ذلك.
فمضى الغلام وعاد بسرعة ومعه كيس وناولني إياه وأعطتني الست بدور مثله. ثم إني ودعتهم وخرجت إلى أن أتيت إلى الأمير محمد بن سليمان الزينبي، وقعدت عنده على عادتي، وأخذت رسمي الذي عليه في كل سنة وعدت إلى بغداد فما رأيت سنة أبرك علي منها، حصل لي فيها أربعة آلاف دينار.
وهذا جملة الحديث فتعجب الخليفة وقال: ما قصرت يا شيخ أبا الحسن خذ من جعفر ألف دينار لأنك أنت الذي أزلت عني ما بقلبي.
فقال جعفر: ومن عند أمير المؤمنين ألف دينار لأنه هو الذي زال عنه ما كان يجده.
فقال أبو الحسن: صدق الوزير أبقاه الله تعالى، ثم إنه قبض الألفين ديناراً ومضى إلى منزله والله أعلم.