الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المأمون والشاعر
وأتى شاعر المأمون فقال: لقد قلت فيك شعراً، فقال: أنشدنيه. فقال:
حياك رب الناس حياكا
…
إذ بجمال الوجه رقاكا
بغداد من نورك قد أشرقت
…
وورق العود بجدواكا
قال: فأطرق المأمون ساعة، وقال: يا أعرابي، وأنا قد قلت فيك شعراً، وأنشد يقول:
حياك ربُّ الناس حياكا
…
إن الذي أملت أخطاكا
أتيت شخصاً قد خلا كيسه
…
ولو حوى شيئاً لأعطاكا
فقال: يا أمير المؤمنين، الشعر بالشعر حرام، فاجعل بينهما شيئاً يستطاب.
فضحك المأمون وأمر له بمال، انتهى.
إبراهيم بن المهدي وصاحبة المعصم
وروى ابن عامر الفهري عن أشياخه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه من أهل البصرة عشرة رجال كانوا قد رموا عنده بالندقة، فحملوا إليه، فمر بهم طفيلي، فرآهم مجتمعين، فظن خيراً ومضى معهم إلى الساحل وقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسل ودخل الزورق وقال: لا شك إنها نزهة، فلم يكن إلا يسير، وقد قيد القوم، وقيد معهم. فعلم أنه وقع فيما لا طاقة له به، ورام الخلاص، فلم يقدر، وساروا إلى أن وصلوا بغداد وأدخلوا على المأمون، فاستدعى بهم بأسمائهم واحداً بعد واحد، وجعل يذكره بفعله وبقوله ويضرب عنقه، حتى لم يبق إلا الطفيلي، وفرغت العشرة فقال المأمون للموكل: من هذا؟ فقال: لا أعلم يا أمير المؤمنين، غير أننا رأيناه معهم، فجئنا به.
فقال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالقة إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً، ولا يعرف غير لا غله إلا الله ومحمد رسول الله، وإنما رأيتهم مجتمعين، فظننت أنها وليمة يدعون إليها، فلحقت بهم.
فضحك المأمون وقال: أوقد بلغ من شؤم التطفل أن يحل بصاحبه هذا المحل؟ لقد سلم هذا الجاهل من القتل، ولكن يؤدب، حتى لا يعود إلى مثلها.
وكان إبراهيم بن المهدي حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين، هبه لي، وأنا أحدثك عن نفسي، فيما وقع لي في التطفل من العجب.
فقال: وهبته لك، هات حديثك.
فقال: يا أمير المؤمنين خرجت متنكراً يوماً أنظر إلى سكك بغداد، فاستهوى بي الطرب والتفرج فانتهى بي المسير إلى موضع شممت فيه رائحة طعام وأبازير قد فاحت، وهفت نفسي إليها ووقفت، يا أمير المؤمنين، لا أقدر على المشي، فرفعت بصري، وإذا بشباك خلفه كف بمعصم ما رأيت أحسن منه، فبقيت حائراً، ونسيت رائحة الطعام، بذاك الكف، فأخذت في عمل الحيلة إلى الوصول إليها، فإذا بجانب المكان خياط، فسلمت عليه فرد علي السلام، فقلت: يا سيدي! لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين.
فقلت: ما اسمه؟ فقال: فلان.
قلت: هو ممن يشرب الخمر؟ قال: نعم، وأظن أن عنده اليوم أصحابه، تجار مثله.
فبينما نحن في الكلام إذ أقبل رجلان فقال لي: هذان ندماؤه.
فقلت له: ما اسمهما وما كنيتهما؟ فقال لي: فلان الفلاني وفلان الفلاني.
فحركت وراءهما رجلي، فلحقتهما فقلت: جعلت فداءكما، استبطأكما فلان أعزه الله، ولم أزل معهما، حتى أتيت البيت، فدخلت ودخلا، فلما رآني صاحب البيت بينهما لم يشك في أني معهما فرحب بي وأجلسني في أفضل الأماكن ثم جيء بالمائدة ونقلت إليها الألوان، فقلت في نفسي: هذه ألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقي الكف والمعصم، ثم جيء بالماء فغسلنا أيدينا ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا شكل مليح ما رأيت أحسن منه ولا أظرف، ورأيت صاحب المكان يتلطف بي ويقبل علي لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم على الحالة هذه إلى أن شربنا فخرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمت من غير خجل ولا احتشام، وجلست وأتي بعود فجسته أحسن جس، وإذا هي حاذقة في الصناعة وغنت تقول:
توهمها فكري، فأصبح خدها
…
وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي، فآلم كفها
…
فمن ضم كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلبالي، فطربت لحسن شعرها وحذقها ثم غنت تقول:
أشرت إليها: هل عرفت مودتي
…
فردت بطرف العين أني على العهد
فجادت عن الإظهار عمداً بسرها
…
وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذاقتها وإصابتها معني الشعر، فضحكت لما أصابني من الطرب الذي لم أملك نفسي معه ثم غنت تقول:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمنا
…
وإياك لا نلهو ولا نتكلم
سوى أعين تبدي سرائر أنفسٍ
…
وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب
…
وتكسير أجفان وكف تسلم
فزاد حسدي لها يا أمير المؤمنين على حذاقتها وإصابتها معنى الشعر لأنها لم تخرج عن المعنى وقلت: بقي عليك يا جارية شيءٌ، فرمت العود من يدها، وقالت: متى كنتم تحضرون الغناء مثل هذا؟ فندمت على ما كان مني ورأيت القوم كأنهم قد أنكروا علي، فقلت في نفسي: فاتني جميع ما أملت،، وأحببت أن أتلافى قضيتي فقلت: أثم عودٌ غير هذا؟ قالوا: نعم فأحضروا عوداً، فأصلحت ما أردت إصلاحه ثم قلت:
ما للمنازل لا تجيب حزيناً
…
أصممن أم قد بالبلاء بلينا
فما أتممت شعري حتى وثبت الجارية إلي، وانكبت على يدي تقبلها وتقول: المعذرة إليك يا سيدي، والله ما علمت مكانك، ولا سمعت بهذه الصناعة من أحد، ثم زادوا إكرامي وطربوا غاية الطرب، فشربت عدة أقداح، ثم غنيتهم أبياتاً فرأيت من طربهم شيئاً عظيماً حتى قلت إن أرواحهم، فارقت أبدانهم فسكت عنهم ساعة، حتى تراجعوا إلى عقولهم فعنيتهم وقلت:
هذا محبك مطوياً على كمده
…
وجداً، وأدمعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته
…
مما به واليد الأخرى على كبده
يا من رأى كلفاً في حبه دنفاً
…
كانت منيته في عينه ويده
قال: فجعلت الجارية تصيح وتقول: هذا والله الغناء والذي كنا فيه ليس بشيء، وشرب القوم فلما جاءهم البسط، وأخذ المجلس منتهاه أمر صاحب البيت عبدين له أن يحفظا النديمين إلى منزلهما، وخلوت معه. فقال: والله يا سيدي ذهب ما مضى من عمري باطلاً حيث لم أعرفك قبل يومي هذا فبالله يا مولاي من أنت.؟
فجعلت أرد عليه، وهو يقول ويقسم علي حتى أعلمته من أنا على الحقيقة، فلما سمع ذلك قام تعلى قدميه وقال: ما عجبت أن تكون هذه المكارم إلا لمثلك، وقد أصابني من الدهر نعم لا أقوم بشكرها، ثم قال: أترى هذا يقظة أم مناماً، أقسمت أني لا أزال هذه الليلة قائماً إلى أن تأذن لي، فإني أحقر من أن أجالس الملوك.
فأقسمت عليه بأن يجلس ثم أخذ في الكلام وجعل يعرض علي السبب الذي أوجب حضوري عنده بألطف تعريض فأخبرته بأمري على الحقيقة ولم أخف شيئاً، ثم قلت له: الطعام قد نلت منه بغيتي، وبقي الأمر الآخر، فوثب إلى باب القاعة، وقال: كل منكن تلبس أفخر ثيابها وتخرج علينا من المخدع، ثم استدعى بهن وجعل يقول: يا فلانة، وهن يخرجن واحدة بعد واحدة، وأنا لا أرى صاحبة الكف والمعصم إلى أن أتت أربعون امرأة.
فقال: والله ما بقي إلا أختي، وها أنا مخرجها إليك.
فقلت: افعل.
فقال: حباً وكرامة، ثم استدعاها فنزلت فرأيت يدها ومعصمها، فإذا هي التي رايتها، قلت: هذه الحاجة، فأمر غلمانه لوقته أن يأتوا بعشرة شهود، ثم قام وأخرج عشرين ألف درهم وألفاً أخرى، فلما حضروا قال لهم: هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب أختي فلانة، وأشهدكم أني قد زوجتها له وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم.
فقلت: قبلت الزواج.
ثم دفع الألف التي كان خرجها لهم، فشكروا له ودعوا وانصرفوا. ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت، تنام مع أهلك.
فأعجبني ما كان من كرمه واستحييت أن أدخل بها في داره. فقلت له: بل اجعلها في عمارية واحملها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين لقد حمل معها من الفرش والأثاث ما ضاقت به بيوتنا، فأولدتها هذا الغلام القائم بين يديك، يا أمير المؤمنين.
فتعجب المأمون من كرم الرجل وقال: لله دره ما أكرمه، والله ما سمعت بمثله قط، ثم أطلق الطفيلي وأمر بإحضار الرجل واستنطقه، فأعجبه حسن منطقه وعقله وأدبه فصيره من جملة خواصه ومنادميه، والله أعلم.
؟