الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جميل والفتى العذري وحبيبته
وحكى مسرور الخادم قال: أرق الرشيد أرقاً شديداً ليلة من الليالي، فقال: يا مسرور من على الباب من الشعراء؟ فخرجت إلى الدهليز فوجدت جميل بن معمر العذري فقلت: أجب أمير المؤمنين فقال: سمعناً وطاعة. فدخلت ودخل معي إلى أن صار بين يدي هارون الرشيد فسلم بسلام الخلافة، فرد عليه وأمره بالجلوس، فقال له الرشيد: يا جميل، أعندك شيء من الأحاديث العجيبة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أيما أحب إليك، ما عاينته ورأيته أو ما سمعته ووعيته؟ فقال: بل حدثني عما عاينته ورأيته.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أقبل علي بكلك واصغ إلي بأذنك قال: فقعد الرشيد إلى مخدة من الديباج الأحمر المزركش بالذهب، محشوة بريش النعام، فجعلها تحت فخذه ثم مكن منها مرفقيه، وقال: هلم بحديثك.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين، أني كنت مفتوناً بفتاة محباً لها، وكنت آلفها إذ هي سؤلي وبغيتي من الدنيا، وإن أهلها رحلوا بها لقلة المرعى، فأقمت مدة لا أراها، ثم إن الشوق أقلقني وجذبني إليها، فراودتني نفسي بالمسير إليها فلما كانت ذات ليلة من الليالي، هزني الوجد إليها، فقمت وشددت رحلي على ناقتي واعتممت بعمتي ولبست أطماري وتقلدت بسيفي وتنكبت حجفتي، وركبت ناقتي وخرجت طالباً لها، وكنت أجد في السير، فسرت وكانت ليلة مظلمة مدلهمة، وأنا مع ذلك أكابد هبوط الأودية وصعود لجبال، أسمع زئير الأسد وعواء الذئاب، وأصوات الوحوش من كل جانب، وقد ذهل عقلي وطاش لبي، ولساني لا يفتر عن ذكر الله تعالى.
فبينما أنا أسير كذلك إذ غلبني النوم فأخذت بي الناقة على غير الطريق التي كنت فيها، وزاد علي النوم، وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي فانتبهت فزعاً مرعوباً، وإذا بأشجار وأنهار وماء وأطيار على تلك الأغصان تترنم بلغاتها وألحانها، وشجار ذاك المرج مشتبكة بعضها ببعض، فنزلت عن ناقتي وأخذت زمامها بيدي، ولم أزل أتلطف بها إلى أن خرجت بها من تلك الأشجار إلى أرض فلاة، فأصلحت كورها، واستويت راكباً على ظهرها، ولا أدري إلى أين أذهب ولا إلى ما تسوقني الأقدار؟ فمددت نظري في تلك البرية، فلاحت لي نار في صدرها فوكزت ناقتي وسرت طالباً إلى أن وصلت إلى
تلك النار، فقربت نفسي منها وتأملت وإذا بخباء مضروب ورمح مركوز، وراية قائمة وخيل واقفة، وإبل سائمة، فقلت في نفسي: يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم، فإني لا أرى في هذه البرية سواه، ثم تقدمت خلف الخباء وقلت: السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله وبركاته.
فخرج إلي من الخباء غلام من أبناء تسعة عشر، كأنه البدر إذا أشرق، والشجاعة لائحة بين عينيه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أخا العرب، إني أظنك ضالاً عن الطريق؟ فقلت: الأمر كذلك، أرشدني يرحمك الله تعالى.
فقال: يا أخا العرب إن أرضنا هذه مسبعةٌ، وهذه الليلة مظلمة وحشة شديدة الظلمة والبرد ولا آمن عليك من الوحش أن يفترسك، فانزل عندي على الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتك إلى الطريق.
قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها بفاضل زمامها ونزعت ما كان علي من أطمار، وجلست ساعة، وإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها وإلى نار فأضرمها وأججها ثم دخل الخباء وأخرج أزاراً ناعمة ولحماً مطيباً وأقبل يقطع من اللحم ويشوي على النار ويطعمني ويتنهد تارة، ويبكي تارة أخرى، ثم شهق شهقة عظيمة وبكى بكاء شديداً وأنشد يقول:
لم يبق إلا نفس خافت
…
ومقلة إنسانها باهت
لم يبق في أعضائه مفصل
…
إلا وفيه سقم ثابت
فدمعه جار وأحشاؤه
…
توقد، إلا أنه ساكت
تبكي له أعداؤه رحمةً
…
يا ويح من يرثي له الشامت
قال جميل: فعند ذلك يا أمير المؤمنين علمت أن الغلام عاشق ولهان، ولا يعرف الهوى إلا من ذاق طعم الهوى، فقلت في نفس: أنا في منزل الرجل وأتهجم عليه في السؤال؟ فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم بحسب الكفاية، فلما فرغت من الأكل قام الشاب ودخل الخباء وأخرج طشتاً نظيفاً وإبريقاً حسناً ومنديلاً من الحرير أطرافه مزركشة بالذهب الأحمر وقمقماً مملوءاً من الماورد الممسك. فتعجبت من ظرفه ورقة حاشيته، وقلت في نفسي: ما أغرب الظرف في البادية.
ثم غسلنا أيدينا وتحدثنا ساعة ثم إنه قام ودخل الخباء وقطع بيني وبينه بمقطع من الديباج الأحمر، ثم خرج وقال: ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك فقد لحقك في هذه الليلة تعب وفي سفرك هذا نصب مفرط.
قال جميل: فدخلت فإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر، فعند ذلك نزعت ما كان علي من الثياب ونمت بليلة لم أنم عمري مثلها، فلم أزل كذلك، وأنا متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جن الليل ونامت العيون، فلم شعر إلا بحس خفي لم أسمع ألطف منه ولا أرق حاشية، فرفعت سجاف المضرب، ونظرت فإذا أنا بصبية لم أر أحسن منها وجهاً وهي إلى جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألم الهوى والصبابة والجوى وشدة اشتياقهما إلى التلاقي، فقلت: يا الله؛ العجب من هذا الشخص الثاني، وهذا بيت فرد فإني لم أر فيه غير هذا الفتى، وليس حوله أحد، ثم قلت في نفسي: لا شك أن هذه الجارية من بنات الجن تهوى هذا الغلام، وقد تفرد بها في هذا المكان وتفردت به، فحققتها فإذا هي أنسية عربية إذا رمقت تخجل الشمس المضيئة، وقد أضاء الخباء من نور وجهها، فلما تحققت أنها محبوبته غلبتني الغيرة على الحب، فأرخيت الستر وغطيت وجهي ونمت، فلما أصبحت لبست ثيابي، وتوضأت لصلاتي، وصليت ما كان علي من الفرض، ثم قلت له: يا أخا العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق، فقد تفضلت علي.
فنظر إلي وقال: على رسلك يا وجه العرب، الضيافة ثلاثة أيام وما كنت بالذي يدعك إلى لثلاثة أيام.
قال جميل: فأقمت عنده ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع جلسنا للحديث فحادثته وسألته عن اسمه ونسبه فقال: أما نسبي فأنا من بني عذرة، وأنا فلان بن فلان وعمي فلان، فإذا هو ابن عمي، يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيت في بني عذرة، قال: فقلت: يا ابن العم، ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية، وكيف تركت عبيدك وإماءك وانفردت بنفسك في هذا المكان؟ فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي، ترغرغت عيناه بالدمع ثم قال: يا بن العم إنني كنت محباً لابنة عمي، مفتوناً بها هائماً بحبها مجنوناً عليها لا أطيق الفراق عنها، فزاد عشقي لها، فخطبتها من عمي، فأبى أن يزوجنيها وزوجها من رجل من بني عذرة ودخل بها وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام الأول، فلما بعدت عني وحجبت عن النظر إليها حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق والجوى على تركي أهلي ومفارقتي عشيرتي وخلاني وجميع أمتعتي، وانفردت بهذا البيت في هذه البرية وألفت وحدتي.
فقلت: وين أبياتهم؟ قال: هم قريب في ذروة هذا الجبل، وفي كل ليلة عند نوم العيون وهدو من الليل تنسل من الحي سراً بحيث لا يشعر بها أحد فأقضي منها بالحديث وطراً وتقضي هي كذلك، وها أنا مقيم كذلك على هذا الحال أتسلى بها ساعة من الليل ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، أو يأتيني الأمر على رغم الحاسدين، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين.
قال جميل: فلما حدثني الغلام يا أمير المؤمنين، غمني أمره وصرت من ذلك في حيرة لما أصابني عليه من الغيرة، فقلت له: يا ابن العم، هل لك أن أدلك على حيلة أشير بها عليك، وفيها إن شاء الله عين الصلاح وسبيل الرشد والنجاح، وبها يفرج الله عليك الذي تخشاه.
فقال لي: قل يا ابن العم.
فقلت له: إذا كان الليل وجاءت الجارية فاطرحها على ناقتي، فنها سريعة الرواح، واركب أنت جوادك، وأنا أركب بعض هذه النوق وأسير بكم الليلة جميعها. فما يصبح الصباح إلا وقد قطعت بكم براري وقفاراً وتكن قد بلغت مرادك وظفرت بمحبوبة قلبك، وأرض الله واسعة فضاؤها، وأنا والله مساعدك ما حييت بروحي ومالي وسيفي.
فلما سمع ذلك قال لي: يا ابن العم، حتى أشاورها في ذلك، فإنها عاقلة لبيبة بصيرة بالأمور.
قال جميل: فلما جن الليل وحان وقت مجيئها وهو منتظر الوقت لمعلوم فأبطأت عن عادتها فرأيت الفتى، وقد خرج من باب الخباء وفتح فاه وجعل يتنسم هبوب الريح التي تهب من نحوها وأنشد يقول:
ريح الصبا تهدي إلي نسيماً
…
من بلدةٍ فيها الحبيب مقيم
يا ريح فيك من الحبيب علاقةٌ
…
أفتعلمين متى يكون قدوم
ثم دخل الخباء وقعد ساعة زمانية، وهو يبكي، ثم قال لي: يا ابن العم، إن لبنت عمي في هذه الليلة نبأ وقد حدث لها حادث وعاقها عني عائق، ثم قال ل: كن مكانك حتى آتيك بالخبر. ثم أخذ سيفه وحجفته ثم غاب عني ساعة من الليل ثم أقبل وعلى يديه شيء يحمله ثم صاح إلي فأسرعت إليه. فقال: أتدري يا ابن المم ما الخبر؟ فقلت: لا والله.
فقال: فجعت في ابنة عمي في هذه الليلة لأنها كانت توجهت إلينا كعادتها إذ عرض لها في طريقها أسد فافترسها ولم يبق منها إلا ما ترى.
ثم إنه طرح ما كان على يده. فإذا هو مشاش الجارية وما فضل من عظامها. ثم بكى بكاء شديداً ورمى الترس من يده وأخذ كساء على يده ثم قال لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى.: ثم سار فغاب عني ساعة ثم عاد وبيده رأس الأسد فطرحه عن يده ثم طلب ماء فأتيته به فغسل فم الأسد وجعل يقبله ويبكي ويئن وزاد حزنه عليها وأنشد يقول:
ألا أيها الليث المدل بنفسه
…
هلكت لقد هيجت لي بعدها شجنا
وصيرتني فرداً وقد كنت إلفها
…
وصيرت بطن الأرض لي ولها وطنا
أقول لدهر خانني بفراقها
…
وغار عليها أن أكن لها حزنا
ثم قال: يا ابن العم، سلتك بالله وبحق القرابة والرحم التي بيني وبينك إلا حفظت وصيتي؟ إنك ستراني الساعة ميتاً بين يديك، فإذا كان كذلك، فغسلني وكفني أنا وهذا الفاضل من مشاش الجارية في هذا الثوب وادفنا في قبر واحد واكتب على قبرنا هذه الأبيات، وأنشد يقول:
كنا على ظهرها، والعيش في رغد
…
والشمل مجتمع والدار والوطن
ففرق الدهر والتصريف ألفتنا
…
وصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: ثم بكى بكاء شديداً. ثم دخل المضرب وغاب عني ساعة وخرج وجعل يتنهد ويصيح ثم شهق شهقة فارق الدنيا، فلما رأيت ذلك منه عظم علي وكبر عندي حتى كدت ألحق به من شدت حزني عليه، ثم تقدمت إليه وفعلت به ما أمرني من الغسل وكفنتهما جميعاً ودفنتهما في قبر واحد، وأقمت عند قبرهما ثلاث أيام ثم ارتحلت وأقمت سنين أتردد إلى زيارتهما.
وهذا ما كان من حديثهما، يا أمير المؤمنين قال: فلما سمع الرشيد كلامه استحسنه وخلع عليه وأجازه جائزة حسنة، والله أعلم.