الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافة أمير المؤمنين المعتصم بالله أحمد
كان يسمى السفاح الثاني لأنه جدد ملك بني العباس بعد أن أخلقته الأتراك وأذلته، وفي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:
كما بأبي العباس أنشيء ملككم
…
كذا بأبي العباس أيضاً يجدد
ولقد اتفق في أيامه، على ما حكي، أمر فظيع كشفه الله له بهيبته في نفوس الناس، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتم ما في نفسه مخافة صولته لأنه كان لشدة حذقه، يتخيل لهم أنه يعلم ما في نفس الإنسان من الضمير. فاتفق أن أحد وزرائه وأكبر قواده بني بناء عالياً مشرفاً على منازل جيرانه، فلم يعارضه أحد فيه من جيرانه لمكانته من سلطانه وعزه، وكان يجلس كثيراً في ذلك البناء، فرأى يوماً من الأيام في دار من دور جيرانه جارية بارعة الجمال، فولع بها، فسأل عنها، فأخبر أنها بنت أحد التجار، فأرسل إلى والدها خاطباً، فقال له أبوها، وكان من أهل اليسار: لست أزوجها إلا من تاجر مثلي، فإنه إن تزوجها من هو مثلي لم يظلمها، وإن ظلمها قدرت على النصفة منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على النصفة منك، ولا على الحيلة لنصرتها.
فلم يزل يرومه في ذلك بكل أمر وتوسط إليه بالأكابر والأماثل من الناس، وهو مع ذلك يمتنع، فلما يئس منه أن يجيبه، شكا إلى أحد خواصه فقال له: ألف مثقال يقوم لك هذا.
فقال: كيف ذلك؟ والله لو علمت أني أنفق عليها مائتي ألف مثقال أو أكثر وتأتيني بها لفعلت.
قال له: عليك أن تحضر لي ألف دينار.
فأمر بإحضارها فمشى بها ذلك الرجل إلى عشرة رجال كانوا عدولاً عند القاضي في شهادتهم، وذكر لهم الأمر، وقال: هذا أمر ليس عليكم من الله فيه تبعة، فإنه يصدقها كذا وكذا ألفاً، وأغلى لهم المهر، وإنكم تحيون نفساً أشرفت على الهلاك، ويكون لكم عنده مع هذا من الجاه ما ترغبون، وأبوها إنما هو عاضل لها عن الزواج، وإلا فما يمنعه من ذلك، وقد خطبها مثل فلان في جلالة قدره ومكانة أمره، وقد أعطاه صداقاً لا يعطى إلا لبنت ملك ثم هو مع هذا يأبى، هل هذا إلا عضل بين؟ ولكن لكم ألف مثقال لك واحد منكم مائة وتشهدون أنه قد زوجها به فإنه إذا علم أبوها بأنكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا إذ ليس فيه إلا الخير والخيرة.
فأخذ الشهود كل واحد منهم مائة وشهدوا أن أباها زوجها على صداق مبلغه كذا، ورفعوا في الصداق إلى غاية ما ترفع إليه صداقات الملوك، فلما علم أبوها بذلك زاد
نفاراً وإباء، فمشى الوزير وذلك القائد إلى القاضي وقال: إني تزوجت فلانة بنت فلان على هذا الصداق، وهؤلاء شهدوا عليه، ثم قد ناكرني وأنكر الشهود، وقد أردت أن أدفع له حق ابنته وآخذها.
فأمر القاضي بإحضار الشهود فشهدوا عنده وأحضر مال النقد بين يدي القاضي، والرجل على إنكاره متماد، فأمر القاضي بإمضاء الحكم عليه، وأن تؤخذ ابنته منه أحب أو كره، وأمر بحمل المال إليه، فلما وصلت الجارية عند الوزير، لم يزل أبوها يروم الوصل إلى المعتصم. وكان المعتصم غليظ الحجاب لا يصل إليه أحد من غير الخاصة، فقيل للرجل أنه يحضر كل يوم ساعة من النهار على بنيانٍ له بقصره، فإن استطعت أن تكون مع جملة رجال الخدمة تصل إليه وتكلمه بما أردت.
ففعل الرجل ذلك وغير شكله، ودخل في جملة رجال الخدمة للبناء، فلما كان ذلك الوقت الذي كانت عادة أمير المؤمنين المعتصم يقف فيه على ذلك البناء خرج ذلك الرجل فترامى إلى الأرض وجعل يحثو التراب على رأسه ويستغيث، فسأله عن شأنه فقص عليه القصة، فأرسل المعتصم في ذلك المقام، خلف ذلك القائد وأغلظ عليه في القول، فحملته هيبته له، وقلة إقدامه على الكذب عليه، أن وصف له الصورة على ما كانت عليه، وهو يطمع أن يعذره في ذلك، إذ قد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، وأمر بإحضار الشهود فصنعوا مثل صنيع صاحبهم وذلك كله رهبة له وإجلالاً أن يخاطبوه بكذب مع تخيلهم أنه يصفح لهم عن هذه الزلة إذ قد أرادوا إحياء نفس ذلك الوزير، وأيضاً قد دفع له بين يدي القاضي نقداً لا يكون إلا في صدقات الملوك، وقد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، فكأنه قد أخذها بحقها أو بأكثر من حقها.
فلما تحققت عنده جلية الخبر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يوضع ذلك الوزير في جلد ثور طري السلخ، ويضرب بالمرازب حتى يختلط عظمه ولحمه ودمه، ثم أمر به، لما صنع به ذلك، أن يفرغ بين يدي نمور كانت عنده، فلما لعقت تلك النمور ذلك الدم أمر الرجل أبا البنت أن يأخذ ابنته ويأخذ كل ما ذكروا لها على ذلك الوزير في صداقها من عقار ودور ومال.
ثم مات المعتصم وولي ابنه المقتدر وكان صبياً صغير السن، فعادت الأتراك إلى ما كانت عليه من ذلك، والله تعالى أعلم.