الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبراهيم بن المهدي والمأمون
قال الواقدي: كان إبراهيم بن المهدي ادعى لنفسه الخلافة بالري وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً وله أخبار كثيرة.
فما حكاه قال: لما دخل المأمون الري في طلبي أثقل علي الطلب وجعل لمن دل علي وأتاه بي مائة ألف درهم، فخفت على نفسي، وتحيرت في أمري، فخرجت من داري وقت الظهر، وكان يوماً صائفاً، وما أدري أين أتوجه، فمررت بزقاق لا ينفذ، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، وخفت إن رجعت على أثري يعلموا بين فرأيت في صدر الزقاق عبداً أسود قائماً على باب داره، فتقدمت إليه، وقلت له: عندك موضع أقيم فيه ساعة من النهار؟ قال: نعم، وفتح الباب، فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصر نظيفة وبسط ومخدات جلد، ثم إنه أغلق الباب علي ومضى، فخفت أن يكون سمع الجعالة في حقي، وأنه عرفني ومضى ليدلهم علي، فبقيت مثل الحبة في المقلاة قلقاً ميتاً من الخوف، فبينما أنا كذلك، إذ أقبل ومعه حمال حامل كل ما أحتاج إليه من لحم وخبز وقدر جديدة وجرة وكيزان جدد، ثم التفت إلي وقال: جعلني لله فداك! أنا رجل حجام، وأنا أعرف أنك تنفر مني لما أتولاه من معيشتي، فشأنك بما لم تقع عليه يدي.
وكان لي حاجة إلى الطعام فقمت وطبخت قدراً ما ظننت أني أكلت مثلها قدراً، فلما قضيت أربي، قال لي: هل لك أن تشرب شيئاً فإنه يسلي الهم ويزيل الغم، ويمهد للنفس الفرح؟ قلت: ما أكره ذلك، رغبة في مؤنسته.
فأتى بقطرميز جديد وأحضر لي نقلاً وفاكهة في أوان جدد من فخار، ثم قل بعد ذلك: إن أذنت لي، جعلت فداك أن أقعد بناحية منك وآتي بشراب فأشرب مسروراً بك.
فقلت: افعل.
ففعل وشرب ثلاثاً، ثم خل إلى خزانة له: فأخرج عوداً مصلحاً، ثم قال: يا سيدي ليس من قدري أن أسألك أن تغني، ولكن قد وجب على مروءتك حرمتي، فإن رأيت أن تشرف عبدك بأن تغني لنفسك والعبد يسمع فافعل.
فقلت له: ومن أين لك أني أحسن الغناء؟ فقال متعجباً: سبحان الله! أنت أشهر من ذلك، أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن يدل عليك مائة ألف درهم.
فلما قال ذلك عظمت مروءته عندي، وعلمت أن نخوته أجل مما بذل، فتناولت العود فأصلحته، وقد مر بخاطري ذكر أهلي وولدي، فقلت:
وعسى الذي أهدى ليوسف أهله
…
وأعزه في السجن وهو غريب
أن يستجيب لنا فيجمع شملنا
…
فالله رب العالمين قريب
فقال: يا سيدي اجعل ما تغنيه مما أقتضيك به.
قلت: نعم. فقال: غن لي:
إن الذي عقد الذي انعقدت به
…
عقد المكاره، فهو يملك حلها
فاصبر، فإن الله يعقب راحةً
…
فلعلها أن تنجلي، فلعلها
فحسن عندي اقتراحه وشربت، ثم قال لي: غن لي:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن
…
وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً
…
خزائنه بعد الخلاص من السجن
ففرح وشرب وشربت، وقال: غن لي:
إذا الحادثات بلغن النهى
…
وكادت لهن تذوب المهج
وحل البلاء وقل العزاء
…
فعند التناهي يكون الفرج
وغنيته وحسن في نفسي اقتضاؤه، وأنست به، واستظرفته، ثم قال: إن رأيت يا سيدي أن تأذن لي أن أغني ما خطر ببالي، وإن كنت من غير أهل الصناعة؟ فقلت: يكون ذلك زيادةً في أدبك ومروءتك.
فأخذ العود، ثم قال: دستور، ثم ضرب عليه، وغنى يقول:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا
…
فقالوا لنا: ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم
…
سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى
…
جزعنا، وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما
…
نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فقلت: والله ذهب عني كل ما كان عندي من الفزع وسألته أن يغني، فغنى يقول:
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا
…
فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز، وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم لا نرى الموت سبةً
…
إذا ما رأته عامرٌ وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا
…
وتكرهه آجالهم فتطول
فوالله لقد أجاد وذهب عني كل ما كان من الفزع والجزع، واستأنست به وأخذني من الطرب ما لا مزيد عليه، وعالجني النوم قبل أوانه فنمت، ولم أستيقظ إلا بعد المغرب، وجال فكري في هذا الحجام وأدبه وظرفه، وكيف غناؤه وأدبه وإرادته أن يسليني عما أنا فيه إشارة إلى تخصيصه بالوفاء لضيفه ونصره لجاره، فقعدت وغسلت وجهي ويقظته، وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دناينر ومصاغ لها قيمة فدفعتها إليه، وقلت له: أنت في وداعة الله وحفظه فإني ماض عنك، وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك، ولك عندي، إذا أمنت، المزيد، فأعادها علي مبادراً وقال: يا سيدي! الصعلوك لا قيمة له عند أهل الرياسات، ويظنون فيه الظنون الرديئة، أفآخذ على ما وهبني الله من قربك وحلولك في منزلي ثمناً؟ لا والله، فألححت عليه، فأخذ موسى بيده وقال: والله إن راجعتني لأنحرن نفسي، فخشيت عليه وأخذت الخريطة وأثقلني حملها، فلما انتهيت إلى باب الدار، قال: يا سيدي إن هذا الموضع أخفى لك من غيره، وليس عندي في مؤنتك ثقلة، فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك. فرجعت وسألته أن يكون منفقاً من تلك الخريطة فلم يفعل، وكان كل يوم يفعل بي مثل ما فعل في اليوم الأول.
قال: فأقمت أياماً في أطيب عيش وأهناه، ثم سئمت من الإقامة عنده وخشيت الثقل عليه، فتركني ومضى يجدد لنا حالنا، فلبست ثيابي وتزينت بزي النساء بالخف والنقاب، وخرجت. فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف والفزع أمر شديد ومشيت لأعبر الجسر، وإذا هو قد رش، ورجل قائم فأبصرني بعض من كان في خدمتي من الجند فتعلق بين وقال: طلبة أمير المؤمنين، فدفعته في صدره فوقع في الزلق وصار عبرة وتبادر الناس إليه فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر، ودخلت زقاقاً فوجدت باباً وامرأة واقفة فيه، فقلت: يا سيدة النساء، احقني دمي فإني رجل خائف.
فقالت: ادخل، فدخلت فأطلعتني إلى غرفة وفرشت لي وقدمت لي طعاماً. وقالت: ليهدأ روعك فإنه لا يعلم بك مخلوق، ولو أقمت سنة ما عليك بأس، وإذا بالباب يدق، فخرجت وفتحت الباب، فإذا هو صاحبي الذي دفعته على الجسر، وهو مشدوخ الرأس ودمه يسيل على ثيابه، فقالت له ما دهاك؟ قال: إن حديثي عجيب وأمري غريب ظفرت بالفتى وانفلت من يدي.
قالت: وكيف؟ قال: إبراهيم بن المهدي لقيته فتعلقت به فدفعني فأصابني ما ترين من حالي ولو حملته إلى أمير المؤمنين لأخذت منه مائة ألف درهم.
قال: فأخرجت له حراقاً وذروراً، وفرشت له بعد كبس جرحه فنام قليلاً وطلعت وقالت لي: أظنك صاحب القصة؟ قلت: نعم.
فقالت لي: إني خائفة عليك، ثم جددت لي الكرامة وأقمت عندها ثلاثة أيام، ثم قالت لي: إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع على أمرك فينم عليك فانج بنفسك.
فسألتها إمهالي إلى الليل. فلما دخل لبست زي النساء وخرجت منم عندها وأتيت إلى بيت مولاة لنا، فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله تعالى على سلامتي وخرجت كأنه تريد كرامتي، فتوجهت للسوق مظهرة الاهتمام للضيافة فظننت خيراً، فلم أشعر إلا بإبراهيم الموصلي بخيله ورجاله، والمولاة معه حتى سلمتني إليه، فرأيت الموت عياناً، وحملت مثل ما أنا إلى أمير المؤمنين، فجلس مجلساً عاماً، وأمر بإدخالي عليه، فلما مثلت بين يديه سلمت عليه سلام الخلافة، فقال: لا سلمك الله، ولا حفظك ولا رعاك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، ومن تناولته يد الأقدار ربما مد له من أسباب الرجاء ما يأمن معه عادية الدهر، وقد جعلك الله فوق خلقه، وأصبح عفوك فوق كل ذي عفو، فإن تأخذ فبحقك، وإن تعف فبفضل، وأنشدت أقول:
ذنبي إليك عظيموأنت أعظم منهفخذ بحقك أولا
واصفح بحلمك عنهإن لم أكن في فعاليمن الكرام فكنه
قال: فرفع رأسه إلي، فقلت مبتدراً:
أتيت ذنباً عظيماً
…
وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن
…
وإن جزيت فعدل
قال: فرق المأمون واسترجع فرأيت روائح الرحمة في شمائله، ثم أقبل على أخيه أبي إسحاق محمد المعتصم وابنه العباس وجميع من حضر من خصته، وقال: ما ترون في أمره؟ فأشار الكل بقتلي، إلا أنهم اختلفوا في القتل، فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما تقول يا أحمد؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن قتلته فقد وجدنا مثلك قتل مثله، وإن عفوت لم نجد مثلك في العفو.
فنكس المأمون رأسه إلى الأرض وجعل يخط في الأرض بإصبعه، ثم رفع رأسه وقال:
قومي هموا قتلوا أميم أخي
…
فإذا رميت يصيبني سهمي
ثم قال المأمون: لا بأس عليك يا عم.
فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أفوه معه بعذر، وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكن أقول:
إن الذي خلق المكارم حازها
…
في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابةً
…
وتظل تكلؤهم بقلبٍ خاشع
ما إن عصيتك والغواة تمدني
…
أسبابها إلا بنية طائع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله
…
عفو، ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أشباحاً كأفراخ القطا
…
وحنين والدةٍ بقلب جازع
فقال المأمون: لا تثريب اليوم عليك، قد عفوت عنك، ورددت عليك مالك وضياعك، فأنشدت أقول:
رددت مالي ولم تبخل علي به
…
وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
أمنت منك وقد خولتني نعماً
…
نعم الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمعي أبغي رضاك به
…
والمال حتى أسل النعل من قدمي
وإن جحدتك ما وليت من نعم
…
إني إلى اللؤم أول منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام كلاماً كالدر، وهذا منه، وأمر لي بمالي وخلع علي، وقال: يا عم إن أبا إسحاق والعباس أشار بقتلك.
فقلت: إنهما نصحاك يا أمير المؤمنين، ولكن فعلت ما أنت أهله، ودفعت ما خفت أنا بما رجوت.
فقال المأمون: لقد مات حقدي بحياة عذرك، وقد عفوت عنك.
ثم سجد المأمون طويلاً، ثم رفع رأسه، ثم قال: يا عم أتدري لم سجدت؟ قلت له: شكراً لله تعالى على ما أوقعك علي وملكك إياي في ديك تفعل بي ما تشاء.
فقال: أخطأت! ولكن أشكر الله تعالى على ما ألهمني من العفو عنك من قبل نفسي، ثم قال: وأعظم من عفوي عنك أنني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين، فحدثني بما كان من أمرك.