الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سك النقود في الإسلام
وقال الكسائي: دخلت على الوليد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مال كثير قد أمر بتفرقته على خدمه الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: هو يا سيدي عبد الملك بن مروان.
قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا أعلم غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة.
قال: سأخبرك، كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية وكان طرازها أباً وابناً وزوجة وبنتاً، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك، فتنبه وكان فطناً، فبينما هو ذات يوم جالس إذ مر به قرطاسٌ فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية ففعل ذلك فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في دين الإسلام أن يكون طراز القراطيس هكذا وهي تعمل في الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد. فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان، وكان عامله بمصر، ببطال ذلك الطراز الذي يعمل على الثياب والقراطيس والستور وغير ذلك، وأن تعمل صناع القراطيس سورة التوحيد، وشهد أن لا إله إلا هو، وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت، ولم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منه بالضرب الوجيع والحبس الطويل بعدما أثبت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم منها وانتشر خبرها ووصل إلى ملكهم فترجم له ذلك الطراز، فأنكره وعظم عليه، واستشاط غيظاً فكتب إلى عبد الملك: إني أعمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم تزل تطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الخلتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تليق بمحلك، وأحببت أن ترد طراز تلك القراطيس إلى ما كان عليه، وجميع ما كان يطرز أولاً لأشكرك عليه وتأمر بقبض الهدية. وكانت عظيمة القدر.
فلما قرأ عبد الملك كتابه، رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له ورد الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه.
فلما وافاه أضعف الهدية، ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننت أنك استقللت الهدية، فلم تقبلها ولم تجبني إلى كتابي فأضعفت الهدية، وأنا أرغب إليك مثل ما رغبت فيه أولاً من رد الطراز إلى ما كان عليه.
فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم كتاباً يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمت أن استقللت الهدية فأضعفتها، فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها لك ثالثاً، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدراهم والدنانير، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم أر الدراهم والدنانير نقشت في بلاد الإسلام فتنقش عليها شتم نبيك، فإذا قرأته ارفضَّ جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه أول الأمر، وكانت هدية بررتني بها ويبقى الأمر بيني وبينك.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه، وعظم، وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى إلى أبد الدهور. ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عندهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه.
فقال: ويحك بم؟ قال: عليك بالباقر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: صدقت، ويمكنه يا روح الرأي فيه. قال: نعم.
فكتب إلى عامله بالمدينة أن أرسل محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه وثلاثمائة درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه. وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي، فلما وافاه أخبره الخبر فقال له محمد رضي الله عنه: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية تدعو في هذا الوقت بصناع يضربون سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما في وجه الدرهم والدينار والأخرى في الوجه الثاني
وتجعل في مدار الدرهم أو الدينار، ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الثلاثة أصناف التي، العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل فتكون أوزانها جميعاً أحداً وعشرين مثقالاً فيجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل وتصب صنجاة من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.
وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن راس البغل ضربها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بسكة كسروية في الإسلام، مكتوب عليها صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية نوش خور، أي كل هنيئاً، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السامرية الخفاف، والثقال ونقشها نقش فارس، ففعل ذلك عبد الملك وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه أن يكتب السكة في جميع بلدان الإسلام وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرهما، وأن تبطل وتزد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكة الإسلامية.
ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه بذلك ويقول: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية.
فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب.؟ فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأنني كنت قادراً عليه بالمال وغيره برسوم الرسوم، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وامتنع من الذي قال وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى اليوم.
ثم رمى يعني الوليد بالدرهم إلى بعض الخدم.