الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصعيدي والفرنجية
ومن غرائب المنقول وعجائبه عن الأمير بدر الدين أبي المحاسن، يوسف المهمندار، المعروف بمهمندار العرب أنه قال حكى لي الأمير محمد، شجاع الدين الشيرازي، متولي القاهرة في أيام الكامل سنة ثلاثين وستمائة، قال: بتنا عند رجل بالصعيد، فأكرمنا، وكان الرجل شديد السمرة، وهو شيخ كبير، فحضر له أولاد بيض الوجوه، حسان الأشكال، فقلنا له: هؤلاء أولادك؟ قال: نعم، ثم قال: كأنكم أنكرتم علي بياضهم وسوادي؟ قلنا: نعم. فقال: هؤلاء كانت أمهم إفرنجية أخذتها أيام الملك الناصر صلاح الدين، وأنا شاب.
فقلنا: وكيف أخذتها؟ قال: حديثي فيها عجيب وأمري غريب.
فقلنا: أتحفنا به.
فقال: زرعت كتاناً في هذه البلدة وقلعته ونفضته، فصرفت عليه خمسمائة دينار، ثم لم يبلغ الثمن أكثر من ذلك، فحملته للقاهرة فلم يصل أكثر من ذلك فأشير علي بحمله إلى الشام، فحملته فلم يزد على تلك القيمة شيئاً، فوصلت به إلى عكا فبعت بعضه لأجلٍ والبعض تركته، واكتريت حانوتاً لأبيع على مهل إلى أن تنقضي المدة. فبينما أنا أبيع إذ مرت بي امرأة فرنجية، ونساء الإفرنج يمشين في الأسواق بلا نقاب فأتت تشتري مني كتاناً، فرأيت من جمالها ما بهرني فبعتها وسامحتها ثم انصرفت وأتت إلي بعد أيام فبعتها وسامحتها أكثر من المرة الأولى، فتكررت لي وعلمت أني أحبها فقلت للعجوز التي كانت معها: إنني قد تلفت بحبها، وأريد منك الحيلة.
فقالت لها العجوز ذلك، فقالت: تروح أرواحنا الثلاثة أنا وأنت وهو، فأعادت علي الجواب فقلت لها: أما أنا فقد سمحت بروحي في حبها، واتفق الحال على أن أدفع لها خمسين ديناراً، فوزنتها وسلمتها للعجوز فقالت: نحن الليلة عندك.
قال: فمضيت وجهزت ما قدرت عليه من مأكول ومشروب وشمع وحلوى فجاءت الإفرنجية فأكلنا وشربنا وجن الليل ولم يبق غير النوم، فقلت في نفسي: أما تستحيي من الله وأنت غريب تعصي الله مع نصرانية، اللهم إني أشهدك أني قد عففت عنها في هذه الليلة حياء منك وخوفاً من عقابك.
ثم نمت إلى الصبح، فقامت من السحر وهي غضبانة، ومضت ومضيت إلى حانوتي، فجلست فيه، فإذا هي قد عبرت علي والعجوز وهي مغضبة، وكأنها القمر، فهلكت
وقلت في نفسي: ومن هو أنت حتى تترك هذه البارعة في حسنها؟ ثم لحقت العجوز، وقلت لها: ارجعي؟ فقالت: وحق المسيح ما أرجع لك إلا بمائة دينار.
فقلت: نعم! بسم الله، فمضيت ووزنت مائة دينار، فلما حضرت الجارية عندي لحقتني الفكرة الأولى، وعففت عنها وتركتها حياء من الله تعالى، ثم مضت ومضيت إلى موضعي، ثم عبرت علي بعد ذلك وقالت: وحق المسيح ما عدت تفرح بي عندك إلا بخمسمائة دينار، أو تموت كمداً.
فارتعت لذلك وعزمت على أن أصرف ثمن الكتان جميعه، فبينما أنا كذلك والمنادي ينادي، معاشر المسلمين! إن الهدنة التي كانت بيننا وبنيكم قد انقضت، وقد أمهلنا من هنا من المسلمين إلى جمعه، فانقطعت عني، وأخذت في تحصيل ثمن الكتان الذي لين والمصالحة على ما بقي منه، وأخذت معي بضاعة حسنة، وخرجت من عكا وفي قلبي من الإفرنجية ما فيه، فوصلت إلى دمشق وبعت البضاعة بأوفى ثمن بسبب فراغ الهدنة، ومن الله علي بكسب وافر، وأخذت أتجر في الجواري لعل يذهب ما بقلبي من الإفرنجية، فمضت ثلاث سنين، وجرى للملك الناصر ما جرى من وقعة حطين، وأخذ جميع الملوك، وفتح بلاد الساحل، بإذن الله تعالى، فطلب مني جارية للملك الناصر، فأحضرت له جارية حسناء، فاشتراها بمائة دينار، فأوصلوا إلي تسعين ديناراً، وبقيت العشرة دنانير عنده، فلم يجدوها في خزانة الملك في ذلك اليوم، لأنه أنفق جميع الأموال، فلما حضرت الغنيمة جاءوا للملك فشاوروه على ذلك، فقال: امضوا به إلى الخيمة التي فيها السبي من نساء الإفرنج، فخيروه في واحدة منهن، يأخذها بالعشرة دنانير التي بقيت له.
فأتيت الخيمة فعرفت غريمتي، فقلت: أعطوني هذه الجارية، فأخذتها ومضيت إلى خيمتي، وخلوت بها، وقلت لها: أتعرفيني؟ قالت: لا. فقلت لها: أنا صاحبك التاجر الذي جرى لي معك ما جرى وأخذت مني الذهب، وقلت: ما عدت تراني عندك إلا بخمسمائة دينار وقد أخذتك ملكاً بعشرة دنانير.
فقالت: مد يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأسلمت وحسن إسلامها، فقلت: والله لا وصلت إليها إلا بأمر القاضي، فتوجهت إلى ابن شداد، وحكيت له ما جرى، فتعجب وعقد لي عليها، وباتت تلك الليلة عندي فحملت مني ثم رحل العسكر، وأتينا دمشق، فبعد مدة يسيرة أرسل الملك يطلب الأسارى والسبايا باتفاق وقع بين الملوك، فردوا من كان أسيراً من الرجال والنساء، ولم يبقى إلا التي