الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فشرحت له ما جرى لي مع الحجام والجندي وزوجته والمولاة التي أسلمتني، فأمر المأمون بإحضارها، وهي في دارها تنتظر الجائزة، فلما حضرت قال لها المأمون: ما حملك على ما فعلت تسليمك إبراهيم مع إنعامه عليك؟ قالت: رغبة في المال.
قال هل لك من ولد أو زوج؟ قالت: لا، فأمر بضربها مائة سوط وأمر بتخليدها في السجن، ثم أحضر الجندي وامرأته والحجام، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل؟ قال: رغبة في المال.
فقال: إنك أولى في أن تكون حجاماً من أن تكون خداماً، ووكل من يلزمه الجلوس في مكان الحجام، ليتعلم الحجامة، وأحسن إلى امرأته وجعلها قهرمانة قصره وقال: هذه امرأة أديبة تصلح للمهمات، وسلم للحجام دار الجندي وما فيها، وخلع عليه وأثبته برزقه في الديوان، وزيادة ألف دينار في كل سنة، ولم يزل كذلك إلى أن مات، والله أعلم.
صيد الجواري
وعن محمد بن عبد الله التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد الحريري قال: كان لحمنة بنت عبد الرحمن الهاشمي من الأموال ما لا يسعه الديوان، ولا تأكله النيران لكثرته، وكانت أدب نساء بني هاشم وأفصحهن لساناً وأقولهن شعراً، فدخلت على المأمون يوماً، وكانت تحبه غاية الحب سراً، وكن المأمون جالساً في إيوان قد ابتدعه لنفسه لم يبتدعه أحد من الخلفاء قبله، وكان قد تأنق في بنائه، وكان فيه من كل صورة في البر والبحر ممثلة من الذهب والفضة، وقد فرشه ببساط من الديباج الأصفر، وأسبل عليه ستوراً من الحرير الصيني، وقد أقام فيه أربعمائة وصيفة بقراطق الحرير، وقد لبسن الوشي بطرر وشعور وأصداغ، وهن بقد واحد، لا تزيد الواحدة منهن على الأخرى، أقام مائتين عن يمنيه ومائتين عن يساره، فقال: يا حمنة! هل كان لأبيك أو لبعلك أو لأحد من الخلفاء مثل هذا الإيوان مع فرشه، ومثل هؤلاء الجواري مع زينتهن؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! متعك الله به وعمره بك، فلقد أوتيت ملكاً عظيماً تستأهله لترفهك وشرفك، فإن أحببت خادمتك حمنة أجلستك في مجلس لم تجلس في مثله قط وأصادتك صيداً لم تصد مثله قط، وأسقتك شراباً لم تشرب مثله قط.
وكان عنده يحيى بن أكثم، فقال لها: ياحمنة، قد أجبتك إلى ما سألتني، ولكن لا ينفعني ولا يهناك ذلك إلا بمشهد من يحيى بن أكثم، فإنه لا يطيب لي مجلس إلا به.
فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم ضربت يدها في جيبها، فأخرجت منه مخزنة من ذهب أحمر محشوة مسكاً أذفر، فدفعتها إلى يحيى، وقالت: يا يحيى، إن الأجير لا يعمل حتى يستوفي أجرته، وهذه أجرتك مني فكن مستحثاً لي أمير المؤمنين غداً عند الزوال، في المسير إلى منزل خادمته؟ فقال: حباً وكرامةً.
ثم خرجت من عنده فهيأت ما تحتاج إليه للمأمون وغيره، فلما كان من الغد جلس المأمون في مجلس السلام، فلما زالت الشمس وصارت في كبد السماء قال يحيى: يا أمير المؤمنين الحاجة التي عرضت عليك بالأمس. ففطن المأمون لذلك، وقام من مجلسه ولبس ثياب التجار، ولبس يحيى مثل ذلك، ودعا بحمارين مصريين بغاشيتين، وركباهما حتى أتيا دار حمنة، فدقا الباب دقاً خفيفاً، فسمعته فأقبلت بنفسها، حتى فتحت الباب وأقبلا يمشيان جميعاً حتى انتهيا إلى بيت في بستان قد حمل على أربعة أعمدة من الرخام الأحمر المنقوش، وإذا في صدر البيت أربعة أسطر منقوشة بالدر وصنوف الجواهر وهي:
ما سرني أن فؤادي، ولا
…
أن لساني بالمدام حلا
؟ وأن لي ملك بني هاشمٍ يجبى إلى أولاً أولا
إن لم أشاهدك أيا مالكي
…
تأتي إلى بيتي كذا مقبلا
يا سائلي روحي بلا علةٍ
…
أنت المعافى، وأنا المبتلي
فقال المأمون: يا يحيى، ما ملك أحد من الخلفاء مثل هذا البيت.
وإذا فرشه أرمني محفور منقوش باللآلي وإذا فوق الأرمني مطارح من الديباج الأخضر حشوها حواصل الريش، وفي البيت المسك والعنبر والكافور والصندل والزعفران والند والعود مصفوف في أواني الذهب والفضة، وهي تفوح منه روائح لا يدرى ما هي من طيبها، ثم أخرجتهما إلى أربعة ميادين فيها أنواع الرياحين حول البيت، فقالا: إن هذا إلا سحر يؤثر.
ثم دعت لهما بمائدة من الجزع اليماني قوائمها من قطعة واحدة، فوضت وقدمت عليها الألوان الغريبة، فقال المأمون: ما طعمت مثل هذا الطعام قط.
ثم دعت بالطشت والإبريق فغسلا أيديهما، ثم أمرت بشراب فقدمت إليهما قناني الزجاج الشامية المرتفعة الصافية، والبلور، فيها شراب قد أتت عليه الأيام والأعوام،
فهي تحكي الهواء لرقتها والياقوت لحمرتها والزنجبيل لحدتها، ووضعت بين أيديهما مع أقداح وأنطال تشاكل ذلك، فقال المأمون: والله! ما رأيت مثل هذا قط.
ثم أخرجت جاريتين عليهما جباب الوشي الكوفي المنسوج بالذهب، وعلى رأسيهما مقانع رشيدية وتيجان من الذهب مكللة بالجوهر، فجلستا وفي حجريهما العيدان المبسوطة الموزونة، فحركتا الأوتار وغنتا بصوت شجي مليح، من أنواع الأغاني وغرائب الأصوات، فقال المأمون: هذه الجنة مما نرى فيها من غرائب الطيب والجوهر.
فقال يحيى: وقد بقي لنا يا أمير المؤمنين، شرط آخر.
فقال: وما هو يا يحيى؟ قال: الصيد، يا أمير المؤمنين.
قال: صدقت يا يحيى، ثم قال: يا حمنة، ما فعل الصيد؟ فقالت: قوما إليه.
فقام المأمون ويحيى حتى دخلا بستاناً لم ير مثله، وقد كانت زينت البستان بأحسن ما تقدر عليه، واتخذت فيه ألوان الطيور من الفاخت والقمري والهزار والطواويس، فكانت الأطيار تغني من رؤوس الأشجار، وتغرد بالسر والإجهار، وقد كانت زينت مائة جارية نواهد أبكار بطرر وشعور وخدود ومباسم ساطعات الأنوار، ترى كل واحدة منهن أبهى من صاحبتها وأحسن، وعليهن من ألوان الثياب ما يعجز عنه الوصف، وفي وسطهن مناطق الذهب الأحمر، وتقدمت إليهن وقالت لهن: إذا رأيتن المأمون ويحيى، تعادين ما بين الأشجار. فلما دخل المأمون ويحيى لابستان، فعلن ما كانت أمرتهن، فتضاعف السرور على المأمون، وأعجب بذلك عجباً شديداً، ثم قال ليحيى: هذا الصيد.
فقال: يا أمير المؤمنين! رأيك؟ فقال المأمون: لو كان لنا كلب لا صطدنا هؤلاء.
فقال يحيى: أنا كلبك، يا أمير المؤمنين.
فعد المأمون ويحيى فاصطادا منهن صبية، فقالت حمنة: سألتك بحق أجدادك إلا ما خليت عن الجواري لا لبخل أبخل بهن عليك، وقد فهمت المعنى فيه.
وقد كانت حمنة تغار على المأمون فخلى عن الجواري، وقال ليحيى: دونك والصيد إذن أنت محل.
فقال يحيى: لو كان لي كلب لاصطدت من هؤلاء.
فقال المأمون: أنا كلبك.