الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سليمان والدلفاء
وقال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام الأحمر مفروش بالديباج الأخضر فيوسط بستان ملتف قد أثمر وأينع، على رأسه وصائف كل واحدة منهم أحسن من صاحبتها، وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت فقلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
وكان مطرقاً فرفع رأسه وقال: يا أبا زيد! في مثل هذا الحين تصالحنا.
فقلت: أصلح الله الأمير أو قامت القيامة؟ قال: نعم على أهل المحبة.
ثم أطرق ملياً ورفع رأسه وقال: يا أبا زيد: ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أعز الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء ملفوفة لفاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها.
فأطرق سليمان ملياً لا يرد جواباً تتحدر من عينيه عبرات بلا شهيق فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه، ثم رفع رأسه فقال: يا أبا زيد حضرت في يوم انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك؟ قلت: نعم أيها الأمير، كنت جالساً على باب أخيك سعد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلتت من شبكة صياد عليها قميص سكب إسكندراني يبين منها بياض ثدييها وتدوير سرتها ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان حقويها، ولها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها، وعينان مملؤتان سحراً، وأنف كأنه قصبة بلور، وفم كأنه جرح يقطر دماً، وهي تقول: عباد الله من لي بدواء من لا يسلو وعلاج من لا يسمو؟ طال الحجاب، وأبطأ الجواب، فالقلب طائر، والعقل عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس، رحمة الله على قوم عاشوا تجلداً وماتوا كمداً، ولو كان إلى الصبر حيلة، وإلى العزاء سبيل، لكان أمراً جميلاً.
ثم أطرقت ملياً ورفعت رأسها فقلت: أيتها الجارية إنسية أم جنية سماوية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك وأذهلني حسن منطقك.
فسترت وجهها بكفها كأنها لم ترني ثم قالت: اعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد والمقاساة لصب معاند.
ثم انصرفت فوالله أصلح الله الأمير ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكرها وما رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها.
فقال سيلمان: يا أبا زيد، كاد الجهل يستفزني، والصبا يعاودني، والحلم يعزب عني لشجو ما سمعت. اعلم يا أبا زيد أن تلك الجارية التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها:
كأنما الذلفاء ياقوتة
…
قد أخرجت من كيس دهقان
شراؤها على أخي بألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات إنما يموت بحبها، ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت هيبة، قم يا أبا زيد في دعة الله، يا غلام! ثقله ببدرة.
فأخذتها وانصرفت. قال: فلما أفضت الخلافة له صارت إليه الذلفاء فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء موثقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر من أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع، وكان لسليمان مغن يقال له سنان، كان به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضر فسطاطه بالقرب منه. فكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه فلم يزل في أكل وشرب وسرور وأتم حبور إلى أن انصرف شيء من الليل فذهب إلى فسطاطة، وذهب سنان أيضاً فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: تزيد قرى أصلحك الله؟ قال: وما قراكم؟ قالوا: أكل وشرب وسماع.
قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم غيرة أمير المؤمنين ونهيه إلا ما كان في مجلسه.
قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا.
قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه.
قالوا: غننا بصوت كذا وكذا.
قال: فشرع يتغنى بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها
…
من آخر الليل لما نبه السحر
في ليلة البدر ما يدري مضاجعها
…
أوجهها عنده أم عنده القمر
لم يحجب الصوت حراس ولا غلق
…
فدمعها لطروق الصوت ينحدر
لو مكنت لمشت نحوي على قدم
…
تكاد من لينها في المشي تنفطر
قال: فسمعت الذلفاء صوت سنان. فخرجت إلى صحن الفسطاط، فجعلت لا تسمع شيئاً من حسن خلق ولطافة إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكناً في قلبها، فهملت عيناها وعلا نحيبها، فانتبه سليمان. فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحالة، فقال: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت:
ألا رب شخص رائع ومشوه
…
قبيح المحيا واضع الأب والجد
يروعك منه صوته ولعله
…
إلى أمةٍ يعزى معاً وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا المحال، فوالله خامر قلبك منه. يا غلام: علي بسنان.
فدعت الذلفاء خادماً لها وقالت له: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذرته، فلك عشرة آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله تعالى.
فخرج الرسولان فسبق رسول أمير المؤمنين فلما أتى به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، حملين الشمول، وأنا عبد أمير المؤمنين وغرس نعمته، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عني فليفعل.
قال: قد عفوت عنك، ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة، وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة، ون الرجل إذا تغنى صغت إليه المرأة، وإياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك، انتهى.