الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المأمون وزنبيل بوران
ويحكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: خرجت ليلة من عند المأمون متوجهاً إلى بيتي، فأحسست بالبول، فعمدت لزقاق، وقمت لأتمسح بالحيطان، وإذا بزنبيل كبير بأربعة آذان ملبس ديباجاً، فقلت: إن لهذا سبباً وبقيت متحيراً في أمره، فحملني السكر وقال لي: اجلس فيه، فجلست، فلما أحس بي الذين كانوا يرقبونه جذبوه إلى رأس الحائط، فإذا أنا بأربع جوار يقلن لي: انزل بالرحب والسعة ومشت بين يدي جارية بشمعة حتى نزلت إلى دار ومجالس مفروشة لم أر مثلها إلا في دار الخلافة فجلست، فما شعرت بعد ساعة إلا بستور قد رفعت في ناحية من الجدران، وإذا بوصائف يتمشين وفي أيديهن الشمع وبعض مجامر يحرق فيهن العود وبينهن جارية كأنها البدر الطالع، فنهضت وقالت: مرحباً بك من زائر وجلست، ثم سألتني عن خبري فقلت: انصرفت من عند بعض إخواني وغرني الوقت وحرقني البول، فعمدت إلى هذا الزقاق، فوجدت زنبيلاً معلقاً، فحملني السكر على أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه.
قالت: لا ضير، وأرجو أن تحمد عاقبة أمرك، ثم قالت: فما صناعتك؟ قال: بزاراً ببغداد.
فقالت: هل رويت من الأشعار شيئاً؟ قلت: شيئاً ضعيفاً.
قالت: فذاكرنا شيئاً.
قلت: إن للداخل حشمةً، ولكن تبدئين أنت.
قالت: صدقت، فأنشدتني شعراً لجماعة من القدماء والمحدثين من أجود أقاويلهم، وأنا مستمع لا أدري مم أعجب من حسنها أم حسن روايتها؟ ثم قالت: أذهب ما كان فيك من الحصر؟ قلت: إي والله.
قالت: فإن رأيت أن تنشدنا.
فأنشدتها شيئاً لجماعة من القدماء ما فيه مقنع، فاستحسنت ذلك، ثم قالت: والله ما ظننت أنه يوجد في أبناء السوقة هذا، ثم أمرت بالطعام فأحضر، فجعلت تقطع وتضع قدامي، وفي المجلس من صنوف الرياحين وغريب الفواكه ما لا يكون إلا عند السلطان، ودعت بالشراب، فشربت قدحاً، ثم ناولتني قدحاً، ثم قالت هذا أوان المذاكرة والأخبار، فاندفعت أذاكرها وقلت: بلغني أن كذا وكذا، وكان رجل يقال له كذا، حتى أتيت على
عدة أخبار حسان، فسرت بذلك وقالت: كثر تعجبي أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنما هذه أحاديث ملوك.
فقلت: كان لي جار يحادث الملوك وينادمهم، وإذا تعطل حضرت معه فربما حدثت بما سمعت.
فقالت: لعمري، لقد أحسنت الحفظ وما هذه إلا قريحة جيدة.
وأخذنا في المذاكرة، إذا سكت ابتدأت هي، وإذا سكتت ابتدأت أنا حتى قطعنا أكثر الليل وبخور العود يعبق، وأنا في حالة لو توهمها المأمون لطار شوقاً إليها، فقالت: إنك من أرف الرجال، وضيء الوجه بارعٌ في الأدب وما بقي إلا شيء واحد؟ قلت: وما هو؟ قالت: لو كنت تترنم ببعض الأشعار؟ قلت: والله لقديماً كنت ألفته ولم أرزقه وأعرضت عنه، وفي قلبي من حرارة، ولو كنت أحب في مثل هذا المجلس شيئاً منه لتكمل ليلتي.
قالت: كأنك عرضت.
فقلت: والله ما هو تعريض قد بدأت بالفضل، وأنت جديرة بذلك.
فأمرت بعود فحضر، وغنت بصوت ما سمعت بحسنه مع حسن أدبها وجودة الضرب بالكمال الراجح، ثم قالت: هل تعرف هذا الصوت ومن غنى به؟ قلت: لا.
قالت: الشعر لفلان والغناء لإسحاق.
قلت: وإسحاق هذا جعلت فداك بهذه الصفة؟ قالت: بخ بخ! إسحاق بارع في هذا الشأن.
فقلت: سبحان الله أعطي هذا الرجل ما لم يعطه أحد؟ قالت: فكيف لو سمعت هذا الصوت منه.
ثم لم تزل على ذلك حتى إذا كان الفجر أقبلت عجوزٌ كأنها داية لها، وقالت: إن الوقت قد حضر، فنهضت عند قولها، فقالت: لتستر ما كنا فيه فإن المجالس بالأمانات.
قلت: جعلت فداك لم أكن أحتاج إلى وصية في ذلك.
فودعتها، وجارية بني يدي إلى باب الدار ففتح لي فخرجت ورحت إلى داري، فصليت الصبح ونمت، فانتهى رسول المأمون غلي فسرت إليه وأقمت عنده نهاري، فلما كان العشاء تفكرت في ما كنت فهي البارحة، وهذا شيء لا يصبر عليه إلا جاهل،
فخرجت وجئت إلى الزنبيل، فوجدته على عادته، فجلست فيه ورفعت إلى موضع البارحة، وإذا هي قد طلعت، فقالت: لقد عاودت.
فقل: ولا أظن إلا أنني قد ثقلت.
وأخذنا في المحادثة مثل تلك الليلة السالفة في المذاكرة والمناشدة وغريب الغناء منها إلى الفجر. فانصرفت إلى منزلي، فصليت الصبح، ونمت. فانتهى رسول أمير المؤمنين غلي فمضيت إليه وأقمت نهاري عنده، فلما كانت العشية توجه إلي مخاطباً، وقال: أقسمت عليك لتجلسن حتى أجيء وأحضر، فما كان حتى أن غاب وجالت وساوسي، فلما تذكرت ما كنت فيه هان علي ما يخصني من أمير المؤمنين، فوثبت مبادراً وخرجت جارياً حتى أتيت الزنبيل، فجلست فهي فرفعت إلى مجلسي، فقالت: صديقنا.
قلت: إي والله.
قالت: أجعلتها دار إقامة؟ قلت: جعلت فداك حق الضيافة ثلاثة أيام، فإن رجعت بعد ذلك، فأنتم في حل من دمي.
ثم جلسنا على ذلك الحال فلما قرب الوقت علمت بأن المأمون لا بد أن يسألني، فلا يقنع إلا بشرح القصة فقلت: أنا أراك ممن يعجب بالغناء ولي ابن عم أحسن مني وجهاً، وأظرف قداً وأكثر أدباً وأطيب أرجاً، وهو أعرف خلق الله بغناء إسحاق.
فقالت: طفيلي وتقترح.
قلت: لها: أنت المحكمة.
قم قالت: إن كان ابن عمك على ما تصف فما نكره معرفته.
ثم جاء الوقت فنهضت وقمت وذهبت، فلم أصل إلى داري إلا ورسل أمير المأمون قد هجموا علي وحملوني حملاً عنيفاً فوجدته قاعداً على كرسي وهو مغتاظ فقال: يا إسحاق، أخروجاً عن الطاعة؟ قلت: لا والله.
قال: فما قصتك أصدقني؟ قلت: نعم في خلوة.
فأومأ إلى من بين يديه فتنحوا، فحدثته الحديث وقلت له: وعدتها بك.
قال: أحسنت فأخذنا في لذتنا ذلك اليوم، والمأمون معلق القلب بها، فما صدقنا أن جاء الوقت وسرنا، وأنا أوصيه وأقول له: تجنب واحذر أن تناديني باسمي بحضرتها، وغن وأنا لك تبع وهو يقول: نعم، ثم سرنا إلى الزنبيل فوجدناهما اثنين، فقعدنا فيهما
ورفعنا إلى الموضع المعهود، فحضرت وأقبلت وسلمت، فلما رآها المأمون بهت في حسنها وجمالها وأخذت تذاكره وتناشده الأشعار، ثم أحضرت النبيذ فشربنا، وهي مقبلة عليه مسرورة به، وهو أكثر، فأخذت العود وغنت صوتاً، ثم قالت: وابن عمك هذا من التجار، وأشارت إلي.
قلت: نعم.
قال: والله إنكما لقريبان.
فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال داخله الفرح والطرب، فصاح وقال: يا إسحاق! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: عن هذا الصوت؟ فلما علمت أنه الخليفة نهضت إلى مكان فدخلته، فلما فرغت من الصوت قال: انظر من رب هذه الدار؟ فبادرت العجوز وقالت: للحسن بن سهل.
فقال: علي به.
فغابت العجوز ساعة، وإذا الحسن قد حضر.
فقال له المأمون: ألك ابنة؟ قال: نعم.
قال: ما اسمها؟ قال: بوران.
قال: أمتزوجة؟ قال: لا والله.
قال: فإني أخطبها منك.
قال: هي جاريتك وأمرها إليك.
قال: قد تزوجتها على نقد ثلاثين ألفاً، تحمل إليك صبيحة يومنا هذا، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتنا.
قال: نعم. ثم خرجنا فقال: يا إسحاق لا توفق على هذا الحديث أحداً.
فسترته إلى أن مات المأمون فما اجتمع لأحد مثل ما اجتمع لي في تلك الأربعة أيام مجالسة المأمون بالنهار وبوران بالليل، ووالله ما رأيت أحداً من الرجال مثل المأمون ولا شاهدت امرأة تقارب بوران فهماً وعقلاً والله تعالى أعلم، انتهى من حلية الكميت.