الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفتى العاشق وجعفر
قال إبراهيم بن إسحاق: كنت منقطعاً إلى البرامكة، فبينما أنا ذات يوم بمنزلي وإذا ببابي يدق فخرج غلامي وعاد وقال لي: على الباب فتى جميل يستأذن، فأذنت له، فدخل شاب عليه أثر السقم، فقال: لي مدة أحاول لقاءك ولي إليك حاجة.
فقلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدي. وقال: أسألك أن تقبلها مني وتصنع لي لحناً في بيتين قلتهما.
فقلت: أنشدنيهما فقال:
بالله يا طرفي الجاني على كبدي
…
لتطفئن بدمعي لوعة الحزن
لا لا أبوحن حتى تنزلي سكني
…
فلا أراه ولو أدرجت في كفني
قال: فصنعت لهما لحناً يشبه النوح ثم غنيته فأغمي عليه حتى أني ظننت أنه مات ثم أفاق، وقال: أعده فناشدته الله وقلت: أخشى أن تموت فقال: ليت ذلك، وما زال يخضع ويتضرع حتى رحمته وأعدته فصعق صعقةً أشد من الأولى، فلم أشك في موته وما زلت أنضح عليه من ماء الورد حتى أفاق ثم جلس، فحمدت الله على السلامة ووضعت دنانيره بني يديه وقلت: خذ مالك وانصرف عني.
فقال: لا حاجة لي بها ولك مثلها إن أعدته.
فشرهت نفسي فقلت: أعيده ولكن بثلاث شروط، أولها تقيم عندي تأكل من طعامي حتى تتقوى نفسك؛ الثاني أن تشرب من الشراب ما يمسك قلبك؛ الثالث أن تحدثني بحديثك.
ففعل ذلك ثم قال: إني رجل من أهل المدينة خرجت متنزهاً، وقد سال المطر في العقيق، مع إخواني فرأيت فتاة مع فتيات كأنها غصن جلله الندى، تنظر بعيني ما ارتد طرفهما إلا بنفس ملاحظهما، فظللن حتى فرغ النهار، فانصرفن وقد رمت بقلبي جراحاً بطيئة الاندمال، فعدت أتنسم أخبارها فلم أجد أحداً يرشدني إليها فجعلت أتتبعها في الأسواق فلم أقع لها على خبر، ومرضت أسىً، وحكيت قصتي لذات قرابة لي فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت وستمطر السماء فتخرج حينئذ، وأنا أخرج معك فافعل مرادك.
قال: فاطمأنت نفسي بذلك إلى أن سال العقيق وخرج الناس ينظرون فخرجت مع إخوتي وقرابتي، فجلسنا في مجلسنا بعينه فما لبثنا إلا والنسوة كفرسي رهان فقلت لذات قرابتي: قولي لهذه الجارية يقول لك هذا الرجل: لقد أحسن من قال:
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت
…
وقد عاودت جرحاً به وندوبا
قال: فمضت إليها وقالت لها ذلك، فقالت لها: قولي له، وقد حسن من أجابه:
بنا مثل ما تشكو فصبراً لعلنا
…
نرى فرجاً يشفي القلوب قريبا
قال: فأمسكت عن الكلام خوف الفضيحة، وقمت منصرفاً، فقامت لقيامي فتبعتها قرابتي حتى عرفت منزلها، ورجعت فأخذتني، وسرنا إليها حتى اجتمعنا. واتصل ذلك حتى شاع وطهر وحجبها أبوها. فلم أزل مجتهداً في لقائها فلم أقدر، وشكوت ذلك إلى أبي فجمع أهلنا ومضى إلى أبيها راغباً في خطبتها فقال: لو بدا له ذلك قبل أن يفضحها لفعلت ولكنه شهرها، فما كنت لأحقق قول الناس. قال إبراهيم فأعدت عليه الصوت وعرفني منزله ثم انصرف. وكانت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى وحضرت على عادتي فغنيته شعر الفتى، فطرب وشرب أقداحاً وقال: ويلك! لمن هذا الصوت؟ فحدثته حديث الفتى فأمرني بالركوب إليه وأن أجعله على ثقة من بلوغ أربه، فمضيت إليه وأحضرته فاستعاد الحديث فحدثه فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها فطابت نفسه، وأقام معنا، فلما أصبح ركب جعفر إلى الرشيد وحدثه بذلك فاستظرفه، وأمر أن يحضرا جميعاً واستعاد الصوت وشرب عليه، فأمر بكتب كتاب إلى عامل الحجاز بإحضار المرأة وأهلها ووالدها مبجلين إلى حضرته، والإنفاق عليهم نفقة واسعة، فلم يمض إلا يسير حتى حضروا، فأشار الرشيد بإيصال الرجل إليه، فحضر وأمر بتزويج ابنته من الفتى، وأعطاه ألف دينار، ونقلت إلى أهله، ولم يزل الشاب من ندماء جعفر حتى حدث ما حدث فاد الفتى بأهله إلى المدينة، فرحم الله تعالى أرواحهم أجمعين.