الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن آدم
ووقف رجل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، صل رحمك وارحم أقاربك وارحم رجلاً من أهلك.
فقال الواثق: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم؟.
قال: ابن جدك آدم.
فقال: يا غلام، أعطه درهماً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع بالدرهم؟ قال: أرأيت لو قسمت المال بين إخوتك أولاد جدي أكان ينوبك منه حبة.
فقال: لله درك ما أذكى فهمك.
فأمر له بعطاء وانصرف مكرماً.
خلافة المتوكل على الله تعالى
حكى عنه أنه قال ذات يوم لأبي العيناء: ما أشد ما مر عليك في ذهاب عينيك؟ فقال: فقد رؤيتك يا أمير المؤمنين.
فاستحسن منه هذا الجواب وأمر له بجائزة نفيسة.
ومما حكاه أبو القاسم علي بن محمد الذهبي عن أبي عبد الله النحوي، قال: لما حج محمد بن عبد الله بن طاهر رأى في الطواف جارية في نهاية الحسن فسأل عنها، فقيل: إنها لرجل من الأدباء قد رواها الأشعار والأخبار والنحو والعروض، وقد أحسنت ضرب العود وطريق الغناء، فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قدم بها مدينة دار السلام شغف بها شغفاً شديداً وأخفى أمرها، وما يجده منها تخوفاً من أمير المؤمنين المتوكل. وكان من شدة وجده بها يحتبس عندها أياماً لا يظهر للناس، فيظنون أنه زمن وأمره معها مستور، ففطن به سويد بن أبي العالية صاحب البريد، وكان بينه وبين محمد منافرة، فلم يجد ما يكيده به إلا أن كتب إلى المتوكل وهو نازل على أربعة فراسخ من بغداد، كتاباً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن محمد بن عبد الله اشترى جارية بمائة ألف درهم، فهو يصطبح معها ويغتبق زمانه كله معها، وقد اشتغل بها عن النظر في أمور المسلمين وعن التوقيع في قصص المظلومين، ولا يأمن أمير المؤمنين
أن تخرب عليه بغداد مع كثرة ما فيها من الغوغاء فيتعب أمير المؤمنين في إصلاحها، وقد أنهى ذلك المملوك إلى أمير المؤمنين، أيده الله، وهو أعلى رأياً والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
قال: فلما قرأ المتوكل الكتاب رفع رأسه إلى نرجس الخادم وقال له: امض الساعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وادخل عليه داره بغتة من غير إذن وانظر إلى ما يصنع؟ ثم خذ منه جاريته فلانة وائت بها من غير تأخير.
فمضى نرجس من ساعته، وكان محمد قد اصطبح معها في ذلك اليوم، فدخل عليهما نرجس من غير استئذان، فلم يشعر محمد إلا وهو واقف عليه، فتغير وجهه وانتقع لونه، وفاضت عيناه وارتعدت فرائصه لعلمه أن نرجساً ما دخل عليه من غير إذن إلا وقد أضمر له السوء، فقال له: يا نرجس ما الذي أقدمك؟؟! قال: أمير المؤمنين أمرني أن آخذ جاريتك هذه.
قال: يا نرجس هذا يوم قد حضر شره وغاب خيره، وقد ترى ما نحن فيه، وأنا لا أخالف ما أمر به أمير المؤمنين.
ثم أمر للخادم بكرسي فجلس عليه بعد أن امتنع ساعة وقال: إن مثلي لا يجلس مع مثلك، ثم إن محمداً نظر إلى الجارية وبكى بكاء شديداً، وقال لها: غني لأتزود منك.
فأخذت العود وغنت بصوت حزين تقول:
لله من لمعذبين رماهما
…
بشماتة العذال والحساد
أما الرحيل فحين جد تحملت
…
مهج النفوس به من الأجساد
من لم يبت والبين يصدع شمله
…
لم يدر كيف تفتت الأكباد
ثم إنهما أعلنا بالبكاء والنحيب والشهيق، فرحمهما الخادم ورق لهما حين عاين ما حل بهما. فقال: أيها الأمير، إن رأيت أن أمضي وأدعكما على ما أنتما عليه وأتعلل عنكما لأمير المؤمنين فعلت.
فقال: يا نرجس، من خلفه مثل أبي سويد كيف يمكنه التعلل، ولكن ارفق بنا.
فقالت الجارية: والله يا سيدي لا ملكني غيرك أبداً، ولئن دفعتني إليه لأقتلن نفسي.
فقال لها محمد: لو كان غير أمير المؤمنين لكان في ذلك أوسع حيلة، ولقد وددت أن يأخذ مني أمير المؤمنين جميع ما أملك ويعزلني عن عملي ويبقيك علي، ولكن هذا قضاء
الله وقدره. ثم التفت إلى نرجس وقال: لقد شاهدت مني ومن هذه الجارية ما شهد قلبك علينا بالمحبة والمودة والألفة، وليس يخفى عن علمك أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء. ومثلك من يصنع المعروف مع مثلي فخذها وامض بها إلى أمير المؤمنين، وقل ما شئت مما يليق بمروءتك. ثم التفت إليها وقبلها وبكى وبكت وبكى نرجس. ثم أخذها وخرج وهي تبكي وتخمش خدها ووجهها. قالت: ثم حملني نرجس على بغلة أمير المؤمنين وسار حتى دخل على المتوكل. فلما رآه قال: ما وراءك يا نرجس.؟ قال: ورائي يا أمير المؤمنين كل بلية. ثم إنه جلس بين يديه وقص عليه حالهما ولم يخف شيئاً.
فقال المتوكل: وكل هذا الوجد يجده محمد من هذه الجارية؟ فقال: يا أمير المؤمنين والذي خفي أكثر مما ظهر وما أظنه يعيش بعدها. فرق عليه قلب المتوكل وقال: يا نرجس ارجع بها إليه الساعة من وقتك، هذا وأدركه قبل أن تزهق روحه، وقد أمرت له بمائة ألف درهم، ولها مع ذلك مثله، وجعلت أمر بي سويد إليه يصنع به ما يشاء.
ثم كتب له توقيعاً بذلك ودفعه إلى نرجس، فرجع الخادم بالجارية والتوقيع ولم يتمهل حتى دخل عليه فوجده عرياناً يتقلب على حصر سامان من شدة الكرب والوجد، وقد أحدقت به الجواري يروحنه بالمراوح. فقال: أبشر يا محمد، إن أمير المؤمنين قد رد جاريتك عليك من غير أن يوقع نظره عليها، وقد حكمك في أبي سويد.
ثم ناوله التوقيع بذلك ودخلت الجارية عليه، فوثب إليها وعانقها وقبلها ساعة. ثم خرج فجلس على باب داره وبعث إلى أبي سويد، فلما حضر دفع إليه التوقيع، فلما قرأه قال: أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وأن تهدم مني ركناً أنت شيدته، وأن تضيع صنيعة اصطنعتها إلى مثلي، فمثلي من هفا ومثلك من عفا.
ثم قام وقبل البساط فقال له محمد: لا أبدل نعمة الله كفراً ثم أمر به بخمسين ألف درهم فقالت الجارية: وأنا أيضاً أهب له خمسين ألف درهم مما وهبه لي أمير المؤمنين، شكراً لله تعالى على ذلك.
ثم أقره على ما كان عليه، وأمر أن يحمل المال بين يديه إلى منزله، ورجع محمد والجارية إلى ما كانا عليه في أطيب عيش وأحسن حال متظاهراً بذلك غير مستتر ولا خائف، انتهى.