الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافة المأمون بن هارون
الرشيد واسمه عبد الله
ومما وضع في بطون الدفاتر، واستحسنته عيون البصائر، ونقلته الأصاغر عن الأكابر، ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون قال: طلبني أمير المؤمنين المأمون ليلةً، وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلاناً وفلاناً، وسماهما لي: أحدهما، علي بن محمد، والآخر، دينار الخادم، واذهب مسرعاً لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخاً يحضر ليلاً إلى آثار دور البرامكة، وينشد شعراً ويذكرهم ذكراً كثيراً ويندبهم ويبكي عليهم، ثم ينصرف فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرائب فاستتروا خلف بعض الجدران، فإذا الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتاً فآتوني به.
قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرائب، فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساطٌ وكرسي حديد، وإذا شيخ قد جاء وله جمال وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفراً
…
ونادى منادٍ للخليفة: يا يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي
…
عليهم وقلت: الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها. فلما فرغ قبضنا عليه، وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعاً شديداً وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة.
ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال: حين رآه: من أنت، وبم استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الخادم: ونحن نستمع.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل.
فقال: يا أمير المؤمنين؟؟! أنا المنذر بن المغيرة، من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين، واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورؤوس أهلي وبيتي الذي ولدت فيه، أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبياً وصبية، وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها،
فلبستها وخرجت وتركتهم جياعاً لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلاً عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم، وأنا أقدم رجلاً وأوخر أخرى، والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد، فدخلت معهم، وإذا بيحيى جالس على دكة له وسط بستان، فسلمنا، وهو يعدنا مائة وواحداً، وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بأمرد نبت العذار في خديه قد أقبل من بعض المقاصير، وبين يديه مائة خادم متمنطقون، في وسط كل خادم منطقة من ذهب يقرب وزنها من ألف مثقال، مع كل خادم مجمرة من ذهب، في كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهر، وقد قرن به مثله من العنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام، وجلس إلى جنب يحيى، ثم قال للقاضي: تكلم وزوج ابنتي عائشة من ابن أخي هذا. فخطب القاضي خطبة النكاح وزوجه وشهد أولئك الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر، فالتقطت، والله يا أمير المؤمنين ملء كمي ونظرت، وإذا نحن في المكان ما بين يحيى والمشايخ وولده والغلام مائة واثنا عشر، وإذا بمائة واثني عشر خادماً قد أقبلوا ومع كل خادم صينية من فضة، على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي وقمت وجعلت أتلفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فبينما أنا كذلك إلى أن وصلت إلى صحن الدار، ويحيى يلاحظني، فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل، فأتيته، فقال: ما لي أراك تلتفت يميناً وشمالاً؟ فقصصت عليه قصتي فقال للخادم: ائتني بولدي موسى، فأتاه به. فقال له: يا بني! هذا رجل غريب، فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك.
فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس، وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين، فاقبضه إليك، وأكرمه.
ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد، ثم لم أزل في أيدي القوم يتداولوني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم
في الأحياء، فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام.
فقلت: وا ويلاه، أسلب الدنانير والصينية، وأخرج على هذه الحالة؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به.
فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسناً ونوراً واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إلي مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين، وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق، وأقمت يا أمير المؤمنين، مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما جاءتهم البلية ونزل بهم يا أمير المؤمنين، من الرشيد ما نزل أجحف بي عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل علي الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرائب دورهم، فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي وأبكي على إحسانهم.
فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة.
فلما أتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة.
قال: كم ألزمته في ضيعتيه؟ قال: كذا وكذا.
فقال له: رد إليه كل ما أخذته منه في مدته، وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده.
قال: فعلا نحيب الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا! قد أحسنا إليك، فما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضاً من صنيع البرامكة، لو لم آت خرائبهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين، ففعل بي ما فعل من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون، وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال: لعمري هذا من صنائع البرامكة، فعليهم فابك، وإياهم فاشكر، ولهم فأوف ولإحسانهم فاذكر، انتهى.