المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخير بقدر ، والشر بقدر - الجامع الصحيح للسنن والمسانيد - جـ ٣

[صهيب عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى أنْ يَجْهَلَ النَّاسُ تَعَالِيمَ الْإسْلَامِ الْأَسَاسِيَّة

- ‌مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى الرِّيحُ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِين

- ‌مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى هَدْمُ الْكَعْبَة

- ‌مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى خُرُوجُ أَهِلِ الْمَدِينَةِ مِنْهَا

- ‌مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى خُرُوجُ النَّارِ الَّتِي تَحْشُرُ النَّاس

- ‌لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا يَوْمَ جُمُعَة

- ‌قِيَامُ السَّاعَةِ فُجْأَة

- ‌يَوْمُ الْقِيَامَة

- ‌مِقْدَارُ يَوْمِ الْقِيَامَة

- ‌تَخْفِيفُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤمِنِين

- ‌هَوْلُ الْمَطْلَعِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌صِفَةُ أَرْضِ يَوْمِ الْقِيَامَة

- ‌أَحْوَالُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌حَالُ السَّابِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌حَالُ عَامَّةِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌حَالُ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌مِيزَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَم

- ‌الشَّفَاعَة

- ‌مَكَانُ حُصُولِ الشَّفَاعَة

- ‌مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَاب

- ‌دُخُولُ الْفُقَرَاءِ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاء

- ‌الْحِسَاب

- ‌أُمُورٌ تَحْدُثُ فِي بِدَايَةِ الْحِسَاب

- ‌وَزْنُ أَعْمَالِ الْعِبَاد

- ‌صِفَةُ الْمِيزَان

- ‌مَعْنَى الْحِسَاب

- ‌حِسَابُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّه

- ‌مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌قَصَصُ بَعْضِ مَنْ حَاسَبَهُمُ الرَّبُّ عز وجل

- ‌حِسَابُ الْعِبَادِ بَيْنَ بَعْضِهِمُ الْبَعْض

- ‌مَكَانُ اقْتِصَاصِ الْحُقُوقِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌كَيْفِيَّةُ اقْتِصَاصِ الْحُقُوقِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَة

- ‌خُطُورَةُ الْمَظَالِمِ وَعِظَمُ شَأنِهَا

- ‌الْحَوْض

- ‌صِفَةُ الْحَوْض

- ‌النَّار

- ‌أَسْمَاءُ النَّار

- ‌صِفَةُ النَّار

- ‌عَدَدُ أَبْوَابِ جَهَنَّم

- ‌سَعَةُ جَهَنَّم

- ‌شِدَّةُ حَرِّهَا

- ‌كَيْفِيَّةُ دُخُولِ الْكُفَّارِ النَّار

- ‌مَكَانُهُمْ فِي النَّار

- ‌ضَخَامَةُ أَحْجَامِ أَهْلِ النَّار

- ‌طَعَامُ أَهْلِ النَّار

- ‌شَرَابُ أَهْلِ النَّار

- ‌حَيَّاتُ وَعَقَارِبُ جَهَنَّم

- ‌أَصْنَافٌ أُخْرَى مِنَ الْعَذَابِ فِي جَهَنَّم

- ‌بُكَاءُ أَهْلِ النَّار

- ‌صِفَةُ أَهْلِ النَّار

- ‌خُلُودُ غَيْرِ الْمُوَحِّدِين فِي الْعَذَاب

- ‌مَشْرُوعِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّار

- ‌الجَنَّة

- ‌كَيْفِيَّةُ دُخُولِ المُؤْمِنِينَ الجَنَّة

- ‌صِفَةُ الْجَنَّة

- ‌عَدَدُ أَبْوَابِ الْجَنَّة

- ‌صِفَةُ أَشْجَارِ الْجَنَّة

- ‌صِفَةُ أَنْهَارِ الْجَنَّة

- ‌صِفَةُ بُيُوتُ أَهْلِ الْجَنَّة

- ‌خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّة

- ‌صِفَةُ الْحُورِ الْعِين

- ‌أَطْفَالُ أَهْلِ الْجَنَّة

- ‌طَعَامُ وَشَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّة

- ‌أَسْوَاقُ الْجَنَّة

- ‌دَوَابُّ الْجَنَّة

- ‌سَعَةُ الْجَنَّة

- ‌أَعْمَارُ أَهْلِ الْجَنَّة

- ‌صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّة

- ‌آخِرُ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّة

- ‌خاتمة

- ‌مَشْرُوعِيَّةُ سُؤالِ الْجَنَّة

- ‌الْإيمَانُ بِالْقَدَر

- ‌وُجُوبُ الْإيمَانِ بِالْقَدَر

- ‌أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ فِي الْقَدَر

- ‌حُكْمُ إنكَارِ الْقَدَر

- ‌الْهِدَايَةُ بِيَدِ اللهِ ، وَالضَّلَالُ بِيَدِ الله

- ‌تَقْدِيرُ الْمَقَادِيرِ قَبْلَ الْخَلْق

- ‌تَصْرِيفُ اللهِ تَعَالَى لِلْقُلُوب

- ‌إِذَا قَضَى اللهُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدّ

- ‌مَصِيرُ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِين

- ‌مَصِيرُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ

- ‌مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْمَوْلُودَ عَلَى الْفِطْرَة

- ‌مَصِيرُ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ وَغَيْرِهِم

- ‌الطَّاعَةُ بِقَدَر ، وَالْمَعْصِيَةُ بِقَدَر

- ‌الْخَيْرُ بِقَدَر ، وَالشَّرّ بِقَدَر

- ‌الْمَوْتُ بِقَدَر ، وَالْحَيَاةُ بِقَدَر

- ‌المَرَضُ بِقَدَر ، وَالصِّحَّةُ بِقَدَر

- ‌الْعِزُّ بِقَدَر ، وَالذُّلُّ بِقَدَر

- ‌الْأَرْزَاقُ بِقَدَر

- ‌كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَر

- ‌التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَاب

- ‌عَدَمُ مُنَافَاةِ التَّدَاوِي لِلتَّوَكُّل

- ‌الرِّضَا بِقَضَاءِ الله

- ‌مَا يَرُدُّ الْقَضَاء

- ‌كِتَابُ الْعَقِيدَة الثَّانِي

- ‌حَقِيقَةُ الْإيمَان

- ‌الْإيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَل

- ‌الْإيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُص

الفصل: ‌الخير بقدر ، والشر بقدر

‌الْخَيْرُ بِقَدَر ، وَالشَّرّ بِقَدَر

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} (1)

وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلَا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} (2)

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3)

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (4)

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ، هُوَ مَوْلَانَا ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (5)

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} (6)

(1)[آل عمران/166]

(2)

[الحديد/22، 23]

(3)

[الأنعام/17]

(4)

[النساء/78]

(5)

[التوبة: 51]

(6)

[الأعراف/188]

ص: 415

(حم)، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:" مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ سَاجِدٍ وَهُوَ يَنْطَلِقُ إِلَى الصَلَاةِ، فَقَضَى الصَلَاةَ وَرَجَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ "، فَقَامَ رَجُلٌ فَحَسَرَ (1) عَنْ يَدَيْهِ ، فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا سَاجِدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ " ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا ، فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، وَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ حَتَّى أُرْعِدَتْ يَدُهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ، كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا سَاجِدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَتَلْتُمُوهُ ، لَكَانَ أَوَّلَ فِتْنَةٍ وَآخِرَهَا " (2)

(1) أَيْ: كشف.

(2)

(حم) 20448 ، انظر الصَّحِيحَة: 2495

ص: 416

(د)، وَعَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا الْحَسَنُ (1) مَكَّةَ ، فَكَلَّمَنِي فُقَهَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَنْ يَجْلِسَ لَهُمْ يَوْمًا يَعِظُهُمْ فِيهِ ، فَقَالَ: نَعَمْ ، فَاجْتَمَعُوا فَخَطَبَهُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ أَخْطَبَ مِنْهُ (2) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ ، مَنْ خَلَقَ الشَّيْطَانَ؟ ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ؟ ، خَلَقَ اللهُ الشَّيْطَانَ ، وَخَلَقَ الْخَيْرَ ، وَخَلَقَ الشَّرَّ ، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَاتَلَهُمْ اللهُ ، كَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ (3)؟. (4)

(1) أَيْ: الْبَصْرِيّ.

(2)

أَيْ: مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ خُطْبَةً وَوَعْظًا.

(3)

أَيْ: الْحَسَن الْبَصْرِيّ.

(4)

(د) 4618

ص: 417

(اللَّالَكائِي)، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَو أَرَادَ اللهُ أَنْ لَا يُعْصَى ، مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ "(1)

الشرح (2)

(1) قال الألباني: رواه اللالكائي في " السنة " ج1ص141 ، والبيهقي في " الأسماء والصفات ص157) ، صَحِيح الْجَامِع: 2693 ، الصَّحِيحَة: 1642 ،

(2)

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) ص236:

قولهم: أيُّ حكمة في خلق إبليس وجنوده؟ ، ففي ذلك من الحكم ما لا يُحيط بتفصيله إلا الله.

فمنها: أن يُكْمِل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ، ومخالفته ومراغمته في الله ، وإغاظته وإغاظة أوليائه ، والاستعاذة به منه ، والالتجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده ، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه.

ومنها: خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه ، وسقوطه من المرتبة الملكية ، إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لمَّا شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر ، وخوف آخر كما هو المُشاهد من حال عَبيد الملك إذا رأوه قد أهانَ أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبْلغ ، وهم يشاهدونه ، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.

ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره ، وتكبر عن طاعته ، وأصر على معصيته ، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه ، أو عصى أمره ، ثم تاب وندم ، ورجع إلى ربه ، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب ، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرَّ وأقام على ذنبه ، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحِكم الباهرة ، والآيات الظاهرة.

ومنها: أن يَظْهَرَ كمالُ قدرته في خلقٍ مثل جبريل والملائكة ، وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه ، فإنه خالق الأضداد ، كالسماء والأرض ، والضياء والظلام ، والجنة والنار ، والماء والنار ، والحر والبرد والطيِّب والخبيث.

ومنها: أنَّ خَلْقَ أحدِ الضِّدَّيْنِ ، مِن كمال حُسن ضِدِّه ، فإن الضد إنما يظهر حُسنُه بضده ، فلولا القبيح ، لم تُعرف فضيلة الجميل ، ولولا الفقر ، لم يُعرف قدر الغنى.

ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده ، وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه ، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها ، وبين شكره بعد أن ابتُلِي بعدوه ، ثم اجتباه ربه ، وتاب عليه وقبله.

ومنها: أن المحبة والإنابة ، والتوكل ، والصبر ، والرضا ، ونحوها ، أحب العبودية إلى الله سبحانه ، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد ، وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه ، فالجهاد ذروة سنام العبودية ، وأحبها إلى الرب سبحانه ، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها ، التي لا يُحصي حِكَمَها وفوائدَها وما فيها من المصالح إلا الله.

ومنها: أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ، ولطائف صنعه ، ما وجوده أحب إليه ، وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان ، والعصا ، واليد ، وفلق البحر ، وإلقاء الخليل في النار ، وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته ، وعلمه وحكمته ، فلم يكن بدٌّ من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم.

ومنها: أن من أسمائه: الخافض الرافع ، المعز المذل ، الحكم العدل ، المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلِّقات يظهر فيها أحكامها ، كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها ، ولا بد من ظهور متعلِّقات هذه وهذه.

ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُظْهِرَ لعباده حِلْمَه وصبرَه وأناته ، وسعة رحمته وجوده ، فاقتضى ذلك خلق من يُشرك به ويضادُّه في حُكمه ، ويجتهد في مخالفته ، ويسعى في مَساخطه ، بل يتشبه به سبحانه ، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ، ويرزقه ويعافيه ، ويمكِّن له من أسباب ما يلتذُّ به من أصناف النِّعَم ، ويجيب دعاءه ، ويكشف عنه السوء ، ويعامله من بره وإحسانه بضدِّ ما يعامله هو به من كفره وشِركه وإساءته.

وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب ، يرزق الشاتم المكذِّب ، ويعافيه ، ويدفع عنه ، ويدعوه إلى جنته ، ويقبل توبته إذا تاب إليه ، ويُبْدِلُهُ بِسَيِّآتِهِ حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ، ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به.

وفي الحديث الصحيح: " لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون ، فيغفر لهم " ، فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته ، اقتضى حمدُه وحكمتُه أن يخلُق خلقا يُظْهِرُ فيهم أحكامَها وآثارَها ، فلمحبته للعفو، خلق من يَحْسُنُ العفوُ عنه، ولمحبته للمغفرة ، خلق من يَغْفِرُ له ويحلم عنه ، ويصبر عليه ولا يعاجله ، ولمحبته لعدله وحكمته ، خلق من يُظْهِرُ فيهم عدله وحكمته ، ولمحبته للجود والإحسان والبر ، خَلَقَ من يعاملُه بالإساءة والعصيان ، وهو سبحانه يعاملُه بالمغفرة والإحسان ، فلولا خَلْقُ من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات ، لفاتت هذه الحِكَمُ والمصالح وأضعافُها وأضعافُ أضعافِها ، فتبارك الله رب العالمين ، وأحكم الحاكمين ، ذو الحكمة البالغة ، والنِّعَمِ السَّابغة ، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته ، وله في كل شيء حكمة باهرة ، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات ، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر ، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيطَ بكمالِ حكمته في شيء من خلقه.

فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل ، فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعةٍ هي أحبُّ إلى الله وأرضى له ، من جهادٍ في سبيله ، ومخالفةِ هوى النفس وشهوتها له ، وتَحَمُّلِ المشاقِّ والمَكاره في محبته ومَرضاته ، وأحبُّ شيءٍ للحبيب أن يَرى مُحِبَّهُ يتحمَّل لأجله من الأذى والوَصَب ما يُصَدِّقُ مَحبَّتَهُ. انتهى كلامه رحمه الله.

ص: 418