الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْخَيْرُ بِقَدَر ، وَالشَّرّ بِقَدَر
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} (1)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3)
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ، هُوَ مَوْلَانَا ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (5)
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} (6)
(1)[آل عمران/166]
(2)
[الحديد/22، 23]
(3)
[الأنعام/17]
(4)
[النساء/78]
(5)
[التوبة: 51]
(6)
[الأعراف/188]
(حم)، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:" مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ سَاجِدٍ وَهُوَ يَنْطَلِقُ إِلَى الصَلَاةِ، فَقَضَى الصَلَاةَ وَرَجَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ "، فَقَامَ رَجُلٌ فَحَسَرَ (1) عَنْ يَدَيْهِ ، فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا سَاجِدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ " ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا ، فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، وَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ حَتَّى أُرْعِدَتْ يَدُهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ ، كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا سَاجِدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَتَلْتُمُوهُ ، لَكَانَ أَوَّلَ فِتْنَةٍ وَآخِرَهَا " (2)
(1) أَيْ: كشف.
(2)
(حم) 20448 ، انظر الصَّحِيحَة: 2495
(د)، وَعَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا الْحَسَنُ (1) مَكَّةَ ، فَكَلَّمَنِي فُقَهَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَنْ يَجْلِسَ لَهُمْ يَوْمًا يَعِظُهُمْ فِيهِ ، فَقَالَ: نَعَمْ ، فَاجْتَمَعُوا فَخَطَبَهُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ أَخْطَبَ مِنْهُ (2) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ ، مَنْ خَلَقَ الشَّيْطَانَ؟ ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ؟ ، خَلَقَ اللهُ الشَّيْطَانَ ، وَخَلَقَ الْخَيْرَ ، وَخَلَقَ الشَّرَّ ، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَاتَلَهُمْ اللهُ ، كَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ (3)؟. (4)
(1) أَيْ: الْبَصْرِيّ.
(2)
أَيْ: مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ خُطْبَةً وَوَعْظًا.
(3)
أَيْ: الْحَسَن الْبَصْرِيّ.
(4)
(د) 4618
(اللَّالَكائِي)، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَو أَرَادَ اللهُ أَنْ لَا يُعْصَى ، مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ "(1)
الشرح (2)
(1) قال الألباني: رواه اللالكائي في " السنة " ج1ص141 ، والبيهقي في " الأسماء والصفات ص157) ، صَحِيح الْجَامِع: 2693 ، الصَّحِيحَة: 1642 ،
(2)
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) ص236:
قولهم: أيُّ حكمة في خلق إبليس وجنوده؟ ، ففي ذلك من الحكم ما لا يُحيط بتفصيله إلا الله.
فمنها: أن يُكْمِل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ، ومخالفته ومراغمته في الله ، وإغاظته وإغاظة أوليائه ، والاستعاذة به منه ، والالتجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده ، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه.
ومنها: خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه ، وسقوطه من المرتبة الملكية ، إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لمَّا شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر ، وخوف آخر كما هو المُشاهد من حال عَبيد الملك إذا رأوه قد أهانَ أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبْلغ ، وهم يشاهدونه ، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره ، وتكبر عن طاعته ، وأصر على معصيته ، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه ، أو عصى أمره ، ثم تاب وندم ، ورجع إلى ربه ، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب ، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرَّ وأقام على ذنبه ، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحِكم الباهرة ، والآيات الظاهرة.
ومنها: أن يَظْهَرَ كمالُ قدرته في خلقٍ مثل جبريل والملائكة ، وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه ، فإنه خالق الأضداد ، كالسماء والأرض ، والضياء والظلام ، والجنة والنار ، والماء والنار ، والحر والبرد والطيِّب والخبيث.
ومنها: أنَّ خَلْقَ أحدِ الضِّدَّيْنِ ، مِن كمال حُسن ضِدِّه ، فإن الضد إنما يظهر حُسنُه بضده ، فلولا القبيح ، لم تُعرف فضيلة الجميل ، ولولا الفقر ، لم يُعرف قدر الغنى.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده ، وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه ، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها ، وبين شكره بعد أن ابتُلِي بعدوه ، ثم اجتباه ربه ، وتاب عليه وقبله.
ومنها: أن المحبة والإنابة ، والتوكل ، والصبر ، والرضا ، ونحوها ، أحب العبودية إلى الله سبحانه ، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد ، وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه ، فالجهاد ذروة سنام العبودية ، وأحبها إلى الرب سبحانه ، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها ، التي لا يُحصي حِكَمَها وفوائدَها وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها: أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ، ولطائف صنعه ، ما وجوده أحب إليه ، وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان ، والعصا ، واليد ، وفلق البحر ، وإلقاء الخليل في النار ، وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته ، وعلمه وحكمته ، فلم يكن بدٌّ من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم.
ومنها: أن من أسمائه: الخافض الرافع ، المعز المذل ، الحكم العدل ، المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلِّقات يظهر فيها أحكامها ، كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها ، ولا بد من ظهور متعلِّقات هذه وهذه.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُظْهِرَ لعباده حِلْمَه وصبرَه وأناته ، وسعة رحمته وجوده ، فاقتضى ذلك خلق من يُشرك به ويضادُّه في حُكمه ، ويجتهد في مخالفته ، ويسعى في مَساخطه ، بل يتشبه به سبحانه ، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ، ويرزقه ويعافيه ، ويمكِّن له من أسباب ما يلتذُّ به من أصناف النِّعَم ، ويجيب دعاءه ، ويكشف عنه السوء ، ويعامله من بره وإحسانه بضدِّ ما يعامله هو به من كفره وشِركه وإساءته.
وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب ، يرزق الشاتم المكذِّب ، ويعافيه ، ويدفع عنه ، ويدعوه إلى جنته ، ويقبل توبته إذا تاب إليه ، ويُبْدِلُهُ بِسَيِّآتِهِ حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ، ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به.
وفي الحديث الصحيح: " لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون ، فيغفر لهم " ، فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته ، اقتضى حمدُه وحكمتُه أن يخلُق خلقا يُظْهِرُ فيهم أحكامَها وآثارَها ، فلمحبته للعفو، خلق من يَحْسُنُ العفوُ عنه، ولمحبته للمغفرة ، خلق من يَغْفِرُ له ويحلم عنه ، ويصبر عليه ولا يعاجله ، ولمحبته لعدله وحكمته ، خلق من يُظْهِرُ فيهم عدله وحكمته ، ولمحبته للجود والإحسان والبر ، خَلَقَ من يعاملُه بالإساءة والعصيان ، وهو سبحانه يعاملُه بالمغفرة والإحسان ، فلولا خَلْقُ من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات ، لفاتت هذه الحِكَمُ والمصالح وأضعافُها وأضعافُ أضعافِها ، فتبارك الله رب العالمين ، وأحكم الحاكمين ، ذو الحكمة البالغة ، والنِّعَمِ السَّابغة ، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته ، وله في كل شيء حكمة باهرة ، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات ، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر ، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيطَ بكمالِ حكمته في شيء من خلقه.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل ، فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعةٍ هي أحبُّ إلى الله وأرضى له ، من جهادٍ في سبيله ، ومخالفةِ هوى النفس وشهوتها له ، وتَحَمُّلِ المشاقِّ والمَكاره في محبته ومَرضاته ، وأحبُّ شيءٍ للحبيب أن يَرى مُحِبَّهُ يتحمَّل لأجله من الأذى والوَصَب ما يُصَدِّقُ مَحبَّتَهُ. انتهى كلامه رحمه الله.