الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمريكيا ولاهوت الاستعمار العبراني
ألقى القس (ونثروب)، موعظة في الحجاج على متن السفينة الاسطوريه (اربيلا)، أكد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل ارض كنعان الجديدة قائلاً: "إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأبهته، وعندها يتوجب علينا أن نجعل من (نيوانغلاند) مدينة على تل ( city upon a hill) . وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضاً)، وما يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا، وقد (استخدم) آخر أربعة رؤساء أميركيين هذا الرمز في مناسبات مختلفة: ريغان، بوش الأب، كلينتون، بوش الابن (1).
ولو عدنا إلى الوراء قليلاً وتوغلنا في التاريخ الأمريكي، لوجدنا كثيراً من وجوه التشابه في إنشاء الوطن الأمريكي، وإنشاء دولة إسرائيل، وخير ما يوضح هذا التشابه هو كتاب (مورتن) المسمى (كنعان الجديدة الإنجليزية)، فإنه يعبر أصدق التعبير عن روح فكرة أمريكا، التي هي الفهم الإنجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، حتى أن قصة هؤلاء الحجاج الإنجليز، الذين أسسوا أول مستعمرة فيما سمي بعد ذلك الولايات المتحدة، إن هي ألا تجسيد لإنجلترا الجديدة الأصل الأسطوري للتاريخ الأمريكي ومركزيته الانجلوسكسونية. وفي كل عام يحتفل كل بيت أمريكي بعيد الشكر، وهو تعبير عن النهاية السعيدة الناجحة (لمن هرب) من ظلم الفرعون البريطاني ونجاتهم وخروجهم من أرضه والتيه في البحر، ولذلك صنعوا (العهد) الذي أبرموه على ظهر السفينة، التي حملتهم إلى أمريكا الجديدة مع (يهوه)، حتى وصولهم إلى أمريكاـ التي في نظرهم أرض كنعان الجديدة.
ويمكن ملاحظة أن كل تصورات (العبرانيين القدامى) وأفكارهم عن الحياة والتاريخ والأرض والسماء قد زرعها هؤلاء الإنجليز، الذين هاجروا إلى أمريكا، حتى الأسماء التي سموا بها المدن في أمريكا هي أسماء عبرانيه قديمة كالتي أطلقها اليهود على ارض فلسطين أبان السيطرة اليهودية عليها، ومنها: ارض الميعاد ـ
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص127
صهيون ـ إسرائيل ـ واستعاروا كثيراً من سلوك اليهود عند إبادتهم سكان كنعان فشبهوا إبادة الأمريكان للهنود بإبادة اليهود لسكان كنعان. كما أن هناك كثير من التشابه القصصي والتقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان (ارض فلسطين). لقد كانوا يبيدون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون قد اختارهم الله لهذه المهمة وفضلهم على العالمين. وأكثر من ذلك أعطاهم تفويضا بقتلهم (1).
يقول (منير العكش) في كتابه (حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والإبادات الجماعية): "إن فكرة إنشاء أمريكا قامت على فكرة إسرائيل التاريخية، وإن ما يعانيه الفلسطينيون هو ما عانى منه الهنود الحمر. فالرواد الأمريكيين الأوائل وصفوا أنفسهم بأنهم الإسرائيليون، وأطلقوا على السكان الأصليين الكنعانيين. واتهم المستوطنين الأوائل بإبادة 112 مليون هندي أمريكي بالسلاح والتجويع وحتى بالأوبئة". وتحت عنوان المعنى الإسرائيلي لأمريكا يقول (العكش): "أن فكرة أمريكا .. فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر الاجتياح المسلح وبمبررات غير طبيعية، هي محور فكرة إسرائيل التاريخية. فعملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة بشخصيات أبطالها .. الإسرائيليون .. الشعب المختار .. والعرق المتفوق وضحاياها الكنعانيون .. الملعونون .. المتوحشون .. البرابرة. ومسرحها ارض كنعان وإسرائيل. ومبرراتها الحق السماوي، أو الحضاري. وأهدافها الاستيلاء على أرض الغير، واقتلاعه جسدياً وثقافياً"(2).
ولما كان المجتمع الأمريكي، مثل المجتمع العبراني، مؤسساً على اجتياح أرض الغير (الأمريكيون اجتاحوا أرض الهنود الحمر، والعبرانيون أرض كنعان)، كان لابد من تشريع هذا الاجتياح واقتلاع الشعب من أرضه بزعم الحق الإلهي، عن طريق استبطان أسطورة ارض الميعاد، بالزعم أن ما يبدو اغتصاباً، إنما هو تنفيذ لإرادة إلهية. وقد تشابهت في هذه العقدة النفسية، التي احتاجت إلى نظرية ارض الميعاد، مجتمعات عديدة يجمعها اجتياح أرض الآخرين، ومحاولة إبادتهم عنها، وهى أمريكا وإسرائيل والنظام العنصري البائد في جنوب إفريقيا (3). ولهذا يرى (منير العكش) أن
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة ـ احمد حجازي السقا ص 9
(2)
حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والإبادات الجماعية - منير العكش ـ الدستور الأردنية - 18ـ8ـ2002م
(3)
تاريخ تطور علاقة المسيحية باليهودية / د. فكتور سحاب - جريدة الخليج عدد 8674
النازية والصهيونية والعبرانية الانجلوسكسونية استعانت في صناعة فرائسها بمنطق واحد، يتجدر ويستمد كل أخلاقه من لاهوت الاستعمار العبراني.
ولما كانت فكرة قيام أمريكا وهي (استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة) عبر السطو المسلح وبمبررات غير طبيعية، هي نفسها فكرة (إسرائيل التاريخية)، التي أوحت إلى أمريكا بأن هناك قدراً خاصاً بها. فإنه يمكن ملاحظة مثل تلك المبررات من خلال تصريحات (بوش) والمسئولين الأمريكيين إبان غزو العراق، وإلغاء دور الأمم المتحدة وإعطاء الصبغة الشرعية لأمريكا من وجهة نظر مسئوليها كمبررات (السلام العالمي ـ الأمن الوقائي ـ الإرهاب الدولي أسلحة الدمار الشامل- رخاء شعب العراق أو شعوب المنطقة وديمقراطيتها). فكل هذه المبررات بحسب الظاهر لاحتلال وغزو منطقة بتاريخها، والسيطرة عليها وعلى ثرواتها، حسب الاعتقاد الأمريكي هو قدر خاص بأمريكا، وبمشيئة الرب، (ولها) جذور تاريخية واعتقاد راسخ يضرب جذورا عميقة في الذاكرة الأمريكية. وهو واضح أيضا في معظم المناسبات الدينية والوطنية، وكل خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون، الذين يصرحون بعبارات منها: أن إرادة الله ـ القدر ـ حتمية التاريخ .. الخ، قد اختارت الأمة الأمريكية (ألانجلوسكسونية المتفوقة) وأعطاها التاريخ دور المخلص في حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان العالم، ومن هذه العبارة القدرية أجريت الجراحة التجميلية المزيفة للمعنى الإسرائيلي لأمريكا وفكرة الاختيار والتفضل الإلهي (1).
وبناء على ما تقدم فإننا لا يجب أن نندهش حين يرحب الأمريكيون بالمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال حالياً على أرض فلسطين، فهذا النعل من ذاك الحذاء. يجب أن لا نندهش وان نعلم أن الأمريكيين يربطون ربطاً لازماً بين مصير الهنود الحمر ومصير الفلسطينيين. يقول (وليم فوكسويل) في كتابه (التوحيد وتطوره، من العصر الحجرى إلى المسيحية): "ان فيلسوف التاريخ وهو القاضي النزيه، يرى على الاغلب ان من الضروري زوال شعب متخلف، ليخلى مكانه لشعب آخر ذي ملكات متفوقة
…
فقد يؤدى الاختلاط بين العروق البشرية إلى نتائج مدمرة". وهذا ما اتاح لصاحبنا ان يخلص فيما يخص الكنعانيين إلى ما يلى: "كان من حسن حظ التوحيد
(1) عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 12ـ13
ومستقبله ان الاسرائيليين المجتاحين، كانوا شعباً متوحشاً يملك تلك القوة البدائية مع ارادة للحياة لا نظير لها، فابادة الكنعانيين قد حالت دون الانصهار التام للشعبين المنحدرين من اصل واحد، ولو قدر لهذا الانصهار ان يقع لعمل دون شك على اضعاف ديانة (يهوه) إلى حد بعيد" (1).
وفي كتابه (فلسطين الجانب الإنساني) أورد (ويكفيلد) عبارة للبروفيسور (راينهولد نيبر)، يقول فيها:"إن الزعم بأنه من غير الأخلاقي دولياً أن تؤخذ فلسطين من العرب وتعطى لليهود، زعم عار من الصحة، اللهم إلا إذا صح الزعم بأن المستوطنين الأوربيين لم يكن من حقهم أخذ الأرض من الهنود الحمر ليستوطنوها، ويجعلوا منها القارة الأمريكية العظيمة"(2). ويقول الحاخام المؤرخ (لي ليفنجر): "أن مؤسسي أمريكا كانوا أكثر يهودية من اليهود أنفسهم، وهم على حسب ما يزعمون (يهود الروح) الذين عهد الله إليهم كما عهد إلى يهود (اللحم والدم)، قبل أن يفسدوا ويتخلوا عن أحلام المملكة الموعودة". ويضيف مخاطباً المهاجرون الأوائل قائلاً: "أن يهوديتكم أيها المهاجرون إلى العالم الجديد هي التي أرست الثوابت الخمسة التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته:
1 -
المعنى الإسرائيلي لأمريكا.
2 -
عقيدة الاختيار والتفضيل الإلهي والتفوق العرقي والثقافي والفكري.
3 -
الدور الخلاصي للعالم.
4 -
قدرية التوسع اللامحدود.
5 -
حق التضحية بمن سواهم وإبادتهم واعتبارهم، كما تقول التوراة والتلمود جنساً محتقراً لا لزوم له ما دام ليس يهوديا (3).
وهكذا فقد اقتدى الأمريكان في المبادئ الخمسة بعلماء اليهود وبحرفية كل ما جاء من في التوراة. فالتفسير النزيه للتقاليد الكتابية التي تأمر بالأعمال الفظيعة، وجرائم الحرب، قد قدمت العزاء والسلوى لأولئك المصممين على استغلال الأراضي
(1) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - طبعة 1991 - ص38
(2)
حق التضحية بالآخر .. أمريكيا والابادات الجماعية - منير العكش ـ الدستور الأردنية - 18ـ8ـ2002م
(3)
عودة المسيح المنتظر لحرب العراق بين النبوءة والسياسة -احمد حجازي السقا ص 10