الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرطاجي (روتان) عام 504 ق. م. وتدل الآثار المتبقية والدراسات على اندماج وتأثر واضح لسكان أميركا بالعرب دون أن تطمسهم الحضارة العربية أو تفنيهم (1).
وفي كتابه عن الهنود الحمر، قام الكاتب التشيكي (فلاديمير هلباتش) بجمع حكايات الهنود الأميركيين وأساطيرهم متيحاً نافذة نادرة لمعرفة ثقافة أمة لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ، ومراجع الأنثروبولوجيا، حيث كان للهنود الأمريكيين ثقافة مزدهرة، مفعمة بالمعاني الإنسانية الراسخة، وكان وصول الأوروبيين بداية لانحسارهم، بل وانقراضهم. فمن أبرز ما محاه تاريخ المنتصر إعجاب الغزاة بروعة ما شاهدوه لدى الهنود من أفكار وتقنيات وشرائع وعادات وفنون وفلسفه حياة وأساليب بلاغيه وفصاحة لسان. ولكن تاريخ المنتصر وحش لا يسمن ويقوى إلا بلحم الفرائس الآدمية. لقد محا الحسنات وأباد أهلها المحسنين، ولم يترك منهم إلا تلك الصورة الهوليووديه المشوهة لكائنات عراة متوحشين، ينبت في رؤوسهم الريش، ويعوون في البراري كما تعوي الضباع (2).
مفارقة التوماهوك
يلاحظ على قصص الهنود وحكاياتهم، أنها قريبة من قصص الشرق، وبعضها قد يكون يقترب كثيراً من قصص وردت في الكتب السماوية، مثل الحياة في السماء والنزول إلى الأرض، وهي أيضاً منسجمة كثيراً مع تراث الشرق المفعم بالدعوة إلى الخير، والرفق بالناس والحيوان، مثل قصة (توماهوك)، التي هي في الأصل فأس هندية كان الهنود الحمر يحملونها لقتل أعدائهم ونزع فراء رؤوسهم، ولكن زعيم هندي عظيم شعر بقسوة الحرب ووحشيتها فتقدم بمبادرة صلح وسلام بين القبائل، حيث أقيم احتفال كبير وحفر خندق دفنت فيه فؤوس التوماهوك ليعيش الناس في سلام أبدي (3)
…
ولكن ذلك الزعيم الهندي الطيب لو كان يدرى إن التوماهوك (4) الذي
(1) حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة ـ المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول - ومراجعة د. زبيدة أشكناني - الجزيرة نت
(2)
حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص174
(3)
حكايات الهنود الأمريكيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة -المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول
(4)
أصبح التوماهوك اسم لصاروخ أمريكي فتاك يمكنه حمل رؤوس نووية، ويمكنه إصابة الهدف بدقة على بعد آلاف الأمتار. وقد استخدمته أمريكا في حربها على أفغانستان والعراق بكثافة مما أدى إلى قتل الألوف من الأبرياء.
دفنه سيأتي من سيخرجه إلى الوجود ثانية وسيستخدمه في إبادة ألوف البشر، لما فعل ذلك، ولأبقاه على الأقل لمواجهه عنصرية المهاجرين الأوربيين إلى أمريكا. ولكن يبدو أن هؤلاء الهنود الحمر الطيبين الذين كانت ثقافتهم وحضارتهم تقوم على المثل العليا لم يدركوا طبيعة المغتصب الجديد الذي لا يكتفي بالسلب والنهب، بل أيضاً يعشق القتل ورائحة الدم، حيث كانت سياسة الإذلال والترويع التي انتهجها الحجاج، ومن قبلهم مستعمرو فرجينيا أفضل تعبير عن شكرهم للضيافة الهندية.
فكثيراً ما كانوا يقتلون الهنود الذين يحملون إليهم الطعام والهدايا، بل كانوا يقدمون لهم المغريات الكثيرة لزيارتهم من أجل أن يكمنوا لهم ويقتلوهم، وكانت الوسيلة المحببة لاستدراجهم، واستخراج ذهبهم خطف أولادهم لما لاحظوه من تراحم الأسرة الهندية فيما بينها وتكافلها ورعايتها لأطفالها (1).
كما عمد المحتلون البيض إلى تدمير حضارة الهنود العالمية وثقافتهم، التي كانت من حيث مستواها الأخلاقي ـ الروحي، أعلى بكثير من الثقافة التلمودية ـ اليهودية وتقترب من الأفكار المسيحية. فالوحشية المرضية والجشع، السمتان المميزتان للمحتلين البيض في أمريكا الشمالية، كانتا بعيدتين تماما عن الهنود الحمر الذين رأوا في الغزاة البيض أناساً شاذين ضارين، ولا يستحقون سوى الشفقة (2). وفي حديث لزعيم قبائل الهنود الحمر ويدعى (بوهاتن) مع (جون سميث) قائد مستوطنه جيمس تاون قال: لماذا تصرون على أن تأخذوا منا بالقوة ما يمكن أن تأخذوه بالمحبة؟ لماذا تصرون على تدميرنا، ونحن الذين قدمنا لكم الغذاء؟ ما الذي تستطيعون الحصول عليه بالحرب؟ إننا نستطيع أن نخفى تمويننا، ونفر إلى الغابات وعندها سوف تقاسون من الجوع بسبب سوء معاملتكم لأصدقائكم (من الهنود الحمر). ما هو سبب غيرتكم وحسدكم؟ ها أنتم تشاهدوننا فنحن غير مسلحين،
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص40
(2)
لهذا كله ستنقرض أمريكا - الحكومة العالمية الخفية - تأليف الغ بلاتونوف - ترجمة نائله موسى ص24
ولدينا الاستعداد لنمدكم بما تحتاجون إليه إذا جئتم بطريقة ودية، وليس بالسيوف والبنادق كما لو كنتم قادمين لغزو عدو (1).
كما تكشف قصة احد الهنود الحمر ويدعى (سكوانتو) مع الحجاج الأوربيين، التفوق الأخلاقي والعقلي والحضاري للهنود، وتروي عشرات الكتب التي أرخت لهذا الفتى الأسطورة وعشرات الأفلام وقصص التبشير التي استلهمت سيرة حياته، وجنت منها الملايين، كيف انتشل سكوانتو أسطورة أمريكيا من الموت في شتائها الأول، حين احضر للحجاج الطعام، وعلمهم كيف يزرعون الذرة واليقطين وأنواع الحبوب والقرعيات؟ وأين يصطادون السمك ويسمدون الأرض ببعض أنواعه؟ بل وكيف يغتسلون ويتخلصون من قذارتهم وروائحهم الكريهة عبثاً (2). وثمة قصص أخرى كثيرة عن الأخلاق الحميدة والشجاعة والكرم التي تحلى بها الهنود الحمر، والتي تحذر من الظلم. وقد اعتبر (كولمبوس) الهنود أكثر شعوب العالم سخاء، مقدماً بذلك مساهمة في أسطورة المتوحش النبيل. "إنهم لا يعرفون اشتهاء ما لدى الغير من خيرات .. إنهم لا يعرفون المكر، ويجودون بما يملكون إلى درجة أن أحد لن يصدق ذلك إلا إذا كان قد رأى شيئاً كهذا"(3).
ولكن وبالرغم من هذه الحضارة الراقية والاخلاق الحميدة التى تميز بها الهنود الحمر، فقد جاء شاحبو الوجوه (الأوروبيون)، وأطلقوا نيران بنادقهم عليهم بلا رحمة، وحاصرهم الموت والجوع والبرد، وطردوا من أراضيهم ودنست مقدساتهم، ولكن بقيت قصصهم تروى وتشهد.!! (4). حيث بدأت سياسة التدمير الشامل لكل أسباب الحياة الهندية في العالم الجديد، منذ اللحظة الأولى لشروق الشمس الانكليزية على جزيرة روانوك، التي استقبلهم أهلها عام 1580م بالترحاب فاقطعوهم ما شاءوا من الأرض وآووهم وكسوهم وأطعموهم الطعام على حبه، وعلموهم أسباب البقاء في هذه الطبيعة الغريبة عنهم. لكن ما إن اشتد ساعدهم قليلاً حتى راحوا يخترعون
(1) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص26
(2)
حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص41
(3)
فتح أمريكا (مسألة الآخر) -تزفيتان تودوروف - ترجمة بشير السباعي- تقديم فريال جبوري غزول- ص 55 - الناشر: دار العالم الثالث- ط2 2003
(4)
حكايات الهنود الأميركيين (الحمر) أساطيرهم: حيل البقاء والمقاومة - المؤلف ـ فلاديمير هلباتش ترجمة: موسى الحالول
الأعذار للقتل العشوائي، ويتحينون الفرص لإتلاف المحاصيل، وإحراق القرى والحقول، وقطع أسباب الحياة عن الهنود عمداً وكان الهنود قد لاحظوا منذ الأيام الأولى أن المستعمرين ينبشون القبور لسرقة ما فيها، أو لآكل جثثها الطازجة أحيانا. ثم تصاعدت خطة التجويع والتدمير الاقتصادي، وازدادت تنظيماً وتركيزاً واستهدافاً على مدى القرنين التاليين (1).
ففي بداية الهجرة وصل إلى شواطئ القارة الشمالية نزلاء السجون البريطانية والألمانية الذين أفرجت عنهم السلطات، ودفعت بهم إلى الأرض الجديدة ليبحثوا عن مكان جديد يعيشون فيه ويجربون حظهم في جمع الثروة، وكان هؤلاء مسلحين بأحدث الأسلحة، فكونوا فيما بينهم عصابات مسلحة راحت تداهم قرى الهنود الحمر وجماعاتهم، وتسلب ما بأيديهم من ذهب وجواهر، ثم تفتك بهم و تطردهم من ديارهم، وتستولي على أراضيهم لتقيم عليها مستوطنات أوروبية، ثم تتوسع كل مستوطنه شيئاً فشيئاً بقدوم مهاجرين جدد إليها، وتضم إليها أراض جديدة بعد طرد الهنود الحمر منها أو إبادتهم (2). وفي نهاية القرن السابع عشر الميلادي زاد الزحف نحو الغرب بعد الثورة (1783ـ1800) ولكن حرب 1812م مع بريطانيا، وكذلك غارات الهنود كانت قد أبطأت هذا التقدم بين عام 1800ـ1815م. وهذا الزحف نحو الغرب يمكن وصفه كالآتي: في المقدمة أصحاب الصيد وتجار الفراء والمستكشفين، ويتبع هؤلاء موجه الرواد المزارعين، وعندما تزداد كثافة هؤلاء المستوطنين، فإن موجة أصحاب الصيد وتجار الفراء تتقدم للأمام .. وهكذا تعاد الكرة. وقد تلا الصلح مع بريطانيا عام 1815م، موجه هجرة داخلية عارمة يطلق عليها في التاريخ الأمريكي اسم الهجرة الكبرى (3).
لقد كان الاستيلاء على الأرض هو الهدف الأول والأخير للمستعمرين الأوربيين في أمريكا الشمالية. وكان إنجاز هذا الهدف مرتبط بشرط آخر، هو إبادة الهنود الحمر، والتخلص منهم بكل الوسائل الممكنة. لذلك أخذت هذه العملية صوراً
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص33
(2)
الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 43
(3)
إمبراطورية الحرية - انطونيو بلتران هرنانديزـ ترجمة احمد توفيق حيدرـ ص159 - دار الفارابي/ بيروت - ط1 2004
مختلفة منها الحروب الشاملة والمناوشات المحدودة والقتل الفردي، حتى أن إبادة الهنود بالسلاح الجرثومي كانت سياسة رسمية عبر تقديم بطانيات ملوثة بالجراثيم لهم (1). كما كانت الحكومة البريطانية في عصر الملك (جورج الثالث) تعطى مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي من الهنود الحمر، قرينة تدل على أنه قتله. وبعد استقلال الولايات المتحدة بعد ذلك بنحو خمسين عاماً، أي منذ 1830م استمر هذا التقليد، بل تصاعد حين اصدر (جاكسون) قانون ترحيل الهنود الذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفاً من هنود (الشيروكى) من جورجيا، وترحيلهم سيراً على الأقدام في برد الشتاء القارس إلى معسكر خصص لهم في اوكلاهوما، فمات أكثرهم قبل أن يصلوا، وسمى الطريق الذي مشوا فيه: ممر الدموع!! كان ذلك عام 1835م، واستمرت حرب الإبادة ضد الهنود الحمر حتى تقلص عددهم من 6.5 مليون عام 1500م إلى نصف مليون عام 1890م!! (2).
لقد كان المهاجرين الأوربيون من أفظع أنواع المجرمين، وأشدهم قسوة وإجراماً وميلاً إلى سفك الدماء، وفي سبيل المغامرة وجمع الذهب أو التنقيب عنه كانوا لا يبالون بشيء، وأصبح قتل الهنود الحمر وتعذيبهم من أعمالهم الروتينية، بل أن العصابات الأوروبية كثيرا ما كانت تهاجم بعضها بعضاً للسلب والنهب، ولا يتورعون في سبيل الحصول على الذهب أو الماشية من فعل أي شيء (3). وكان (اوليفر هولمز) وهو من اشهر أطباء عصره، "قد لاحظ في عام 1855م إن إبادة الهنود هو الحل الضروري للحيلولة دون تلوث العرق الأبيض، وان اصطياد الوحوش في الغابات مهمة أخلاقيه لازمه لكي يبقى الإنسان فعلاً على صورة الله". وهكذا بدأت دعوات الإبادة الشاملة تعلو عندما لم يكن في كل الشمال الأميركي سوى ألفى إنكليزي، ثم ازدادت هذه الدعوة حدة وجنوناً حين تأكد الإنكليز أن الهنود قد يرحبون بهم ضيوفاً، ويكرمونهم بما يكفيهم من الأرض والرزق، ويعيشون معهم بسلام، لكنهم لن يتنازلوا طوعاً عن أراضيهم، ولن يتقبلوا فكرة السخرة والاستعباد، وكانت
(1) أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية - ص25
(2)
الإخطبوط الصهيوني وخيوط المؤامرة لابتلاع فلسطين - تأليف سيناتور جاك تنى - تعليق وترجمة هشام عوض- - دار الفضيلة للنشر والتوزيع
(3)
الانحياز الأمريكي لإسرائيل - دوافعه التاريخية والاجتماعية والسياسية ص 44
كل بادرة لمقاومة هذا الجشع والتعصب المقدس برهاناً إضافياً على صدق أسطورة أميركا، وعلى صدق الدعوى بأن الهنود متوحشون عدوانيين لا تنفع معهم إلا الإبادة، لأن التسامح مع الشرير ليس إلا تشجيعاً للشر، وليست هناك خطيئة أعظم من هذا. ومع تقدم الزمن صارت شيطانية الهندي الأحمر بديهية لا تحتاج إلى دليل مثلما إن إنكليزية الله وتفوق شعبه من البديهيات، التي لا تحتاج إلى دليل. لقد سكنت شيطانية الهنود أحلام الملائكة حتى إن (ميرسي شورت) التي زعمت أن الشيطان تلبسها وصفته على شكل هندي له أظلاف شيطانية (1).
وبالرغم من ضخامة عدد الهنود الحمر، الذين تمت إبادتهم، إلا أن أحد الباحثين يرسم صورة أكثر مأساوية فيقول:"لقد بلغ عدد الهنود الحمر في الولايات المتحدة عام 1901م حوالي 269 ألف نسمة، بينما قدر عددهم قبل أربعة قرون من هذا التاريخ بما يتراوح بين عشرة ملايين وأثنى عشر مليون نسمة، ومن هنا يتبين لنا هول عمليات الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر بعد وصول الأوربيون إلى أمريكا. ففي المعدل فإن من بين كل عشرين شخصاً من الهنود الحمر بقى شخص واحد (2). مفارقه عجيبة وحزينة، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، حيث إن المستوطنين المتوحشون استمروا في الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر، الذين نفذ صبرهم فقاوموا المستوطنين، وهاجموا مستعمرة جيمس تاون. وعلى أثر ذلك وضع قادة شركة فرجينيا الإنجليزية ـ التي تشكل جيمس تاون أحد استثماراتهاـ تقريراً جاء فيه: "إن الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أية محاولة لتمدينهم، فهم همج برابرة عراة متفرقون، جماعات في مواطن مختلفة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً، لكن النصر عليهم سهل، وإذا كانت محاولة تمدينهم سوف تأخذ وقتاً طويلاً فإن إبادتهم تختصره، ووسائلنا إلى النصر عليهم كثيرة، بالقوة بالمفاجأة بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة المطاردة بالجياد السريعة، والكلاب المدربة، التي تخيفهم لأنها تنهش جسدهم العاري" (3).
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص61
(2)
أمريكا و أزمة ضمير - محمد جلال عناية ـ ص21
(3)
من نيويورك إلى كابول ـ محمد حسنين هيكل ص47