الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والآن ارتبط اسم ذلك الزعيم، الذي استلهمه درويش، بإحدى المدن الأمريكية البارزة (سياتل، في ولاية واشنطن)، ولعلّها أيضاً نفس المدينة، التي شهدت صراع الأمريكيين أنفسهم (وكأن التاريخ يعيد نفسه)، حول البحث عن تأصيل سطوة (العولمة)، حينما انقسم الشعب (المُنقسِم)، ما بين مؤيِّد لتلك الفعاليات، وفقاً للغة المصالح، التي تنسج خيوط (الحلم الأمريكي) الشهير، وما بين معارض لها، وبشدّة (!).
بعضٌ من أمريكا
درويش في قصيدته، لم يكن بعيداً عن استقراء، الوضع الراهن من طغيان (العولمة)، بكلّ هوامشه الخطرة. أضف إلى ذلك، الحفر بكلمات "الاستقصاء الشعري"، بحثاً عن استمرار تفاصيل "حرب الإبادة"، ولو بصيغة جديدة. وهذا ما يحدث الآن بالضبط (دون الاستعانة بأرقام الفجيعة، في فلسطين وأفغانستان
"مثلاً"!). لهذا لا تستنكروا الاستشهاد، ببعض أبيات القصيدة الدرويشية، في الجزء الأبرز من هذه الكتابة، في إطار قراءة "الطغيان الأمريكي".
وفي مدخل القراءة، لم يكن مناسباً، غير الإغراق في التمعُّن، في تلك الحالة الاستشرافيّة، التي نطقها الشعر العربي المعاصر، وكأنّه ينوب عن صوت العرب القديم والأصيل (عبر الشعر أيضاًَ)، حينما كان ممثِّل دبلوماسياتها بين الحضارات والأمم
…
آنذاك.
إذن، هذه المرّة فقط، ستثبت مقاطع درويش، عبر الخطبة "الهندية الحمراء"، أن الشعر العربي، قد عاد وهجه - مؤقّتاً - وإن كان زمن الكتابة الراهن "روائياً" بحتاً، حينما استنطق الواقع السياسي المُعاش حالياً، أكثر من دُهاة السياسة، وكبار المراقبين والمعلِّقين، في هذه الساحة الساخنة، التي تستعصي حتّى على خبراء الاستخبارات (!).
الأرض الأمريكية الراهنة، كانت ملكاً لـ"مجموعات الإسكيمو"، في الشمال النائي المتجمِّد، والمنفصل من الولايات (آلاسكا)، ولـ"قبائل الهنود الحمر"، في بقيّة الأراضي، امتداداً إلى دول أمريكا الجنوبيّة. منذ وطأت قدم البحّار كريستوفر كولومبوس (1451 - 1605)، تلك الأرض في عام 1492، بدأ العهد "الأمريكي"، الذي يعرفه العالم الآن، بعد أن تلظّى منه أصحابها (أيّ الأرض!). ولعلّ المؤرِّخون في العالم أجمع، يضمّون حدث اكتشاف أمريكا، ضمن وقائع تُعدّ دليلاً، على بداية الأزمنة الحديثة، إلى جانب اكتشاف المطبعة من قبل جوتنبرج (1434)، واكتشافات كوبرنيكوس الفلكية (1543). وهنا تأتي الإشارة الأخرى، التي يتّخذها بعض النقّاد، وهي أنّ تلك الوقائع، قد مهّدت إلى انطلاقة اصطلاح "الحداثة"( Modernity) ، فيما بعد، وذلك في العام 1849، في أيام بودلير، ليتأكّد انضمام عصر الحداثة، إلى الأحقاب الثلاثة التي تقسِّم التاريخ الإنساني، إلى جانب العصور اليونانية الرومانيّة القديمة، والعصور الوسطى. إنّها "الحداثة" التي يربطها الغالب فينا، بالاصطلاح الأدبي فقط - خصوصاً نحن العرب (!) - وإن كان أوضح تعريف لها: تموضُع العلم في مركز الحياة الاجتماعيّة، بدلاً من العقليّة الغيبيّة أو الميتافيزيقيّة. ويراها عالم الاجتماع الفرنسي "ألان تورين"، بأنّها ليست عبارة عن مجرّد تتابع للحظات الزمن،
وإنّما هي نشر المنتوجات الفعاليّة العقلانيّة للبشر، وكذلك الفعاليّة العلميّة، والتكنولوجيّة، والإداريّة.
هل فهمتهم بعضاً من "أمريكا"، استناداً إلى ارتباطات اكتشافها العظيم (؟!)
…
(*) هلّ يفهم "السيِّد الأبيض"؟
ومع ذلك، لنا أن نتوغّل، مع ما كتبه محمود درويش، لنفهم ما لم يفهمه "السيِّد الأبيض"(سيِّد أمريكا الجديدة والمتسِّيدة)، من تلك الخطبة التاريخية، للهندي الأحمر، بعد أن "شعرنها" بطريقته الخاصّة، وقال:
لن يفهم السيِّد الأبيض
الكلمات العتيقة هُنا،
في النفوس الطليقة
بين السماء وبين الشجر
…
فمن حقِّ كولومبوس الحُرِّ
أن يجد الهند في أيِّ بحر،
ومن حقِّه أن يُسمِّي أشباحنا
فُلفُلاً وهنوداً،
وفي وسعه أن يُكسِّر بوصلة البحر
كي يستقيم
وأخطاء ريح الشمال،
ولكنّه لا يصدِّق أنّ البشر
سواسيّة كالهواء وكالماء
خارج مملكة الخارطة!
وأنّهم يولدون
كما تُولد الناس في برشلونة،
لكنّهم يعبدون إله الطبيعة
في كلِّ شيءٍ
…
ولا يعبدون الذهب
…
وكولومبوس الحُرُّ يبحثُ عن لغةٍ
لم يجدها هُنا،
وعن ذهبٍ في جماجم أجدادنا الطيِّبين
وكان له ما يريد
من الحيِّ الميِّتِ فينا
(*) ولا يزال التساؤل مستمرّاً
وفي منحنى آخر للاستقراء "الدرويشي"، للحالة المرضيّة "الأمريكيّة"، بدأ بطرح السؤال الساخن، على لسان ذلك الهندي الأحمر، حينما وضع الرمز الأمريكي "الأبيض"، بين قوسي الاستنكار، وهو يقول له:
إذن لماذا يواصل حرب الإبادة، من قبره، للنهاية؟
ولم يبقَ منّا سوى زينةٍ للخراب،
وريشٍ خفيفٍ على ثياب البحيرات.
سبعون مليون قلبٍ فَقَأْتَ
…
سيكفي
ويكفي، لترجع من موتنا ملكاً
فوق عرش الزمان الجديد
…
(*) سلطة الأرض
…
و"الشمس"
كلّ الصراعات في كوكب الأرض، تدور حول "الأرض"، إنّها السلطة التي يبحث عنها ماضي البشر بكافّة "عوالمه"، وحاضرهم باختلالات "عولمته". إلاّ أن درويش لم يكتفِ، بإيضاح نشوة "سلطة الأرض"، لدى صاحب القرار في أمريكا، وإنّما إضاف إليها "سلطة الشمس"، حيث البحث الدؤوب عن تملُّك كلّ شيء: في باطن الأرض، وعلى سطحها، وفوق فضائها
…
حتّى ضوء الشمس، الذي يغطِّيها من مشرقها إلى مغربها،
ودليل ذلك هُنا:
لنا ما لنا
…
ولنا ما لكم من سماء
لكم ما لكم
…
ولكم ما لنا من هواءٍ وماء
لنا ما لنا من حصىً
…
ولكم ما لكم من حديد
تعالَ لنقتسم الضوءَ في قوّةِ الظلِّ،
خُذْ ما تريد من الليل،
واترك لنا نجمتين
لندفن أمواتنا في الفَلَكْ
وخُذْ ما تريد من البحرِ،
واترُكْ لنا موجتين لصيد السمك
وخُذْ ذَهَبَ الأرض والشمس،
واترُكْ لنا أرض أسمائنا
(*) صراع أم حوار حضارات؟
وفي منعرج مهم، من تلك القصيدة الطويلة، قرأ محمود درويش مبكِّراً، ما يشاع حالياً من "صراع الحضارات"(كتاب صموئيل هنتنجتون)، أو حتّى "حوار الحضارات"، بعد اشتداد الأزمة، على الأصعدة الدينيّة والإنسانيّة، بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. لهذا كان الشاعر الفلسطيني واضحاً، في هذه
الأسطر:
لكُم ربُّكُم ولنا ربُّنا،
ولكم دينُكُم ولنا دينُنا
فلا تدفنوا الله في كتبٍ
وعدتكم بأرضٍ على أرضنا
كما تدّعون،
خُذوا وردَ أحلامِنا
كيْ تروا ما نرى من فرحْ!
وناموا على ظلِّ صفصافِنا
كيْ تطيروا يماماً يماما
كما طار أسلافُنا الطيِّبون
وعادوا سلاماً سلاما
(*)"إسبارطة" الآيديولوجيّة والتكنولوجيّة
أمّا الوضوح الذي بحث عنه درويش، تجلّى في الجزئية أدناه من القصيدة، حينما فتح كلّ الإشكالات "العولميّة" الراهنة على مصراعيها، وأبرز "الثمن" المدفوع لتلك الإشكالات: موتى، بلدوزرات، مستوطنات، رادارات، وغيرها من الرموز "الصارخة"، حتّى أوصلنا إلى تخوم "روما الجديدة"، وثوابت "إسبارطة"
الآيديولوجيّة، بكلّ حوافها التكنولوجيّة (!)
…
عمّا قليل
تُقيمون عالمكم فوق عالمنا:
من مقابرنا تفتحون الطريق
إلى القمر الاصطناعي.
هذا زمانُ الصناعات.
هذا زمان المعادن،
من قطعة الفحم،
تبزُغُ شمْبانيا الأقوياء
…
هنالك موْتى ومُستوطناتٌ،
وموْتى وبلدوزراتٌ، وموْتى ومستشفياتٌ،
وموْتى وشاشاتُ رادارٍ ترصُدُ موْتى
يموتون أكثر من مرّةٍ في الحياةِ،
وترصُدُ موْتى يعيشون بعد الممات،
وموْتى يُرَبُّون وحش الحضارات موْتا،
وموْتى يموتون
كي يحملوا الأرض فوق الرُّفات
…
إلى أين يا سيِّد البيض،
تأخُذُ شعبي،
…
وشعبك؟
إلى أيِّ هاويةٍ يأخُذُ الأرض
هذا الروبوت المُدجّج بالطائرات
وحاملة الطائرات،
إلىِّ هاوية رَحْبَةٍ تصعدون؟