الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمريكيا البريئة
هناك قضية هامة على المستوى الاخلاقي، تروج لها الثقافة الأمريكية منذ عدة عقود، ومفادها أن أمريكا لا صلة لها بآثام القارة الاوروبية، فالمهاجرون الذين قدموا من هناك بدؤوا تاريخاً جديداً من نقطة الصفر. وتقول الكاتبة:"إن وراء دينامية الحلم الأمريكي، وقوة الاكاذيب تظهر اسطورة اخرى مؤسسة، هي ان أمريكا فقدت براءتها. انهم يعلنون ذلك مع كل ازمة تحدث، وتجد هذه السذاجة الامكانية لتعيد انتاج نفسها من جديد. ان الأمر تكرر في (بيل هاربر) وفيتنام و11سبتمبر". وتتساءل: "كيف يحصل ذلك؟. ان اسطورة الأصل يمكن ان تتلخص هكذا: انسان جديد (الأمريكي) يتخلص من تاريخه ومن مآسي اوروبا العجوز، ويبدأ تاريخاً جديداً من الصفر، على ارض عذراء. لقد كون امة جديدة ويبحث عن السعادة، واجه المأساة (في كل مرة يقال إن هذا يحصل للمرة الأولى). هذه الامة الاخلاقية والمتفائلة تفقد براءتها، كأي حواء تقضم التفاحة".
ان النظر إلى التاريخ يكشف انه لا توجد أمة بريئة. وإذا اعتبرنا ان أمريكا غير مسؤولة عن الشمولية والنازية والستالينية والماوية، الايديولوجيات التي خلفت من الموتى في القرن العشرين، اكثر مما عرفه تاريخ البشرية، فهي مع ذلك ليست عذراء ولا طاهرة. انها على الاقل لا تتوقف عن مغالطة ضميرها، والدعوة إلى نظافة نواياها، الأمر الذي يبدو باعثا على السخط. لنلاحظ، انها ليست وحدها، بل معها اوروبا، لا تكف عن ان تعطي لنفسها حق مقاضاة العالم بأكمله، في حين ان ماضيها يجب ان يحرضها على الخشوع" (1).
لماذا يكرهوننا
ربما كانت عبارة كرمويل شديدة الدلالة حين قال: "تسعة يكرهونني؟ وما هم إذا كنت العاشر الوحيد المسلح"، وهي عبارة تستوحي ما قاله فيلسوف روما قديماً:"دعهم يكرهونك ما داموا يخشونك" وهو قول استرشد به الأباطرة الرومان واستخدموه في المحافظة على هيبة الامبراطوريه وفي البطش والإرهاب وإبادة
(1) هل يجب الخوف من أمريكا؟ تأليف: نيكول باشاران عرض: بشير البكر- جريدة الخليح الاماراتية - 15 - 12 - 2005
الشعوب، وهو ما حرك ضدهم جميع أنواع المقاومة التي أدت في النهاية إلى تفكك امبراطوريتهم وسقوطها (1). وربما ينطبق هذا القول على الأمبراطورية الأمريكية، ولكن مع الفارق في ان الأمريكان لا يعرفون أو لا يريدون ان يعرفوا سبب كره العالم لهم. ففي مؤتمر صحفي عقده بعيد هجمات 11 سبتمبر، سئل الرئيس جورج بوش لماذا يكرهوننا؟ و (واو) الجماعة كان عائداً على الارهابيين ومؤيديهم، بمن فيهم اولئك الذين كانوا يعرفون باسم الدولة المارقة، والتي ما لبث بوش ان وصمها بمحور الشر (2). وقد جاء الجواب مضللاً حينها على لسان بوش الابن وصناع القرار:"أن الذين يهاجمون أميركا يدفعهم الحسد والغيرة من الرفاهية والديمقراطية التي تنعم فيها الولايات المتحدة، وهو الجواب الأكبر شعبية وتعميما اليوم"(3).
وقد علق على ذلك (وليام بلوم) بقوله: "هناك بعض الابتدال والتفاهات التي يغدينا قادتنا ونقادنا بها عقب كل هجوم ارهابي ضد منشآت امريكية، هي: ان صورة أمريكا، الجميلة الواقفة على التل يحسدها عليها الجميع، مما يجعلها هدفاً لهجمات الارهابيين الذين لا يستطيعون تحمل ان تنتصر مثل هذه الطيبة المطلقة في عالم ينتمى إلى سيدهم ابن الصباح نفسه الشيطان"(4).
اما لماذا لا ينتبه الأمريكيون لكره العالم لهم، فيعود إلى انشغالهم بأنفسهم، أو كما قال أحد مسؤولي محطات التلفزيون الأميركية العملاقة:"إن الشباب الأميركيين يهتمون بنظام التغذية والريجيم أكثر من اهتمامهم بالخفايا المعقدة لدبلوماسية الشرق الأوسط". وبتفسير أكثر رصانة لرئيس شبكة MSNBC يقول فيه: "إن اللوم يقع على غشاوة وطنية من ضباب المادية، وعدم الاهتمام، والميل إلى الانطواء". وقد أظهر الأميركيون المشاركون فعلياً في السياسة الخارجية الأميركية أنهم ضيقي الافق ومصابون بغطرسة القوة، وراحوا يجادلون بعدم الحاجة إلى
(1) صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص87
(2)
الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص16
(3)
صناعة الإرهاب - د. عبد الغني عماد - ص100
(4)
الدولة المارقة - دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم - ويليام بلوم - ترجمة كمال السيد- ص 62 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2002
الاهتمام بالأمم الأخرى (1). ولكن ثورة المعلومات والاتصالات أتاحت الفرصة للاعبين جدد غير الحكومات للعمل والتدخل والتأثير، وحدث ما يمكن تسميته بـ (خصخصة الحرب)، فقد استطاعت منظمات أهلية صغيرة ومحدودة في مناطق فقيرة وهامشية ومعزولة من العالم أن تشغل الولايات المتحدة وتهددها (2). فبعد ان شعر الآخرون أن أميركا قد أعلنت الحرب على العالم - وهو امر يصعب على كثير من الأميركيين فهمه وإدراك أن هذا هو رأي العالم بما يقوم به بلدهم في الخارج- بدأ الأمريكيون يشعرون بكره العالم لهم، حيث ان ضيق أفق الكثير من الأميركيين هو المسؤول عن إطلاق هذه الكراهية.
ويحاول (كلايد برستوفتز) ان يفسر سبب ضيق افق الأمريكيين وكره العالم لهم فيقول: "هذا ويرجع ضيق الأفق ذاك، إلى حقيقة كون أميركا لا تعنى بالكثير من الأخبار الخارجية ولا تنفتح على الثقافات الشعبية الأجنبية، ويحكمها نواب منتخبون لم يسبق لهم أن غادروا أميركا". فأميركا بالنسبة للغالبية القصوى من الأميركيين هي (أم العالم) أو هي العالم، وكل ما يجري خلف البحار والمحيطات التي تحيط بها لا يعنيهم في شيء. وهكذا فإن عدداً من اصدقائنا وحلفائنا يبادرون إلى تبني وجهة نظر بعد وجهة نظر اخرى، مناقضة لوجهة نظرنا نحن. فهل هم بلهاء؟ تافهون؟ فاسدون؟ قد يكون عدهم كذلك مريحاً، غير ان الحقيقة هي اننا نحن انفسنا، من يجسد حالة الشذوذ والخروج على المألوف. لقد اصبحنا غرباء كدولة وكأمة. كثيراً ما لا ندرك الحقيقة بسبب ضخامة حجمنا بالذات، هذه الضخامة التى تعرقل رؤيتنا للآخرين، وبسبب قوتنا التي تمكننا من ان نفترض ان معيارنا أو رأينا هو المعيار أو الرأى السائد، أو الذى ينبغي ان يكون سائداً في العالم. "وهكذا فاننا ما زلنا، على مستوى شبه طائفي، متمسكين بالاميال والبوصات ودرجات الفهرنهايت، مع ان باقى العالم انتقل منذ زمن بعيد إلى اعتماد النظام المترى الابسط بكثير". يكمن الجانب الغريب حقاً لهذه الظاهرة في حقيقة هي ان باقي العالم يحرص، بسبب قوتنا على مسايرتنا، وعلى (اخذنا على قدر عقولنا) مما يتيح لنا فرصة الغرق في نشوة الانبهار
(1) لماذا يكره الناس أميركا?- ضياء الدين سردار وميريل واين ديفز- الناشر: آيكون بوكس ط1 2002 - كامبردج بوك ريفيو
(2)
مفارقة القوة الأميركية جوزف ناي -تعريب: محمد توفيق البجيرمي الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض
وعدم رؤية الواقع. ففيما يظل باقي العالم عاكفاً على مراقبة أمريكا باهتمام وعلى اخذ آرائها في الحسبان، يبقى الأمريكيون غالباً غافلين عن وجود آراء اخرى- أو هم لا يبالون بها إذا انتبهوا إلى وجودها.
وليس الامر الذى يثير حفيظة الاجانب من النزعة الاحادية الأمريكية متمثلاً بقراراتها السياسية الواعية، بل متجسداً بحالة النسيان والغفلة الكامنة وراء تلك السياسات والخطط (1).
وهناك أيضاً تأكيد كبير على جوانب ضعف الثقافة الأميركية وفشل المخيلة الأميركية في إدراك مدى المعارضة التي تثيرها السياسات الأميركية. فالأميركي المعزول طوعاً بسبب انشغاله في تفصيلات حياته اليومية، أو قسراً بسبب إغراق وسائل الإعلام في القضايا المحلية والتافهة وملاحقة أخبار الفنانين، لا يستوعب ولا يعرف أساساً ما الذي تقترفه السياسة الخارجية الأميركية في بقية مناطق العالم، وكيف يُنتج توحش تلك السياسة عداوات متراكمة ضد الولايات المتحدة وسياستها وشعبها أيضاً. وعندما تنفجر تلك العداوات بشكل عنيف يتفاجأ الأميركيون ولا يدركون ما الذي حدث ولماذا. فقد شهدت الولايات المتحدة بعد عام 1989 موجة مراجعة شاملة للسياسات والمواقف الأميركية قائمة على الانكفاء للداخل، وتقليص الإنفاق العسكري، حتى إن محطات الإعلام الأميركي خفضت مكاتبها الخارجية بنسبة الثلثين، ولكن أحداث 11 سبتمبر أعادت السياسة الخارجية مرة أخرى إلى الواجهة وجعلتها مركز الإستراتيجية الأميركية، حيث كشفت الأحداث عن الحاجة إلى إستراتيجية أميركية جديدة قائمة على القوة العسكرية والقوة الناعمة التي لا تقل أهمية عن السلاح والتقنية، ويقصد بها الثقافة والإعلام، إذ تبين للأميركيين أن العالم يكرههم، فتنبهوا إلى ضرورة تنفيذ حملة إعلامية وفكرية تحت عنوان (لماذا يكرهوننا؟). http://www.aljazeera.net/books/2003/3/3-5-1.htm - TOP
(1) الدولة المارقة - الدفع الاحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص24 - 25