الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانوا يحبون تبرير أعمالهم بعبارات فضفاضة من علم الكونيات الديني. كما كان واضحاً بأن هناك توجها للعناية الإلهية يسري في سائر كتابات أصحاب ذلك المشروع الاستعماري. فهم يتكلمون عن أنه رغم كون الجميع من الناس مشاركين في خطيئة آدم، إلا أنهم يحتفظون بموهبة العقل، التي تمكنهم من استغلال الحيوان والنبات وممالك المعادن. وهم بأعمالهم الأنانية كانوا ينفذون خطة مقدسة تفضي إلى الوفاق النهائي، وهكذا فإن الله تعالى ـ على حسب ما يراه الكتاب الإنجليز ـ قد أخر استعمار العالم الجديد إلى ما بعد الإصلاح الديني البروتستانتي لكيلا تقع أميركا بغير منازع في حضن الظلام البابوي (1).
هذه الخلفية الدينية المستمدة من العهد القديم، والتي تمسك بها المسيحيون البروتستانت، باعتبارهم رسل العناية الإلهية، التي يجب أن يلتزموا بحرفية تعاليمها، لكي يحصلوا على البركة والرخاء، ولكي لا تحل عليهم النقمة، هي التي يمكن أن توضح لنا سبب الجشع والطمع وحب المال الذي يتمتع به الأمريكان، باعتبار أن ذلك هو إطاعة لأوامر الله. وقد اكتشف (توكفيل) هذه الحقيقة، وكان أول محلل ومراقب ثاقب البصيرة للولايات المتحدة منذ عام 1840م في كتابه الأساسي عن هذه الدول، وكانت ـ لا تزال ـ وليدة حين قال:"لم أعرف شعباً مثل هذا الشعب استولى فيه حب المال على قلوب البشر، انه شعب من شراذم المغامرين والمضاربين". واليوم ـ أيضا نستطيع أن نتعرف في تاريخ هذا الشعب على أسس انحطاط ثقافته (2).
التباين في الثروات
لم يكن غريباً أن (مارتن لوثر) مؤسس المذهب البروتستانتي، اعتبر الملكية معياراً للتفريق بين الإنسان والحيوان، ولهذا اتهم القديس الاسيزي بأنه مختل العقل، طائش أحمق شرير لمجرد أنه كان يطلب من أتباعه إن يتخلوا عما لديهم للفقراء. ومنذ نزولهم في جيمستاون عام 1607م، لم يستطع القديسون أن يميزوا
(1) تاريخ الحياة الثقافية في أميركا يرويه لويس بيري ـ ترجمة أحمد العناني ـ ص 12
(2)
أمريكيا طليعة الانحطاط - جارودى ص48
بين السماء وعجل الذهب "لقد وجدنا أرضاً واعدة أكثر من أرض الميعاد، فبدلاً من اللبن وجدنا اللؤلؤ، وبدلاً من العسل وجدنا الذهب"(1).
فمنذ وطأت أقدام المستعمرين الأوربيين أمريكا، ودخلوا في صراع دموي مرير مع الهنود الحمر سكان ـ القارة الأصليين ـ وجد رجال الدين أنفسهم في خدمة الحرب الجديدة. وعندما انطلقت دعوة الدارونية الاجتماعية ـ وجدت الكنيسة فيها مبرراً لهذه الخدمة العسكرية. وكان من بين رجال الدين الأمريكيين الذين اعتنقوا الدارونية الاجتماعية عدد غير قليل، منهم الكاهن (جوسيان سترونج)، الذي قال:"إنه طبقا لصراع وتفوق النوع الانجلو ـ سكسوني، يظهر في أمريكا نوع من الناس كبار الأجسام أقوياء فارعو الطول". وقال: "أن العنصر الأمريكي سوف يملأ القارة ويزحف نحو الأقطار الأخرى في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، وما ورائها وستكون نتيجة هذا الزحف تفوقه والقضاء على الأجناس الأخرى لان البقاء للأصلح"(2).
ولما كانت الحيوانات ـ في نظرية دارون ـ غير متساوية وأن أفضلها هو أقواها واقدرها على التكيف مع متطلبات البيئة، فكذلك أفراد الجنس البشري، هم مختلفو القدرات، وأفضلهم هم أقدرهم على التكيف خلال عملية (الصراع من أجل البقاء)، ولذلك فإن المساواة فكرة خاطئة تكرس التخلف والمرض في المجتمع. أما (حرية الصراع) فإنها تولد الشجاعة والتدريب والذكاء والعمل. وهكذا لعبت القيم الدينية المستمدة من التوراة دوراً رئيساً في تبرير الطبقية والغنى والفقر، والذي انعكس بدوره على القيم التى يقوم عليها النظام الرأسمالي برمته، ومن أبرز الناطقين بلسان هذا الاتجاه (وليم جراها صومنر) الذي كانت آراؤه الاقتصادية تطبيقات لنظرية الانتقاء والبقاء للأصلح، وخلاصة آرائه في هذا المجال ما يلي:
1ـ التنافس المطلق الذي لا تقيده قيود، أساس الحياة الاقتصادية، والذين ينجحون في جمع الثروة هم أفضل العناصر في المجتمع، والذين يفشلون هم العناصر السيئة، ولذلك لا تجوز الصدقة على الفقراء لان معناه تكريس الضعف في المجتمع.
(1) حق التضحية بالآخرـ تأليف منير العكش ـ ص117
(2)
صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص19
2ـ إن تنافس بني البشر في ميادين الثروة، كتنافس الحيوان في جمع الغذاء، ولذلك لا داعي للفقراء أن يلوموا الأغنياء، وإنما هم مسئولون عن عجزهم عن التكيف والنجاح في ميدان الصراع، لأن الحقيقة الأولى في الحياة هي الصراع من أجل البقاء، وأعظم مظاهر هذا الصراع هو توفير رأس المال والثروة.
3ـ إن أصحاب الملايين هم حصيلة الانتقاء الطبيعي، الذي يعمل في المجموعة البشرية كلها لانتقاء أولئك الذين لديهم قدرات الإنجاز (1).
وبالرغم من ما أحدثه الإيمان بهذه الأفكار، من تفاوت متزايد في الثروات وبالتالي في السلطات، داخل أمريكا، والذي كان أحد أسباب ظهور الطبقية، وتجمع الثروة في أيدي حفنة قليلة من الأفراد، أفقرت الآخرين ثقافياً ومادياً، الا ان الأمريكيون الأصوليين يعتقدون أن ما تتمتع به أمريكا من رخاء وثراء وتفوق دليلاً لا يدحض على أن الله ذاته يوافق الأمريكيين على إيمانهم بأنهم هم العالم، وأنهم المكلفون بتنفيذ مشيئته والقيام بعمله على الأرض، ويكافئهم على ذلك بالرخاء والثراء والقوة (2). فالرئيس المؤمن (رونالد ريجان) أعلن، أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها (أمة مباركة من الله)، ولكن أحد رجال الدين الأسبان تجرأ على استهجان ما قاله (ريجان) واصفاً إياه بأنه (تجديف وهرطقة)، لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتي من مباركة الله، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث، عبر التبادلات غير المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة وغزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض بها المرتبات، وعبر الفوائد الاستغلالية للقروض (3).
وهكذا أوجد الإيمان بهذه الأفكار تبايناً صارخاً في الثروات، جعلت واحداً في المئة فقط من الشعب الأمريكي يهيمنون علي ثروات تزيد أضعاف المرات علي ما يمتلكه ثمانون في المئة من الشعب مجتمعين. ويمتلك (بيل غيتس) من الثروة ما يعادل ثروة مدينة أمريكية تعداد سكانها نصف مليون نسمة. ومع ذلك، فقد صنّف المكتب الأمريكي العام للإحصاء في مطلع القرن الواحد والعشرين حوالي 40 مليون
(1) صناعة الإرهاب ـ د. عبد الغني عماد - ص7ـ8
(2)
المسيحية والتوراة - شفيق مقار ص414
(3)
أمريكا طليعة الانحطاط - جارودى - ص109