الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتب كولومبس"أستطيع أن استولي على كل هذه الأراضي بخمسين فقط من رجالي وأن أحكمها كيفما أشاء".
ولم يفت كولومبس أيضا أن يصف مدى الكرم الذي لاقاه من جانب هؤلاء القوم الذين لم يضنوا عليه وعلى من معه بأي شيء من المتاع الذي كانوا يملكونه. ولكن كيف يرد كولومبس لهم المعروف? أخذ يقتل ويعذب فيهم هو ومن معه بغية إبادتهم والاستيلاء على أرضهم (1).
موعظة طاحونة الشيطان
في أحد البلاد "المتقدمة جداً" سارت الحكومة في اتجاه اليمين، وتمشياً مع الحرية الشخصية، سمح للأفراد بحق حمل السلاح، وشهدت صناعة الأسلحة الخاصة رخاء غير مسبوق، وتنافس المنتجون في السوق الحرة بخيال وإعلانات هائلة تنشر وتوزع عدد غير معروف ولا نهاية له من المسدسات والمتروليوزات والبندقيات الآلي منها واليدوي، من الطراز الفاخر، حتى الطراز الشعبي، الذي يمكن أن يكون في متناول الجميع. ومن الأسلحة كاتمة الصوت، حتى الأسلحة المسماة بـ "الرادعة"، والتي يفضي الانفجار الذي تسببه إلى سحق المعتدي المحتمل دون تعيين هدف خاص.
إن حرية الاختيار أمام المستهلك مؤمنة. وأصبحت السوق فعلياً غير محدودة، لأن العصبية التي تسببها ضغوط العمل، والزحام في المدينة ومعارضة " القيم المقدسة " عبر الإثارة الإباحية أو المادية، جعلت الرجال حتى المسالمين منهم ـ بل النساء ـ حتى الأقل جمالاً وغير المرغوب فيهن - جعلتهم كلهم يحملون على الأقل سلاحاً أو سلاحين ناريين، والعديد من الذخائر وفضلاً عن ذلك، وصل ارتفاع "مستوى المعيشة" إلى أعلى معدلاته بفضل التوسع الملازم لهذه الإثارة الاقتصادية. وسمحت لكل فرد بشراء العديد من الأسلحة. لقد مضى عصر الندرة والبؤس الآدمي.
(1) حضارة الدم وحصادها .. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي- د. نزار بشير - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة - طبعة أولى - 2003 - العرب اليوم 2005 - 11 - 19
لقد ولدت صناعات جديدة، وهي تؤكد هذه الديناميكية الحيوية الرائدة، ومنها: صناعة السترات الواقية من الرصاص، الخوذ، أحذية ذات شبك معدني، أقنعة واقية من الغاز، هياكل سيارات مصفحة، زجاج مضاد للرصاص، وشراعات من الصلب للمنازل. "الطفرة" في صناعة الحديد، هي مؤشر صحة الاقتصاد القومي. لقد انفجرت روح المبادرة عند المعلنين عن الصناعات، وظهرت قيم الشركات الخاصة، دليلاً للفكر الثاقب للحكام. تلك الغبطة وهذا السرور اللذان أحدثهما هذا الرخاء أنهيا كل الأحزان. كما استقبلت كل فروع النشاط القومي نبضات منعشة: إنه العصر الذهبي لشركات التأمين وللعيادات الخاصة، والمعامل الدوائية التي تلبي ـ بالكاد ـ طلبات المهدئات التي لا تنتهي. إنها سوق مضمونة، فالعروض لا تنتهي للشباب حتى للخاملين فيهم، إذ لهم فرصة عظيمة بل مضمونة لإيجاد أعمال مربحة وبنزاهة، ولا تتطلب سوى معرفة سطحية لبعض الأشياء، ككيفية نقل الموتى أو جمع المصابين.
يتم نقاش الميزانية، لهذا الاقتصاد المتنامي، حسب منطق "رد الفعل" الذي أخرج العلوم المستفيدة من "نتائج" التسليح الخاص غير المباشرة: فالاستهلاك العالي للحديد وما تنتجه المناجم، وجه الاقتصاد إلى البحث والاستكشاف في المواد المركبة الأشد صلابة والأكثر مقاومة، من أجل صناعة الدروع، مما أنتج تقدماً هائلاً في صناعة المقذوفات. وكما قال أحد أبرز خطبائنا البرلمانيين في هذه المناسبة: إن بوابة التقدم انفتحت إلى ما لا نهاية. كما استشرف الطب والطب النفسي والجراحة، آفاقاً عظيمة واستعراضية عبر شفائهم لأمراض مجهولة وجديدة: لقد عبروا بر الأمان بالدروع المحكمة، التي غيرت مفهوم التغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية، وذلك التغيير الخاص بالسلاح، شجع على استكشافات في مناخ الاضطراب والعدوانية، مما سيؤثر في مستقبل علم النفس.
يا له من تغيير في الثقافة، وبخاصة في العلوم الإنسانية، لقد انفتح علم الاجتماع الإيجابي أمام ذلك، لاستخدام وسائل وقواعد جديدة بلا نهاية، لأنها تلعب دوراً محركاً ورائداً في وصل العلوم المتعددة، ووسائل البحث المتباينة "المسدسية"، وعلماء الإحصاء أتقنوا تكنيك الحساب العاقل الرزين، كما استطاعوا أن يحسبوا تاريخ اليوم، الذي سيصل فيه حجم ووزن الأسلحة إلى التساوي مع حجم الأرض. لقد حسب أحد العلماء البارزين السابقين أنه في عام حدده بعد بضع سنين. لن تترك
زيادة السكان لأي فرد أكثر من متر مربع واحد في الكون. أما اليوم فقد اختلف الأمر تماماً، وانقلبت الآية، وظهر "قانون اللوغاريتمات" للإبادة، والذي سمح بالتنبؤ باليوم الذي سيكون في مجال النظر للرجل الأخير في العالم، قلب جاره، وسيتمكن من إطلاق الرصاص القاتل عليه. من هذا المنظور العلمي أصبحت "المستقبلية" الإيجابية للمسدساتية ملكة العلوم، وتمتاز بالشدة والصرامة والدقة، كالفيزياء أو علم الصوتيات اللغوية.
"مؤسسة راند" ومنافسوها، ممن يمتازون بخبرة كبيرة في "نظريية الألعاب" الإستراتيجية، يلعبون دورهم الرائد كمستشارين وأنبياء لدى كبار مديري صناعة الموت. لقد توصل أحد باحثينا ـ وربما يكون أحد أعظم عباقرة قرننا هذا، لما يمتاز به من بعد نظر ـ إلى اقتراح جديد يغير أسلوب العمارة والإنماء، والفن بصفة عامة، لكي يتناغم مع عصر "المسدساتية": شوارع منحنية لتخفيض مرمى التراشق بالرصاص. ومن هنا قامت "الثورة" في عالم الأشكال، والتي نهضت على تلك الضرورة الأساسية. هكذا، بفضل الالتصاق الداخلي للنظام، الذي ميز كل الحضارات الكبرى في ذروتها، بزغت ثقافة مبدعة جديدة، كلاسيكية جديدة ستزدهر وذكرت الحكومة بزهو شرعي وبافتخار بالآفاق، كل مرة يتم فيها تقييم للتوسع، الذي شجعت عليه: معدل نمو أعلى من أي دولة أو بلد آخر، مصحوب بكل نتائجه: عملة قوية، والعمل للجميع، وميزان المدفوعات رائع بكل المقاييس ورابح، والغزو للأسواق الأخرى لا ينتهي من أجل تصدير السلاح، لأن الإشباع الداخلي لمنتجاتنا "المسدساتية" النارية جعلت أسعارنا منافسة للغاية.
قد تضاعف الناتج القومي الصافي للفرد، في عشر سنوات. وتبرز كل المؤشرات صحة وقوة الاقتصاد وتوحده. لقد تم استكمال كل أحلام الاقتصاد والتنمية، ويمكننا بكل عدالة أن نطالب بحقنا في الهيمنة العالمية ليس فقط بفضل ثرائنا وقوتنا، ولكن بفضل حكمتنا (1).
(1) أمريكيا طليعة الانحطاط ـ روجيه جارودى - تقديم كامل زهيري- تعريب عمرو زهيري - ص 245ـ 249 - دار الشروق- ط3 2002