الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعاً: فَهْمُ وتدبُّر معاني الأذكار في الجلسة بين السجدتين:
1 -
((ربِّ اغْفِرْ لي، ربِّ اغْفِرْ لي)) (1).
2 -
((اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني))، ولفظ ابن ماجه:((ربِّ اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارزقني، وارفعني)) (2).
أي: يا الله امح ذنوبي، وتقصيري، وأحسن إليَّ بقبول عبادتي، وعافني من البلاء ومضلات الفتن في الدَّارَيْن، واهدني لصالح الأعمال، وثبتني على الدِّين الحقّ، وارزقني رزقاً حسناً، ودرجة عالية في الآخرة، واجبر نقصي في كل شيء (3).
قوله: ((رب اغفر لي)): سؤال الله سبحانه وتعالى أن يغفر لك الذنوب كلها: الصغائر والكبائر، والمغفرة هي: ستر الذنب، والعفو عنه، مأخوذة من المغفر - وهو لباس للرأس عند الحرب يتقى به السهام -، وفي المغفر ستر ووقاية، وليس ستراً فقط، فالمعنى: اغفر لي، أي: استر ذنوبي، وتجاوز عنِّي حتى أسلم من عقوبتها، ومن الفضيحة بها.
(1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 897، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 335، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 148.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم 850، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 284، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 898، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 239، وانظر شرح السندي على سنن ابن ماجه، 1/ 484.
(3)
المنهل العذب المورود، 5/ 292، وانظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه، 1/ 484.
قوله: ((وارحمني)): طلب رحمة الله عز وجل التي بها حصول المطلوب، وبالمغفرة زوال المرهوب، هذا إذا جمع بينهما؛ فإن الرحمة إذا قرنت بالمغفرة: فالمغفرة لما مضى، والرحمة سؤال الله تعالى السلامة من ضرر الذنوب وشرِّها في المستقبل، وأما إذا أُفرد الدعاء بالرحمة: فهو طلب المغفرة لما مضى، والتوفيق والعصمة فيما يستقبل (1).
قوله: ((وعافني)): المعافاة: المراد بها المعافاة في الدين والدنيا، فتشمل الأمرين: أن يعافيك الله من أسقام الدِّين: وهي أمراض القلوب: كالغلِّ، والحسد، وسوء الظن، ومدار أمراض القلوب على: أمراض الشهوات، والشبهات، وأن يعافيك من أمراض الأبدان، وهي اعتلال صحة البدن.
والإنسان محتاج إلى هذا وإلى هذا، وحاجته إلى المعافاة من مرض القلب أعظم من حاجته إلى المعافاة من مرض البدن، فإذا كنت تنظّف قلبك دائماً في معاملتك مع الله، وفي معاملتك مع الخلق حصَّلت خيراً كثيراً، وإلا فإنك سوف تغفل، وتفقد الصلة بالله، وحينئذٍ يصعب عليك التراجع، فحافظ على أن تُفَتِّش قلبك دائماً، فقد يكون فيه مرض شبهة، أو مرض شهوة، وكل شيء - ولله الحمد - له دواء، فالقرآن والسنة الصحيحة دواء للشبهات والشهوات، فالترغيب في الجنة، والتحذير من النار دواء للشهوات، وأيضاً إذا خفت أن تميل إلى الشهوات في الدنيا التي فيها المتعة،
(1) حاشية ابن قاسم على ثلاثة الأصول.
فتذكر متعة الآخرة.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يحفر الخندق مع المهاجرين والأنصار: ((اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَاّ عَيْش الآخِرَةِ)) (1)، فيقول:((اللَّهُمَّ)) من أجل أن يكبح جماح النفس حتى لا تغترّ بما شاهدتْ من متع الدنيا، فيُقبلُ على الله، ثم يوطِّن النفس ويقول:((لا عَيْشَ إلَاّ عَيْش الآخِرَةِ))، لا عيش الدنيا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إن العيش عيش الآخرة؛ فإنه عيش دائم، ونعيم لا تنغيص فيه، بخلاف عيش الدنيا فإنه ناقص منغص زائل.
وأما دواء القلوب من أمراض الشبهات، فالقرآن كله مملوء بالعلم والبيان الذي يزول به داء الشبهات، ومملوء بالترغيب، والترهيب الذي يزول به داء الشهوات، ولكننا في غفلة عن هذا الكتاب العزيز الذي كلَّه خير، وكذلك السنة المطهرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما عافية الأبدان فطبّها نوعان:
النوع الأول: طب جاءت به الشريعة، فهو أكمل الطب وأوثقه؛ لأنه من عند الله الذي خلق الأبدان، وعلم أمراضها وأدويتها، وهو ضربان:
الضرب الأول: طبٌّ مادي: كالتداوي بالعسل، والحبة السوداء.
الضرب الثاني: معنوي روحي، وذلك بالقراءة على المرضى، وهذا قد يكون أقوى وأسرع تأثيراً (2).
(1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أصلح الأنصار والمهاجرة، برقم 3769، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، برقم 1805.
(2)
انظر صحيح مسلم، برقم 3701.
النوع الثاني: طِبٌّ ماديٌّ يُعرفُ بالتَّجاربِ، وهو: ما يكون على أيدي الأطبَّاءِ، سواء درسوا في المدارس الرَّاقيةِ وعرفوا، أو أخذوه بالتَّجارب.
قوله: ((واهدني)): يعني هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، فهداية الإرشاد: التي ضدها الضلال، وهداية التوفيق: التي ضدها الغي، فأنت إذا قلت:((واهدني)) تسأل الله سبحانه الهدايتين: هداية الإرشاد، وذلك بالعلم النافع، وهداية التوفيق، وذلك بالعمل الصالح، فينبغي للإنسان أن يستحضر أنه يسأل ربه العلم النافع، والعمل الصالح، وذلك لأن الهداية التامة النافعة هي التي يجمع الله فيها للعبد بين العلم والعمل؛ لأن الهداية بدون عمل لا تنفع، بل هي ضرر؛ لأن الإنسان إذا لم يعمل بما علم صار علمه وبالاً عليه، ومثال الهداية العلمية بدون عمل قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (1)، معنى ((هَدَيْنَاهُمْ)) أي: بيَّنّا لهم الطريق، وأبلغناهم العلم، ولكنهم - والعياذ بالله - {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} .
قوله: ((وارزقني)) طلب الرزق مما يقوم به البدن: من طعام، وشراب، ولباس، وسكن، وما يقوم به الدين: من علم، وإيمان، وعمل صالح، والإنسان ينبغي أن يُعوِّدَ نفسه على استحضار هذه المعاني العظيمة حتى يخرج منتفعاً، فإذا قال:((ارزقني)) يعني: ارزقني ما به قوام الدين، وما به قوام البدن.
(1) سورة فصلت، الآية:17.