الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابع عشر: فهم وتدبر معاني الأذكار بعد السلام من الصلاة
1 -
((أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) (1).
قوله: ((أستغفر الله)) السنة أن يستغفر المصلي بعد سلامه ثلاث مرات - والمغفرة هي ستر الذنب والعفو عنه - تحقيراً لعمله، وتعظيماً لجناب ربه جل وعلا، وكذلك ينبغي أن يكون حال العبد، فيلاحظ عظمة جلال ربه، وحقارة نفسه، وعمله لديه، فيزداد تضرُّعاً واستغفاراً، كلما يزداد عملاً، وقد مدح الله تعالى أهل الاستغفار بعد القيام بقوله:{كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون} (2).
قوله: ((اللهم أنت السلام)): السلام من أسماء الله تعالى، أي: أنت السالم مما يلحق الخلق: من المعائب، والآفات، والحوادث، والتغيّر، ومن كلّ نَقْصٍ، وقيل: المُسلِّم على الأنبياء عليهم السلام في الدنيا، وعلى المؤمنين في الجنة.
قوله: ((ومنك السلام)): هذا بمعنى السلامة، أي أنت الذي تعطي السلامة من الآفات الدنيوية والأخروية، ومنك يطلب السلام، ويرجى، ويستوهب، ويستفاد.
قوله: ((تباركت)): من البِرْكَةِ: وهي: الكثرة، والنماء، والزيادة، والدوام: والمعنى: تعاليت، وتعاظمت، وكثرت خيراتك واتسعت، وتزايد برك.
(1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته برقم:591.
(2)
سورة الذاريات: 17/ 18.
قوله: ((يا ذا الجلال والإكرام)) الجلال: والعظمة، والإكرام: الإحسان، وهو المستحق لأن يهاب؛ لسلطانه، وجلاله، ويُثني عليه بما يليق بعلو شأنه، والجلال مصدر الجليل، يقال: جليل بيِّن الجلالة، والجلال: عظم القدر، فالمعنى: أن الله تعالى مستحق أن يُجَلَّ، والإكرام: مصدر أكرم يكرم، فالمعنى: أن الله مستحق أن يُجَلَّ ويُكرم فلا يُجحد، ولا يكفر به، وهو الرب المستحق للعبادة، والإجلال والإكرام (1).
2 -
((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللَّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ)) (2).
هذا الذكر مستحب لما فيه من ألفاظ التوحيد، ونسبة صفات الكمال إلى الله، والمنع والإعطاء، وتمام القدرة، فأوَّله كلمة التوحيد التي أُرسل بها جميع الرسل عليهم السلام، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وكلما عظُم إيمان العبد بهذه الكلمة؛ ازداد نورها في قلبه واشتد، وأحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهةً، ولا شهوةً، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً فأي ذنب، أو شهوة، أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها (3).
قوله: ((له الملك، وله الحمد)): له الملك أي له سبحانه التصرف في
(1) انظر: حاشية سنن النسائي للسندي، 3/ 69، والعلم الهيب، ص 315، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 139.
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء، برقم 6330، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(3)
انظر: تهذيب مدارج السالكين، 1/ 297.
السموات والأرض، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، والحمد هو الوصف بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم، والألف واللام في ((الحمد)) لاستغراق جميع أجناس الحمد، وصنوفه لله تعالى.
قوله: ((لا مانع لما أعطيت)) أي: لا مانع لما أردت إعطاءه، قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (1)، فلا أحد يقدر على منع ما أعطيت أحداً من عبادك، فإذا أراد الله أن يعطي أحداً شيئاً، واجتمع الجن والإنس على منعه، فإنهم يعجزون عن ذلك.
قوله: ((ولا معطي لما منعت)) أي: ولا أحد يقدر على إعطاء ما منعت.
قوله: ((ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) بفتح الجيم في اللفظين: هو الحظ في الدنيا بالمال، أو الولد، أو العظمة، أو السلطان: أي: لا ينفع صاحب الغنى منك، ولا من عذابك غناه، وإنما ينفعه العمل الصالح بفضلك ورحمتك (2).
3 -
((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) (3).
(1) سورة فاطر، الآية:2.
(2)
انظر زاد المعاد، 1/ 296، وفتح الباري، 2/ 332، والعلم الهيب، ص 317، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 140.
(3)
مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 594.
قوله: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)): الحول بمعنى التحوّل، أي لا تحوَّل من حال إلى حال إلا بالله جل وعلا، والقوة: أخص من القدرة، والباء في قوله ((إلا بالله)) للاستعانة، والمعنى: لا أستطيع ولا أقوى على التحوّل إلا بمعونة الله، فكل إنسان لا يستطيع أن يتحوّل من حال إلى حال، سواء من معصية إلى طاعة، أو من طاعة إلى أفضل منها إلا بالله تعالى.
قوله: ((ولا نعبد إلا إياه)) أي عبادتنا مقصورة على الله، غير متجاوزة عنه.
قوله: ((له النعمة)):أي النعمة الظاهرة والباطنة.
قوله: ((وله الفضل)): أي في كل شيء {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (1): وهو الإنعام والإكرام.
وقوله: ((والثناء الحسن)) أي الذكر الجميل، وهو تكرار الوصف بالكمال.
والثناء الحسن: يشمل أنواع الحمد، والمدح، والشكر، ولا نُحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
((مخلصين له الدين)) أي: مخلصين له العبادة، لا نشرك فيها غيره شركاً أصغر، ولا أكبر، ولو كره الكافرون الإخلاص في العبادة له جل وعلا.
قوله: ((ولو كره الكافرون)) أي وإن كره الكافرون، ومفعوله محذوف تقديره: ولو كرهوا كوننا مخلصين لله، وكوننا عابدين له (2).
(1) سورة البقرة، الآية:105.
(2)
انظر المنهل العذب، 8/ 172، 188، العلم الهيب، ص 318 - 319، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 141.
4 -
ثم يذكر الله تعالى بنوعٍ من الأنواع الآتية:
النوع الأول: ((سبحان الله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الحمد لله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الله أكبر)) ثلاثاً وثلاثين، ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) مرة واحدة (1).
النوع الثاني: ((سبحان الله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الحمد لله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الله أكبر)) أربعاً وثلاثين (2).
النوع الثالث: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر)) ثلاثاً وثلاثين (3).
النوع الرابع: ((سبحان الله)) خمساً وعشرين، ((الحمد لله)) خمساً وعشرين، ((الله أكبر)) خمساً وعشرين، ((لا إله إلا الله)) خمساً وعشرين (4).
النوع الخامس: ((سبحان الله)) إحدى عشرة، ((الحمد لله)) إحدى عشرة، ((الله أكبر)) إحدى عشرة (5).
النوع السادس: ((سبحان الله)) عشر مرات، ((الحمد لله)) عشر مرات،
(1) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان فضله، برقم 597. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان فضله، برقم 596، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.
(3)
متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 843، ورقم 595، ومسلم، كتاب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 595.
(4)
النسائي في سننه، كتاب السهو، باب عدد التسبيح بعد التسليم، برقم 1349، 1350، والترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3413، وقال:((هذا حديث حسن صحيح))، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 752، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 434 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 143 - (595) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
((الله أكبر)) عشر مرات (1).
و ((الأولى - كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الله سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذْ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير، إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك)) (2).
5 -
قوله عز وجل: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} : إخبار بأنه سبحانه المنفرد بالإلهِيَّةِ لجميع الخلائق [ولفظ الجلالة عَلَمٌ خاص بالذَّات العليَّة، فهو سبحانه الإله الحق، وما سواه من الآلهة فهو باطل، و ((إله)) بمعنى مألوه، والمألوه هو المعبود: حباً، وتعظيماً، وخوفاً، ورجاءً].
{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} : هذان اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال؛ فكمال الأوصاف في ((الْحَيُّ))، وكمال الأفعال في ((الْقَيُّومُ))؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة التي لم تسبق
(1) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم 6329، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
فتح الباري، 2/ 328.
(3)
سورة البقرة، الآية:255.
بعدم، ولا يلحقها زوال، فالله الحيُّ في نفسه، الذي لا يموت أبداً، ومعنى القيّوم: القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى أكل وشرب، ولا مُعين، ولا ناصر، والقائم على غيره بما كسب، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيٌّ عنها، ولا قوام لها بدون أمره، ومن تمام القَيُّوميَّة أن لا يعتريه سنة ولا نوم.
قوله عز وجل: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} أي: لا يعتريه نقصٌ، ولا غفلةٌ، ولا ذهولٌ عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية، وقوله:{لَا تَأْخُذُهُ} : لا تغلبه سِنَةٌ وهي الوسن والنعاس؛ ولهذا قال: ((وَلَا نَوْمٌ))، لأنه أقوى من السِّنة.
[ولم يقل: ((لا ينام)) حتى يشمل الأخذ بالغلبة، والأخذ بالاختيار، ولو قلت لا ينام، فقد يكون معناه: لا ينام اختياراً، لكن الله عز وجل لا ينام لا بالغلبة، ولا بالاختيار].
قوله عز وجل: {لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} : إخبار بأن الجميع عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه.
قوله عز وجل: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِه} : هذا من عظمة الله وجلاله، وكبريائه عز وجل، وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه ((إِلَاّ بِإِذْنِهِ))، إلا أن يأذن له في الشفاعة، حتى أعظم الناس جاهاً عند الله محمد صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بإذن الله] كما في حديث الشفاعة الطويل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((فأستأذن على ربي فيُؤذن لي، ويُلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخرُّ له ساجداً، فَيُقَال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعطَ،
واشفع تُشفَّع
…
)) (1).
قوله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} : دليل على إحاطة علمه سبحانه بجميع الكائنات: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها.
قوله عز وجل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء} : أي: لا يطَّلع أحد على شيء من علم الله إلا بما أعلمه الله جل وعلا وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته، وصفاته، إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمِاً} (2).
قوله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} : والصحيح أن الكرسي موضع القدمين، وأنه غير العرش، والعرش أكبر منه، قال ابن عباس
رضي الله عنهما: ((الكرسي موضع القدمين والعرش: لا يقدر أحد قدره)) (3)، [وسع: بمعنى شمل وأحاط، والكرسي موضع قدمي الرب سبحانه، وهو بين يدي العرش كالمقدمة له].
قوله عز وجل: {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} : أي: لا يُثقله، ولا يكترثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما؛ بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو سبحانه القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة، صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعّال لما يريد، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، والحسيب لكل شيء.
(1) البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم 7510، وأطرافه في الطرف الأول، برقم 44.
(2)
سورة طه، الآية:110.
(3)
الحاكم، 2/ 282، وصححه على شرط الشيخين موقوفاً 442 - 444.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} : العليُّ أي: ذو العلو المطلق، والعلو: صفة من صفات الله تعالى، ومعنى العلو المطلق: علو الذات، وهو أنه تعالى مستوٍ على عرشه، استواء يليق بجلاله، وله القدر، وله علوُّ القهر. والعظيم: أي: ذو العظمة، والعظيم من كل شيء، الذي يكون بالغ الأهمية، وبالغ الصفات، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه (1).
6 -
يقرأ سورة الإخلاص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} :
قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} أي: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه، ولا عديل، ولا يُطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته، وأسمائه، وأفعاله.
قوله عز وجل: {اللَّهُ الصَّمَد} يعني: الذي يصمد إليه الخلائق في طلب حوائجهم، ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، وهذه صفة لا تنبغي إلا له، وليس له كفء، وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار.
قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد} أي: ليس له ولد ولا والد، ولا صاحبة.
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، 5/ 429 - 244، وفتح القدير، 1/ 271 - 274، وشرح العقيدة الواسطية للهراس، ص 142، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، ص 327.
قوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} يعني: ليس له نظير يساميه، أو قريب يدانيه: تعالى، وتقدَّس، وتنزَّه، قال الله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (1).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كذَّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إيّاي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد)) (3)(4).
7 -
يقرأ سورة الفلق: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق * مِن شَرِّ مَا خَلَق * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} (5).
(1) سورة الأنعام، الآية:101.
(2)
سورة مريم، الآيات: 88 - 95.
(3)
البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الإخلاص، برقم 4974، وطرفه برقم 1393.
(4)
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 14/ 512 - 515.
(5)
سورة الفلق، الآيات: 1 - 5.
قوله عز وجل: ((قُلْ)) أمرٌ: أي أمرك أن تقول
…
قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} : الاستعاذة هي: الالتجاء، والاعتصام، والاستجارة بالله سبحانه، أي: ألجأ، وأعتصم، وأستجير، والفلق الصبح، وذلك:{مِن شَرِّ مَا خَلَق} أي من شر جميع المخلوقات، والشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين:
إمّا ذنوب وقعت منه يعاقب عليها، فيكون وقوع ذلك الشر: بفعله، وقصده، وسعيه، فيكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين، وأدومهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه.
وإمَّا شر واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّف كالإنسان والجني، أو غير مكلَّف كالهوام، وذوات السموم، وغيرها: فتضمنت هذه الاستعاذة في هذه السورة الاستعاذة من الشرور كُلِّها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدلّه على المراد، وأعمّه استعاذةً، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه.
والقسم الأول هو أعظم الشرين، وأدومهما، وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبده بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها، في نفسه: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1)، فما حُفِظَتْ نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شُكْره، قال الله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} (2)، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه؛ فإنها - أي
(1) سورة الرعد، الآية:11.
(2)
سورة إبراهيم، الآية:7.
المعصية - نار النِّعم التي تعمل فيه كما تعمل النار في الحطب اليابس (1).
قوله عز وجل: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} الغاسق: هو الليل إذا أقبل بظلامه، فإن الشر فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس إذا غربت، انتشرت الشياطين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:((لا ترسلوا فواشيكم (2) وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة
العشاء)) (3)
قوله عز وجل: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد} النفاثات: هي الأرواح والأنفس الشريرة، وهنَّ السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفث: النفخ مع ريق، والعقد: جمع عقدة، وهي من خيوط كما تقدم.
قوله عز وجل: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسد: تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود، وهي: كراهة نعمة الله على الغير، ويدخل في معنى الحاسد: العائن؛ لأن العين لا تصدر إلا من حاسدٍ شرّير الطبع، خبيث النفس، وهذا غير حسد الغبطة: وهو أن يتمنَّى أن يرزقه الله مثل فلان من الخير، مع محبته أن تبقى النعمة ولا تزول، وهذا لا بأس به.
(1) انظر: بدائع الفوائد،2/ 296.
(2)
شرح النووي على مسلم: الفواشي: كل شيء منتشر من المال: كالإبل، والغنم، وسائر البهائم، فإنها جمع فاشية: أي تنتشر في الأرض، وفحمة العشاء: ظلمتها وسوادها.
(3)
مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، برقم 2013 من حديث جابر رضي الله عنه.
ومعنى {إِذَا حَسَدَ} أي: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وحمله على إيقاع الشر بالمحسود (1).
7 -
يقرأ سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} .
قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس * إِلَهِ النَّاس} هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل: الربوبية، والملك، والإلهيَّة، فهو سبحانه ربُّ كل شيء، فربوبيته تعالى: متضمنة لخلق الخلق، وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وما يحتاجون إليه، ورفع الشر عنهم، وحفظهم مما يفسدهم، وهو مليك كلّ شيء: فهو مليكهم المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، المدبِّر لهم كما يشاء، الذي له السلطان التام عليهم، فهو مليكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم، ومعاذهم، وملجؤهم، فلا صلاح لهم، ولا قيام إلا به وبتدبيره.
وهو إله كل شيء، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم حق سواه. فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة، عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات.
قوله عز وجل: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس} : وهو الشيطان الموكَّل بالإنسان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وَسْوَسَ، فإذا ذكر الله خنس؛ فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَيِّن له الفواحش،
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 14/ 222 - 228، وانظر: تفسير المعوذتين تفسيراً مفصلاً في بدائع الفوائد لابن القيم، 2/ 198 - 276.
والمعصوم من عصمه الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما منكم من أحد إلا وقد وكّل الله به قرينه من الجن)) قالوا: وإيّاك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير))، وفي لفظ:((وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) (1).
قوله عز وجل: {الْوَسْوَاسِ} أي: الموسوس، والوسوسة هي حديث النفس.
قوله عز وجل: {الْخَنَّاس} أي: كثير الخنس، والخنس: التواري والاختفاء، ووصف الشيطان بالخنَّاس؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس} (2)، يعني النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار فتختفي ولا تُرى.
قوله عز وجل: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} تفسير للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجن، أي: نعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، والجِنَّة: جمع جني. وكل شر في العالم فالشيطان سبب فيه، ولكن يمكن حصر شره في ستة أجناس، فلا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحداً منها أو أكثر:
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن يئس منه ذلك، نقله إلى:
المرتبة الثانية من الشر، وهي البدعة، وهي أحبّ إليه من الفسوق والمعاصي، فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبدُ ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى:
المرتبة الثالثة من الشر، وهي الكبائر على اختلاف أنواعها، فإن
(1) مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان برقم:2814.
(2)
سورة التكوير، الآية:15.
عجز الشيطان عن هذه المرتبة، نقله إلى:
المرتبة الرابعة، وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، نقله إلى:
المرتبة الخامسة، وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظاً لوقته، شحيحاً به، نقله إلى:
المرتبة السادسة، وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليزيح عنه الفضيلة، ويفوِّته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، وقلّ من يتنبه لهذا من الناس، فإن أعجزه العبد عن هذه المراتب الست، وأعيا عليه سلّط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى (1)، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليمنع الناس من الانتفاع به (2).
السبب الثامن والأربعون: التنويع في الاستفتاح، والقراءة، والأذكار في الصلاة:
المصلِّي إذا حافظ على السنة في قراءة الاستفتاحات في الصلاة بأنواعها: فيقرأ هذا النوع تارة، والنوع الآخر تارة أخرى، والثالث تارة ثالثة، وقد سبق أن ذكرت منها في فهم وتدبر معاني الاستفتاح ثمانية أنواع، فإذا حافظ المسلم على هذه الأنواع منوِّعاً لها في صلواته حصل على الخشوع، وعلى ثواب العمل بالسنة، وعلى
(1) وهذه: هي المرتبة السابعة.
(2)
انظر تفسير القرآن العظيم 14/ 529 - 532، وبدائع الفوائد لابن القيم، 2/ 2247 - 262 وتفسير المعوذتين تفسيراً مفصلاً في هذا المرجع 2/ 198 - 276.
حفظ هذه الاستفتاحات (1).
وكذلك ينوِّع في قراءته للقرآن في الصلاة، فيلتزم السنة فيما يقرأ في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء كما جاءت به السنة، وكذلك قراءة سورة السجدة والإنسان في فجر الجمعة، وقراءة سورة سبح اسم ربك الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة تارة، والجمعة والمنافقون تارة أخرى، والجمعة والغاشية تارة ثالثة، كما ثبتت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
وكذلك تنويع أذكار الرفع من الركوع بعد قوله: ((سمع الله لمن حمده))، فتارة يقول:((ربنا لك الحمد))، وتارة يقول:((ربنا ولك الحمد))، وتارة يقول:((اللهم ربنا لك الحمد))، وتارة يقول:((اللهم ربنا ولك الحمد)) (3).
وكذلك تنويع الأذكار أدبار الصلوات كما جاءت بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكرت في فهم وتدبر الأذكار بعد السلام من الصلاة أنواع التسبيح، وأنها قد جاءت على ستة أنواع، فيقول المسلم كلَّ نوعٍ في دبر صلاةٍ من صلواته (4).
وكذلك ينوِّع في قراءة التشهد، فإنه جاء في السنة على أنواع (5).
(1) انظر: تخريج هذه الاستفتاحات في المبحث الحادي والعشرين: السبب الحادي والخمسين.
(2)
انظر: تخريج هذه القراءة في السبب الحادي والخمسين.
(3)
انظر: تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين.
(4)
انظر تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين.
(5)
انظر تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين.