الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلّما كان العبد أعظم توحيداً، كان حظُّه من هذا المشهد أتمَّ.
وفيه من الفوائد: أنه يحول بين القلب وبين العُجْب بالعمل، ورؤيته؛ فإنه إذا شهد أن الله سبحانه هو المانُّ به، الموفق له، الهادي إليه، شغله شهودُ ذلك عن رؤيته، والإعجاب به، وأن يصول به على الناس، فيُرفع من قلبه، فلا يعجب به، ومن لسانه، فلا يمنّ به، ولا يتكثّر به، وهذا شأن العمل المرفوع.
ومن فوائده: أنه يضيف الحمد إلى وليّه، ومستحقّه، فلا يشهد لنفسه حمداً، بل يشهده كلّه لله، كما يشهد النعمة كلّها منه، والفضل كله له، والخير كله في يديه، وهذا من تمام التوحيد، فلا يستقرّ قدمه في مقام التوحيد إلا بعلم ذلك وشهوده؛ فإذا علمه، ورسخ فيه، صار له مشهداً، وإذا صار لقلبه مشهداً، أثمر له من المحبة والأنس بالله، والشوق إلى لقائه، والتنعّم بذكره، وطاعته، ما لا نسبة بينه وبين أعلى نعيم الدنيا البتّة.
وما للمرء خير في حياته، إذا كان قلبه عن هذا مصدوداً، وطريق الوصول إليه عنه مسدوداً، بل هو كما قال تعالى:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (1).
المشهد السادس: مشهد التقصير:
وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد، وبذل وسعه، فهو مقصِّر، وحق الله سبحانه عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية
(1) سورة الحجر، الآية:3.
والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها، وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم، والتعظيم، والاحترام، والتوقير، والحياء، والمهابة، والخشية، والنصح، بحيث يُفَرِّغون قلوبهم وجوارحهم لهم، فمالك الملوك، ورب السموات والأرض، أولى أن يعامل بذلك، بل بأضعاف ذلك.
وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه، ولا قريباً من حقه، علم تقصيره، ولم يسعْه مع ذلك غير الاستغفار، والاعتذار من تقصيره وتفريطه، وعدم القيام بما ينبغي له من حقه، وأنه إلى أن يغفر له العبودية، ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثواباً، وهو لو وفَّاها حقها كما ينبغي، لكانت مستحقّة عليه بمقتضى العبودية؛ فإن عمل العبد، وخدمته لسيده، مستحقّ عليه بحكم كونه عبده ومملوكه، فلو طلب منه الأجرة على عمله، وخدمته لعدَّه الناس أحمق وأخرق، هذا وليس
…
هو عبده، ولا مملوكه على الحقيقة، وهو عبد الله ومملوكه على الحقيقة من كلِّ وجه لله سبحانه، فعمله وخدمته مستحقّ عليه بحكم كونه عبده، فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضل ومنَّة وإحسان إليه، لا يستحقّه العبد عليه.
ومن ههنا يُفْهَم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُم الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ))، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ
اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)) (1).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((يُخْرَجُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ فِيهِ حَسَنَاتُهُ، وَدِيوَانٌ فِيهِ سَيِّئَاتُهُ، وَدِيوَان النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا؛ فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى لنِعَمِه: خُذِي حَقَّكِ مِنْ حَسَنَاتِ عَبْدِي، فَيَقُوْمُ أَصْغَرُهَا فَتَسْتَنْفِدَ حَسَنَاتِهِ، ثُمَّ تَقُولُ: وَعِزَّتِك مَا اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي بَعْدُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَ عَبْدَهُ وَهَبَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ سَيِّئَاتِهِ، وَضَاعَفَ لَهُ حَسَنَاتِهِ)) (2)،
[قال الإمام ابن القيم رحمه لله]: وهذا ثابت عن أنس، وهو أدلُّ شيء على كمال علم الصحابة بربهم، وحقوقه عليهم، كما أنهم أعلم الأمة بنبيِّهم وسنَّته ودينه؛ فإنَّ في هذا الأثر من العلم والمعرفة ما لا يدركه إلا أولو البصائر، العارفون بالله، وأسمائه، وصفاته، وحقه، ومن هنا يُفْهَم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود، والإمام أحمد، من حديث زيد بن ثابت، وحذيفة وغيرهما: ((إِنَّ اللَّهَ لَوْ عذَّبَ أهْلَ سَمَوَاتِهِ، وأهْلَ أرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خيْراً لَهُمْ
(1) مسند أحمد، 12/ 449، برقم 7479، والبخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6463، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله،
…
، برقم 2816 بألفاظ متقاربة.
(2)
أخرجه البزار، 4/ 160، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 674:((رواه البزار وفيه صالح المري وهو ضعيف))، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، 14/ 434، وفي ضعيف الترغيب والترهيب، برقم 2069، قال:((موضوع))، ورواية ابن أبي شيبة، 13/ 294، بلفظ مقارب عن ابن مسعود رضي الله عنه، مع ملاحظة أن الإمام ابن القيم في المتن أشار إلى ثبوته ..
مِنْ أَعْمَالِهِمْ)) (1).
وملاك هذا الشأن أربعة أمور:
نيَّةٌ صحيحةٌ، وقوةٌ عاليةٌ، يقارنهما رغبةٌ، ورهبةٌ:
فهذه الأربعة هي قواعد هذا الشأن، ومهما دخل على العبد من النقص في إيمانه وأحواله، وظاهره، وباطنه، فهو من نقصان هذه الأربعة، أو نقصان بعضها، فليتأمّل اللبيب هذه الأربعة الأشياء، وليجعلها سيره وسلوكه، ويبني عليها علومه وأعماله وأقواله وأحواله، فما نتج من نتج إلا منها، ولا تخلف من تخلف، إلا من فقدها)) (2).
(1) مسند أحمد، 35/ 465، برقم 21589، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم 4701، وسنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب في القدر، برقم 77، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 77.
(2)
رسالة ابن القيم لأحد إخوانه، ص 33 - 46.