الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الحادي والأربعون بعد المائة علم حقائق القرآن
النوع الحادي والأربعون بعد المائة علم حقائق القرآن وهو نوع عظيم جليل من أشرف العلوم، ولم يذكره الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى- في «الإتقان» .
اعلم أن القرآن العزيز بحر متموج زخار بالمعاني العظيمة الجليلة، وقد تقدم في أول الكتاب أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وحدًا ومطلعًا.
وقد نكلم السادة الصوفية -رضي الله تعالى عنهم- على المعاني الباطنة، وغالب ما تكلموا فيه من إرجاع المعاني في الآيات إلى التوحيد الصرف والتعظيمات الإلهية والنعوت الربانية.
وقد صنف القشيري -رحمه الله تعالى- تفسيرًا في ذلك، وغيره من المتقدمين، وكذلك الشيخ نجم الدين البكري. وللشيخ محيي الدين بن عربي -رضي الله تعالى عنه- تفسير كبير، ذكر في بعض تأليفه أنه وصل فيه
إلى قول الله تعالى: {وعلمناه من لدنا علمًا} [الكهف: 65]، وكان في ستين سفرًا.
وله تفسير صغير جمع فيه بين المعاني الظاهرة والباطنة وهو تام، وللقاشاني تفسير لطيف، أوردنا منه في تفسير الفاتحة في هذا الكتاب ليكون أنموذجًا لطالب المعاني الباطنة في الحقائق الخفية.
قال -رحمه الله تعالى-: {بسم الله الرحمن الرحيم} اسم الشيء ما يعرف به، وأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدل بخصائصها، وهويتها على صفات الله وذاته، وبوجودها على وجهه، وبتعيينها على وحدته، إذ هي ظاهرة التي بها يعرف.
و{الله} اسم للذات الإلهية من حيث هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها.
و{الرحمن} هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة، وتحتمل القوابل على وجه الداية.
و{الرحيم} هو المفيض للكمال المعنوي المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، ولهذا قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة للرحمة العامة والخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظم مع جميع الصفات أبدًا، وهي الاسم الأعظم،
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أوتيت جوامع الكلم» ، «وبعثت لأتم مكارم الأخلاق» ، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها خصوصًا المجردة منها، كما سمي عيسى عليه السلام كلمة الله.
ومكارم الأخلاق كمالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني، وها هنا لطيفة؛ وهي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات، وقد وجدت في كلام عيسى عليه السلام، وأمير
المؤمنين علي -كرم الله وجهه-، وبعض الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ما يشير إلى ذلك.
ولهذا قيل: أظهرت الموجودات من باء {بسم الله} ؛ إذ هي الحرف الذي يلي الألف، والموضوعة بإزاء ذات الله، وهي إشارة إلى العقل الأول الذي أول ما خلق الله تعالى المخاطب بقوله تعالى: «ما خلقت خلقًا أحب إلي ولا أكرم علي منك، بك أعط، وبك آخذ، وبك أثب، وبك أعاقب
…
» الحديث.
والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر، وإذا انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين، فالثمانية عشرة إشارة إلى العوالم المصير عنها بثمانية عشر ألف عالم، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب العداد، فهو أم المراتب الذي لا عدد فوقه؛ أي بحسب المرتبة فعبر بها عن أمهات العوالم التي هي عالم الجبروت، وعالم الملكوت، والعرش، والكرسي، والسماوات السبع، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة، التي ينفصل كل منها إلى الجزئيات.
والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن كان داخلًا في عالم
الحيوان، إلا أنه باعتبار شرفه رجاء معينه للكل وحصره للوجود، عالم آخر له شأن، وجنس برأسه له برهان.
جبريل من بين الملائكة في قوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل} [البقرة: 98]، والألقاب الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهي الحقي باعتبار الذات والصفات والأفعال، فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، وعالم واحد عند التحقيق. والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظم الإنساني والاحتجاب العالم الإلهي حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألف {الرحمن} أين ذهبت؟ قال: سرقها الشيطان، وأمر بتطويل باء {بسم الله} تعويضًا عن ألفها، إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة وظهورها في الصورة الإنسانية حيث لا يعرفه إلا أهله، ولهذا ذكرت في الوضع.
وقد ورد في الحديث: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» . فالذات
محجوبة بالصفات، والصفات بالأفعال بالألوان والآثار، فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأفعال، رضي وسلم. ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات، حتى في الوحدة فصار موحدًا مطلقًا فاعلًا ما فعل، وقارئًا ما قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} . فتوحيد الأفعال مقدم مع توحيد الصفات وهو على توحيد الذات، وإلى الثلاثة أشار -صلوات الله وسلامه عليه- في سجوده:«أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك» .
{الحمد لله رب العالمين
…
} إلى آخر السورة.
الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور الكمالات، وحصول الغايات من الأشياء آتية فاتحة ومدح لمولاها بما يستحقه فالموجودات كلها بخصوصياتها، وخواصها وتوجهها إلى غايتها، وإخراج كمالاتها من حيز القوة إلى الفعل مسبحة جامدة كما قال تعالى:{وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده} ، فتسبيحها إياه تنزيه من الشرك، وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده، ودلالتها على وحدانيته وقدرته، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، ومظهرتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية. وهي بذاته بحسب مبدئيته للكل وحافظيته ومدبريته له التي هي الربوبية للعالمين؛ أي لكل ما هو علم الله تعالى وعلم به. فالخاتم لما يختم به، والغالب لما يغلب فيه، وجمع السلامة لاشتماله على العلم أو للتغليب، وبإزاء إفاضة الخير العام والخاص؛ أي النعمة الزاهرة كالصحة والرزق، والباطنة كالمعرفة والعلم باعتبار منتهائيته التي هي مالكية الأشياء في يوم الدين، إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء، بإنابة النعمة الباقية عن الغاية عند التجرد عنها بالزهد، وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، وتعويض صفاته عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته، وهبته له الوجود عند فنائه، فله تعالى مطلق الحمد، وماهيته أزلًا وأبدًا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاضيل فهو الحامد
والمحمود، والعابد والمعبود، مبدأ ومنتهى، ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه وبعظمته وبهائه وكمال قدرته وجلاله، فخاطبوه قولًا وفعلًا بتخصيص العبادة به وطلب المعونة منه إذ ما رأوا معبودًا غيره، ولا حو لولا قوة لأحد إلا به، فلو حصروا لكانت حركاتهم وسكناتهم كلها عبادة له، وبه، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]؛ أي ثبتنا على الهداية ومكنا بالاستقامة في طريق الوحدة التي هي طريق المنعم بالنعمة الكامنة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة والهداية الحقائقية مع النبيين، والشهداء، والصديقين، والأولياء الذين شاهدوه أولًا، وآخرًا، وظاهرًا، وباطنًا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني.
{غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7] الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية والنعيم الجسمي والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية والنعيم القلبي والذوق العقلي كاليهود؛ إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر، والجنان، والحور، والقصور، فغضب عليهم؛ لأن الغضب يستلزم الطرد أو
البعد والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية غاية البعد. وغفلوا عن ظاهرة الحق، وضلوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكل.
فالنصارى إذ كان دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدس. ودعوة المحمديين الموحدين إلى الكل، والجمع بين محبة جمال الذات وحسن الصفات كما ورد. {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة} [آل عمران: 133]، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورًا تمشون به} [الحديد: 28]، {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا} [النساء: 36]، فأجابوا الدعوات الثابتة كما جاء في حقهم:{أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورًا} [الإسراء: 57]، {يقولون ربنا أتمم لنا
نورنا} [التحريم: 8]، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 30]، فأثيبوا بالجميع على ما أخبر الله تعالى:{جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} [البينة: 8]، {لهم أجرهم ونورهم} [الحديد: 19]، {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]، {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. انتهى كلام القاشاني.
ولنا رسالة لطيفة في معنى قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] نوردها في هذا المقام سميتها: «السر الأسرى في معنى «سبحان الذي أسرى» ». تفسير قول الله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)} [الإسراء: 1].
أتى افتتاح هذه السورة الشريفة وهي قوله تعالى: {سبحان} إشارة إلى نفي انحصار الحق سبحانه وتعالى في جهة أو اختصاصه بموضع دون موضع؛ لأنه لما كان الإسراء عبارة عن الصعود والرقي يل العالم العلوي، ربما توهم متوهم انحصار المطلوب في جهة، وليس الشأن كذلك، بل هو القريب في كل آن، وزمان، ومكان. قال الله عز وجل:{إنه بكل شيءٍ محيط} [فصلت: 54]. وإنما كان
الإسراء التعريف بالآيات واتساع معرفته صلى الله عليه وسلم في مشاهدة الملكوت، ومعنى {سبحان} ؛ أي إنزاه، والتسبيح هو: التنزيه والتقديس من سائر النقائص.
واعلم -أيدنا الله وإياك- أن التنزيه للحق -جل شأنه- عن النقائص موهوم نشأ من العوالم والقوابل الجسمانية، لكون الإنسان مشتملًا على عالم الظلمة، والنور، والخير، والشر، والقبض، والبسط، فلتعارض هذه الصفات يحدث في النفوس معن توصف الذات المقدسة بها ليست لائقة بالكمال الرباني ولا حقيقة بالمعنى الصمدي، أتى فعجب حينئذٍ تنزيه الذات المقدسة من تلك المعاني الغير لائقة على حد العقل والشرع، وإلا فالذات الكاملة ليس فيها نقص، فثبت أن التنزيه موهوم لا محقق بما تحقق. والتنزيه في هذا المقام لدفع الإيهام كما تقدم.
و {الذي} اسم موصول واقع على الذات المقدسة.
{أسرى} مأخوذ من الإسراء، وهو الذهاب ليلًا.
{بعبده} العبد في أصل اللغة ضد الحر، وهو عند أهل العرفان، وفي مقامات الإيقان: أكمل النعوت، وأجل الصفات، والعبد الموصوف بالعبودية قد تجاوز سائر المقامات، وترقى إلى أجل الكمالات؛ فإن العبد عندهم الحقيقي: هو الذي ليس له مطلوب سوى مطلوب سيده، ولا مقصد غير مقصده، يحب ما يحبه مولاه، ويكره ما يكرهه، وإن خالف مراده وهواه.
العبودية نعت الكاملين، العبودية نعت الواصلين، العبودية شرف المحبين.
قال الشاعر:
لا تدعني إلا بيا عبدها
…
فإنه أشرف أسمائي
العبد الكامل يسمى محب الذات؛ لأن غرضه محبة للذات فقط من غير شائبة لسائر المتعلقات.
العبد راضٍ في سائر أحواله بما يقيمه فيه سيده غير متعرض عليه، ولا منتقد، ملازم للعبودية في كل حال، غير تارك لها في حال من الأحوال كوصف لبعض المبتدئين عن حال بعض شيوخه من العارفين، فرآه في ديوان الأشقياء، ففزع واضطرب من ذلك، فجاء إليه وأخبره، فقال له: يا أخي لي
أربعون عامًا أرى ما ترى ولم يتغير مني شعرة، وهل أنا إلا عبد الله من عباد الله عز وجل يفعل بي ما أراد راضٍ بما أقامني فيه.
وفي كلام بعض العارفين: لو أقمت الجنة والنار، وقيل لي: اختر في أيهما تكون؟ لم أختر إلا ما يختاره لي. فالله عز وجل شرف نبيه صلى الله عليه وسلم بإضافته إليه بالعبودية، وأعزه بهذه الصفة الجليلة والسمة الجميلة.
قوله تعالى: {ليلًا} الليل ضد النهار. {من المسجد الحرام} وهو البيت العتيق الذي هو أول بيت وضع للناس، سمي حرامًا؛ لأن الله عز وجل حرمه بالتعظيم والتجليل، والنهي عن قطع أشجاره، وصيد حيواناته.
{إلى المسجد الأقصى} وهو بيت المقدس.
{الذي باركنا حوله} وهي قرى بيت المقدس، والشام. ومباركة الله عز وجل في ذلك بكثرة من بعثه فيها من أنبيائه عليهم السلام ومن أوجد من أصفيائه وأوليائه، وما أخصب فيها من العيش، وما أكثر فيها من النعم.