الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني والأربعون بعد المائة علم معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه
النوع الثاني والأربعون بعد المائة علم معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه قال الراغب: الفسر: إظهار المعنى المعقول. ومنه قيل: لما ينبئ عنه البول تفسرة، وسمي بها قارورة الماء. والتفسير في المبالغة كالفسر.
وقيل: التفسير تفعيل من الفسر وهو البيان والكشف، ويقال: هذا مقلوب السفر. تقول: أسفر الصبح إذا أضاء.
وقيل: هو مأخوذ من التفسرة، وهي اسم لما يعرف به الطبيب المرض.
والتأويل: أصله من الأول، وهو الرجوع، فكأنه صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني.
وقيلك من الإيالة وهي السياسة، كأن المؤول للكلام ساس الكلام، ووضع المعنى فيه موضعه.
واختلف في التفسير والتأويل، فقال أبو عبيد ........
وجماعة: هما بمعنى واحد، وقد أنكر ذلك قوم، حتى بالغ ابن حبيب النيسابوري، فقال: قد نبغ في زماننا مفسرون، لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه.
وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، [وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية، والتفسير] يستعمل فيها وفي غيرها.
وقال غيره: التفسير بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والتأويل: توجيه لفظ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة.
وقال الماتريدي: التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عني باللفظ هذا؛ فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله.
وقال أبو طالب التغلبي: التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازًا،
كتفسير «الصراط» بالطريق، و «الصيب» بالمطر. والتأويل تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول وهو الرجوع لعاقبة الأمر. فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد؛ لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل. مثاله قوله تعالى:{إن ربك لبالمرصاد (14)} [الفجر: 14] تفسيره أنه من الرصد. يقال: رصدته رقبته، والمرصاد مفعال منه، وتأويله التحذير من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه، وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة.
وقال الأصبهاني في «تفسيره» : اعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره، بحسيب المعنى الظاهر وغيره. والتأويل أكثره في الجمل.
والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو: البحيرة، والسائبة، والوصيلة. أو في وجيز يتبين بشرح نحو:{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43، 83، 110، والنساء: 77، والحج: 78، والنور: 56، والمجادلة: 13، والمزمل: 20]، وإما في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها، كقوله تعالى:{إنما النسئ زيادة في الكفر} [التوبة: 27]، وقوله تعالى:{وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} [البقرة: 189].
وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عامًا ومرة خاصًا، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود البارئ عز وجل خاصة، والإيمان
المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق الحق أخرى، وإما لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو لفظ «وجد» المستعمل في: الجدة، والوجد، والوجود.
وقال غيره: التفسير يتعلق بالرواية، والتأويل يتعلق بالدراية.
وقال أبو نصر القشيري: التفسير مقصور على الاتباع والسماع، والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل.
وقال قوم: ما وقع مبينًا في كتاب الله ومعينًا في صحيح السنة سمي تفسيرًا؛ لأن معناه قد ظهر ووضح، وليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد ولا غيره، بل يحمله على المعنى الذي ورد ولا يتعداه. والتأويل: ما استنبطه العلماء العاملون لمعاني الخطاب الماهرون في آلات العلوم.
وقال قوم منهم البغوي والكواشي: التأويل صرف الآية من معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الإسناد.
وقال بعضهم: التفسير في الاصطلاح علم نزول الآيات وشؤونها،
وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها.
وقال أبو حيان: التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك.
فقال: فقولنا: علم هو جنس، [يشمل سائر العلوم]. وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءة.
وقولنا: ومدلولاتها؛ أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم. وقولنا: وأحكامها الإفرادية والتركيبية: هذا يشمل علم التصريف والإعراب والبيان والبديع.
وقولنا: ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب: يشمل ما دلالته بالحقيقة وما دلالته بالمجاز.
فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئًا، ويصد عن الحمل عليه صاد فيحمل على غيره وهو المجاز.
وقولنا: تتمات لذلك هو يشمل معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضيح بعض ما أبهم في القرآن، ونحو ذلك.
وقال الزركشي: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وامتداد ذلك، من علم اللغة، والنحو، والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة النزول، والناسخ والمنسوخ.
أقول: والصحيح المعتبر: أن معنى التفسير كما قال الماتريدي في المعنى السابق، وكذلك القشيري وما نقل عن بعضهم أيضًا.
فالتفسير هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتضح معنى الآية فيه وبان، فيجزم بذلك مثل قول الله تعالى:{صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فقد فسر المنعم عليهم في الآية الأخرى بقوله تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين} [النساء: 69]، فصار معنى الذين أنعمت عليهم هم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، فهو تفسير للآية.
وكذلك قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7]؛ فإنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اليهود، {الضالين} هم النصارى.
فالتفسير هو وضوح معنى الآية وظهورها وعدم احتمالها لشيء آخر.
وأما التأويل: فهو بيان للآية بأوجه أو بوجه غير مناف للقواعد والأصول من غير أن يجزم بذلك المعنى ولا يقطع به، مثل قوله تعالى:{ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)} [الضحى: 5] فقد قيل: إن الرضى عبارة عن
الشفاعة.
والثاني: الجزم المعنى وأنه هو المراد.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن برأيه، أو بما لم يعلم فليتبوأ مقعده من النار» رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
وقيل: عبارة عن الوسيلة. وقيل: أن لا يرضى ان أحدًا من أمته يعذب، فهذه معان من التأويل لا يجزم بواحد منها.
والممنوع من التفسير قسمان: المخالف للقواعد والأصول.
فإذا قال القائل: هذا المعنى الذي أراده الله فقد أساء، أو فسر بما لا يوافق الأصول والقواعد. فكذلك أيضًا حرام ممنوع.
وقال أبو حيان: ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته ولا يتمطى منه صهوته، إلا من كان متبحرًا في علم اللسان، مترقيًّا منه إلى رتبة الإحسان، ق جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب، وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلباب، واستفرغ في ذلك زمانه النفيس، وهجر الأهل والولد والأنيس، ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع، وفي حياضه أصفى مكرع، ويتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام، ويترشق كأس رحيق له مسك ختام، ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام، ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام، يدرك إعجاز القرآن بالوجدان
لا بالتقليد، وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد. وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم، فإنه بمعزل عن فهم غواميض الكتاب، وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار، وتكرار محفوظ على مر أعصار، ولتباين أهل الإسلام في إدراك فصاحة الكلام، وما به تكون الزجاجة في النظام، اختلفوا فيما به إعجاز القرآن، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها، وتقول في معارف الآداب وقوانينها، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر، ولا داخلة تحت القدر، ومن لم يدرك هذا المدرك، ولا سلك هذا المسلك، رأى [أنه] من نمط كلام العرب، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب. فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ومناظرته، وإن كانوا قادرين على مماثلته. والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف هو من نقصان الفطرة الإنسانية، في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطأ جارية فعاتبته، فأخبر أنه ما وطأها،
فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ شيئًا من القرآن، فأنشدها بيت شعر، قاله ذكر الله فيه ورسوله وكتابه فصدقته، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق.
وحكى لنا أستاذنا العلامة أبو جعفر -رحمه الله تعالى- عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة، ومعرفة كثير من العلوم الإسلامية، أنه كان يقول: يا أبا جعفر لا أدرك فرقًا بين القرآن وبين غيره من الكلام، فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة.
وكان بعض شيوخنا ممن له تحقق بالمعقول، وتصرف في كثير من المنقول، إذا أراد أن يكتب فقرأ فصيحة، أتى لبعض تلامذته وكلفه أن ينشئها له.
وكان بعض شيوخنا ممن له التبحر في علم لغة العرب إذا أسقط من بيت الشعر كلمة أو ربع البيت، وكان المعنى يتم بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك، وأين هذا في الإدراك من آخر، إذا حركت له مسكنًا أو سمنت له محركًا أدرك ذلك بالطبع، وقال: إن هذا البيت مكسور ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء، إذا كان فيه زحاف ما، وإن كان جائزًا كثيرًا في كلام العرب، لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه، ويقلق لسماعه. هذا، وإن
كان لا يفهم معنى البيت لكونه حوشي اللغات أو منطويًّا على حوشي فهذه كلها من مواهب الله تعالى، لا تؤخذ باكتساب لكن الاكتساب يقويها، وليس العرب متساوين في الفصاحة، ولا في إدراك المعاني، ولا في نظم الشعر بل فيهم من يكسر الوزن، ومن لا ينظم ولا بيتًا واحدًا، ومن هو [مقل] من النظم، وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة، وينقح الشاعر منهم القصيدة حولًا، حتى تسمى [قصائده] الحوليات، فهم مختلفون في ذلك.
ولذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت، فوقف وأسلم، وآخر أدرك إعجازه فكفر ولج في عناده بغيًّا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فنسبه تارة إلى الشعر، وتارة إلى الكهانة والسحر، وآخر لم يدرك إعجازه كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها.
وكحال أكثر الناس، فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة، فمن أدرك إعجازه فوقف وأسلم بأول سماع. سمعه أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل فصلت، فأسلم للوقت، وخبره في إسلامه مشهور.
ومن أدرك إعجازه وكفر عنادًا عتبة، وكان من عقلاء الكفار، حتى كان يتوهم أمية بن أبي الصلت أنه هو يعني عتبة يكون النبي المبعوث في قريش، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده عتبة وأضرابه مع علمهم بصدقه وأن ما جاء به معجز، وكذلك الوليد بن المغيرة.
وروي أنه قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا، ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى. ومع هذا الاعتراف، غلب عليه الحسد والأشر، حتى قال ما حكى الله تعالى عنه:{إن هذا إلا سحرٌ يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25)} [المدثر: 24، 25].
وممن لم يدرك إعجازه أو أدرك وعاند وعارض مسيلمة الكذاب، أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة، بحيث صارت هزأة للسامع.
وكذلك أبو الطيب المتنبي، وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الخطيب الباقلاني في كتاب الانتصار في إعجاز القرآن شيئًا من كلام أبي الطيب مما هو كفر.
وقد ذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري، أن أبا الطيب ادعى النبوة وتبعه ناس من عبس وكلب، وأنه اختلق شيئًا ادعى أنه أوحي إليه سورًا سماها العبر، وإن شعره لا يناسبها لجوده وأكثره ورداءتها كلها -أو كلامًا هذا معناه.
وإنما أثبتنا بهذه الجملة من الكلام ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء الله تعالى، وأعطى كل واحد ما شاء، ولنبين بأن علم التفسير ليس متوقفًا على علم النحو فقط كما يظنه بعض الناس، بل أكثر أئمة العربية، هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة.
ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير، وقل أن ترى نحويًّا بارعًا من النظم والنثر، كما قل أن ترى بارعًا في الفصاحة يتوغل في علم النحو.
وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو، وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب، فضلًا عن أن يعرف مدلولها، أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان، فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير. انتهى.
وأما وجه الحاجة إليه، فقال بعضهم: اعلم أن من العلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه، وأنزل على كتابه على لغتهم، وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة، وهي أن كل من وضع من البشر كتابًا؛ فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة: أحدها: كمال فضيلة المصنف، فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربما عسر فهم مراده، فقصد [حينئذٍ] بالشرح ظهر تلك المعاني الخفية، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.
والثاني: إغفاله بعض تتمات المسألة أو شروط لها، اعتمادًا على وضوحها، أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه.
والثالث: احتمال اللفظ لمعان كما في المجاز والاشتراك ودلالة
الالتزام، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه للتنبيه على ذلك.
إذا تقرر هذا، فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق باطنه، فإنما كان يظهر لهم بعهد البحث والنظر، [مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر]، [كسؤالهم لما نزل قوله تعالى]:{الذين لآمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)} [الأنعام: 82].
فقالو: وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم، لقد هلكنا يا رسول الله أو كما قالوا، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس كما فهمتم، بل المقصود من هذه الآية الشرك؛ لقول الله تعالى في الآية الأخرى:{إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ} [لقمان: 13].
وكسؤال عائشة عن الحساب العسير، فقال:«ذلك العرض» .
وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، وغير ذلك؛ مما
سألوا عن آحا منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من احكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير علم، فنحن أشد الناس احتياجًا إلى التفسير، ومعلوم أن التفسير بعضه يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة، وكشف معانيها، وبعضه من ترجيح بعض الاحتمالات على بعض. انتهى.
وقال الخويي: علم التفسير عسير يسير، أما عسره فظاهر من وجوه: أظهرها: أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان الوصول إليه، بخلاف الأمثال والشعار ونحوها، فإن الإنسان يمكن علمه منه، إذا تكلم بأن يسمع منه أوز من سمع منه. وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل. فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، والحكمة فيه، أن الله -جل شأنه- أراد أن يتفكر عباده في كتابه، فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته.
وأما شرفه: فلا يخفى، قال تعالى:{يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة: 269].
أخرج لابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه.
وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- مرفوعًا: {يؤتي الحكمة} قال: «القرآن» ، قال ابن عباس: يعني: تفسيره، فإنه قد قرأ البر والفاجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- {يؤتي الحكمة} قال:«قراءة القرآن والفكرة فيه» .
وأخرج ابن جرير مثله عن مجاهد وقتادة.
وقال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)} [العنكبوت: 43].
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني، لأني سمعت الله يقول:{وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)} .
وأخرج أبو عبيد عن الحسن قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما نزلت وما أراد بها.
وأخرج أبو ذر الهروي في فضائل القرآن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذ شعرًا هذًّا».
وأخرج البيهقي وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-[مرفوعًا] قال: لأن أعرب آية في القرآن أحب إلي من أن أحفظ آية ليس عن الرسول.
وأخرج أيضًا عن عبد الله بن بريدة عن رجل منت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أني أعلم إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت.
وأخرج أيضًا من طريق الشعبي قال: قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: من قرأ القرآن فأعرب كان له عند الله أجر شهيد.
قال الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى-: قلت: معنى هذه الآثار عندي إرادة البيان والتفسير؛ لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقتهم لا يحتاجون إلى تعلمه، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته. وقال: يجوز أن يكون المراد الإعراب الصناعي، وفيه عد، وقد يستدل له بما أخرجه السلفي في الطيوريات من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- مرفوعًا:«اعربوا القرآن يدلكم على تأويله» .
أقول الإعراب بمعنى البيان وهو الأفصح والأصح في معنى الآثار السابقة، أو يكون معنى الإعراب أعم من البيان. والإعراب الاصطلاحي فيكون المعنى: النطق بالقرآن على السليقة العربية، وفهمه بالمعنى العربي. انتهى.
وقد أجمع العلماء أن التفسير من فروض الكفايات وأجل العلوم الثلاثة الشرعية.
قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك: ان أشرف الصناعة، إما بشرف موضوعها مثل الصياغة؛ فإنها أشرف من الدباغة؛ لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميتة. وإما بشرف عرضها مثل صناعة الطب؛ فإنها أشرف من صناعة الكناسة؛ لأنم غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح.
وإما بشدة الحاجة إليها كالفقه؛ فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب؛ إذ ما من واقعة في الكون في أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه؛ [لأن به] انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض النا في بعض الأوقات.
إذا عرف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث.
أما من جهة الموضوع؛ فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، [فيه نبأ ما بعدكم، وخبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الر ولا تنقضي عجائبه].
وأما من جهة الغرض منه؛ فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقة التي لا تفنى.
وأما من جهة شدة الحاجة؛ فلأن كل كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله.