الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاثنا عشر الولد سائر قبائل بني إسرائيل، وأسماؤهم: يوسف عليه السلام، بنيامين، يهوذا، أشير، لاوي، دان، نفتالي، أيشاخر، روبائيل، شمعونن، زابلون، جاد.
قصة نبي الله يوسف عليه السلام
ولما ولد يوسف أحبه والده يعقوب عليه السلام وشغف به، وكان يقرب منه ويدنيه إليه، فلما ترعرع رأى رؤيا كأنه غرس عصاه في الأرض فتنبت وأورقت وأثمرت، وغرس إخوتهم عصيهم فلم تنبت ولم تورق، ثم مالت عصاه على عصيهم فابتلعتها جميعا، فأخبر والده بالرؤيا، فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه وبشره بالكرامة والرقي إلى مقامات (آبائه) الكرام، وبلغ إخوته ذلك
فحسدوه وأضمروا له السوء، وبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة رأي في منامه كأن السماء قد انفتحت، فنزلت الشمس في أحسن هيئتها، وكذلك القمر، وأحد عشر كوكبا (من الكواكب) نزلوا وسجدوا جميعهم له، وعظموه (بأحسن تعظيم)، فلما أخبر يوسف بذلك أباه حمد الله تعالى، وأثنى عليه، وأمره أن لا يفشي هذا السر ولا يخبر به إخوته، وذلك قول الله سبحانه وتعالى:{إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4)} [يوسف: 4] إلى آخر الآيات. فبلغت أيضا هذه الرؤيا إخوته، فازداد حسدهم وتأكدت عدواتهم ليوسف عليه السلام، وطلبوا له الغوائل والمهلكات، ورأوا أنهم إذا تخلصوا من نصب الغيرة والحسد أن يستريحوا ويسلم لهم دينهم ودنياهم، فلما جنحوا إلى ما جنحوا إليه وطلبوا منه أن يذهب معهم إلى المرعى فيلعب ويستريح، فمال إلى ذلك واستأذنوا أباه، وقالوا له: ليذهب معنا يرتع وليس عليه خلاف ولا بأس، فقال: إني أخشى عليه أن يأكله الذئب، وذلك قول الله سبحانه وتعالى: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8)
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين (10) قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (14)} [يوسف: 7 - 14].
فتوجهوا بيوسف عليه السلام، فلما توسطوا في الطريق طلب الماء، فلم يسقوه، وطلب الطعام فلم يعطوه وأجمعوا حينئذ على قتله، واستغاث بهم فلم يغيثوه، فاستغاث بأخيه يهودا، ورمى بنفسه عليه، فقالوا: لئن لم تذهب عنه، وإلا قتلناك وإياه، فطلب منهم يهودا أن يلقوه في بئر ولا تقتلوه، فأجابوه إلى ذلك فدلوه بحبل ورموه في بئر، فبكى يوسف عليه السلام، فأنزل الله -جل شأنه- عليه سكينة ونورا ولطفا من عنده، وخاطبه إخوته من أعلى البئر قائلين له: أين رؤياك الكاذبة، فقد مكر الله منك، وقد بغيت علينا وأردت وأنت أصغرنا أن (تكون) أكبرنا وأرأسنا، وحقيق لمن بغى أن يصير إلى ما صرت إليه.
فقال لهم: لم أكذب في رؤياي، ولكن أصبر لما قضى الله سبحانه وتعالى علي. ثم تركوه وذبحوا شاة وأكلوا لحمها وألطخوا بدمها قميصه، ورجعوا بالقميص إلى أبيهم، وأقبلوا يبكون وزعموا أن الذئب أكل يوسف، فبكى يعقوب عليه السلام بكاء شديدا وحزن حزنا عظيما، ولما أفاق من بكائه نظر إلى القميص، وقال ائتوني بالذئب الآكل له، فخرجوا فاصطادوا ذئبا وجاؤوا به إليه، فقال له: سألتك بالذي لا إله إلا هو إله إبراهيم وإسحاق إلا ما نطقت هل أكلت ابني؟ فأنطقه الله سبحانه وتعالى فقال: لا والله يا نبي الله لم آكله، وإن لحوم الأنبياء وأبناءهم محرمة علينا، وإني ذئب غريب أتيت لزيارة أخ لي، ولست من أهل هذه
البلدة، فأمر به يعقوب عليه السلام ففك وذهب، ومرت قافلة فأرسلوا شخصا منهم يأتيهم بماء، فلما ألقى الدلو فعلق يوسف عليه السلام بالدلو، فلما رأى الرجل ثقل الدلو نادى، أعينوني، فأعانوه، فلما طلع رأوا غلاما ذا بهاء وحسن لم ير الناظرون أبهى ولا أجمل منه، وكان الله عز وجل قد أعطاه من حسن الصورة والشكل ما لم يكن في أحد غيره، وكان أخوه بنيامين الذي هو أصغر منه بعده في الحسن والجمال، فذهبوا به في القافلة، وكان كبير القافلة شخصا يقال له: مالك بن دعر الخزاعي.
وجاء أولاد يعقوب، فرأوا يوسف في القافلة فادعوا أنه عبدهم فاشتراه منهم مالك بعشرين درهما، وكتب بذلك كتابا: هذا ما اشتراه (مالك بن درع الخزاعي من أولاد يعقوب، وهم يهودا ولاوي وشمعون غلاما عبرانيا بكذا وكذا. فلما أراد المسير به، قال له: دعني أودع أسيادي، فجاء يودعهم ويبكي ثم انصرف به مالك، فلما كان في أثناء الطريق رأى قبر أمه، وكان
على الطريق فوقع من فوق الجمل، ومضى إليها، وبكى عندها كثيرا، ففقده مالك فرجع إليه فوجده يبكي، فأنهره ولطمه على وجهه، وساقه سوقا عنيفا، فانكسر خاطر يوسف عليه السلام لذلك ودعا قائلا: اللهم إن وقع مني ذنب فألحقني بآبائي، فأصابت القافلة ظلمة وزلزلة ووقف الركب وقالوا: من منا أذنب ذنبا، فليرجع إلى الله عز وجل وليتب إليه، فعلم مالك أنما أصيبوا منه، فرجع إلى يوسف عليه السلام فقال له: أيها الغلام أنا قد لطمتك، فها وجهي فالطمني، فقال له: إني لا أقتص منك بل أعفو عنك، ولكن تعاهد الله عز وجل أن لا تلطم مملوكا، ودعا الله عز وجل فارتفعت الظلمة والزلزلة.
فانظر -رحمك الله- إلى رحمة هذا السيد الجليل وقوله لمالك: عاهد الله أن لا تلطم مملوكا، لا جرم أن الله عز وجل اصطفاه واجتباه ورفع شأنه وأعزه بعد أن سار به ووصل به إلى أرض مصر، وكانت في ذلك الوقت أجدب أرض الله وأحطمها، فلما دخل يوسف عليه السلام أنزل الله -جل شأنه- الأمطار وأرخص الأسعار ورحم البلاد والعباد ببركته عليه السلام.
ولما اشتهر حال ما أعطاه الله -جل شأنه- من البهاء والجمال بأرض مصر اشتراه عزيز مصر بأفضل القيمة وأعظمها بإشارة امرأته زليخا، لما رآه أعجب الإعجاب الكامل واستحسن رؤيته ورباه واتخذه ولدا.
فلما بلغ الحلم أفاض الله -جل شأنه- عليه من المعارف الإلهية والأنوار الربانية، وعلمه (وفهمه) وفتح عليه، وأوحى إليه (وزين) باطنه بالأنوار والأسرار، كما زين ظاهره بالمحاسن والكمال، وكانت زليخا زوجة العزيز، قد تعلقت به وأحبته لما رأت من حسنه وجماله، وكانت تراوده عن نفسه، وتريد منه ما لا يليق له، وكان يمتنع من ذلك، فهيأت محلا وزينة بأفضل الزينة، وتزينت هي كلك بأحسن الزينة وحلت به في ذلك الموضع، فعصمه الله عز وجل عن ذلك، فلما أكثرت عليه هم بالفتك بها ووقعت في الدار ضجة ففر هاربا متوجها، (ففتح الباب) فأدركته فشقت قميصه من خلفه، وورد الملك في ذلك الحال، فزعمت أنه راودها (عن نفسها)، وأنه يريد الفاحشة بها، فغضب الملك لذلك، وأراد الفتك به، فاستشهد يوسف عليه السلام (بطفل رضيع)، فأنطق الله -جل شأنه- الطفل، فقال: انظروا في قميصه إن
كان مشقوقا من وجهه فهي الصادقة، وإن كان القميص مشقوقا من خلفه فهو الصادق وهي الكاذبة، فلما رأى الملك هذه المعجزة انتهرها وأعرض عن يوسف عليه السلام، ولم يتعرض له بأذى. وأما زليخا، فلم تزل (مغرية) مولعة بيوسف عليه السلام ولم تترك محبتها وولوعها به، وبلغ نساء الأكابر من قومها وحاشيتها وولوعها به، فأنكروا ذلك عليها فجمعتهن في بيت عظيم، وأعطت كل واحدة سكينا وأترجة ليقطعوها، ودعت يوسف عليه السلام فأقبل، فلما رأته النسوة اشتغلن بالنظر إليه وصرن يقطعن أيديهن وليس لهن شعور بذلك، وقالوا جميعهم: حاشا لله ما هذا نوع البشر، وما هذا إلا ملك عظيم، وروح فخيم، فأقامت الحجة عليهم في لومهم إياها في محبته أو اشتغالها به تعتذرها، ولما لم يوافقها على مرادها أوغرت صدر العزيز عليه، ولقيت في نفسه منه أشياء، وكان ذلك تيمن من يوسف عليه السلام كما قال عز من قائل:{قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34)} [يوسف: 33 - 34].
ولما دخل السجن ضاق ذرعا، فقال له الملك: أنت اخترت ذلك، هلا سألت الله العافية من كيدهن ومن جميع البلاء، فحبس في السجن، وحبس في تلك المدة معه غلامان من غلمان الملك، أحدهما شراب الملك، وهو الذي
يصنع الشرب للملك، والآخر خباز، فقال له الشراب: إني رأيت البارحة رؤيا أحب (أن أقصها) عليك وتعبرها لي: إني رأيت أن الملك قد أطلقني من السجن، فبينما أنا دور في بيته إذ رأيت شجرة عنب مثمرة وإلى جنبها نخلا، قد اختلطت بها، فأخذت ثلاثة عناقيد من العنب وثلاثة شماريخ من الرطب وعصرتها في كأس، فدعاني الملك، فقال: اسقني، فسقيته من ذلك الشراب، فقال يوسف عليه السلام: نعم الرؤيا رؤياك، وسيخرجك الملك غدا، ويعيدك إلى ما كنت عليه من الكرامة والمنزلة، فإذا عدت إلى ذلك فلا تنس وخاطبه في شأني.
وقال له الغلام الآخر: إني رأيت أن الملك أعطاني طبق خبز فحملته على رأسي ومشيت به إلى محل عال من الأرض، فنزلت طيور سود فنقيت الخبز وأكلت منه؟ فقال له يوسف عليه السلام: سيخرجك الملك ويصلبك على محل عال (فتنزل) طيور، فتأكل من رأسك. فقال له: لم أصدق في الرؤيا ولكن كذبت عليك، فقال له:{قضي الأمر الذي فيه تستفتيان (41)} [يوسف: 41]، فتم الأمر، فكان الحال كما قال يوسف عليه السلام، أخرج الملك الشراب وأعاده إلى حاله، وصلب الخباز، وأقام يوسف في السجن؛ كما قال تعالى:{بضع سنين} ، وأكثر أهل الأخبار على أنها سبعة أعوام، وكانت تلك المدة من الله عز وجل رياضة وجلوة وكرامة له، وتكريما لبشريته وتطهيرا لروحانيته، وقد جرت عادة الله تعالى شأنه، أما يختص أنبياءه وأولياءه بعد الابتلاء
والامتحان، ولما أتى أوان خروجه من السجن رأى الملك في منامه: سبع بقرات عجاف ضعاف، وسبع بقرات سمان، فابتلعت كل واحدة من الضعاف واحدة من السمان، ورأى سبع سنابل عظام حسان (قد انعقد حبها)، ورأى قريبا منهم سبع سنبلات يابسات ففرك واحدة منهن فلم يجد فيها شيئا، فهب من منامه فزعا، وطلب المعبرين للرؤيا، فأخفى الله -جل شأنه- عنهم معرفتها، ولم يهتدوا إلى تعبيرها، ونسبوا رؤياه إلى أنها أضغاث أحلام؛ فأقبل الشراب وقبل الأرض بين يدي الملك، فأخبره أنه قادر على تأويل هذه الرؤيا، وأن بالسجن غلاما حاذقا في تعبير الرؤيا، فأرسل الملك الغلام إلى يوسف عليه السلام فأخبره بما رأى الملك، فقال يوسف: هذه الرؤيا تدل على خصب ورخاء سبع سنين، ثم يكون بعدها سبع سنين قحط وجهد، فأخبر الغلام الملك بقول يوسف عليه السلام، فاعتقد صحة ما قال، وألقى الله في قلبه استحسان من أشار إليه يوسف عليه السلام، فأرسل إليه يطلب ويريد أن يستخلصه لنفسه ويجعل محل نظره ومرجع أمره، فثبت يوسف عليه السلام ولم يجيء إليه لقصد أن تنكشف التهمة، وترتفع إشاعة امرأة العزيز، فطلب منه أن يسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن، هل رأيت من يوسف ريبة؟ فأجابوه قائلين:
حاش لله ما علمنا عليه من سوء، وألقى الله -جل شأنه- في قلب امرأة العزيز الرجوع والإنابة عن ما اتهمت به يوسف عليه السلام، وأذعنت بأنها هي التي راودته عن نفسه، وذلك كله بتقدير الله عز وجل حيث أراد ليوسف عليه السلام زوال الغم وكشف الكربة ودفع المصيبة، فلما تم الوقت السابق في العلم والمدة المختومة في الإرادة، وأمر الملك بتهيئة الجنود والأتباع، وأرسل إليه بأفضل الكرامة وأعظم الأهبة، وزينت مصر بأشرف الزينة يوم خروجه، وأجلسه معه على سرير ملكه وتحت عزه، وأخبره أنه عزيز لديه، مكين عنده، مقبول الكلمة مسموع الإشارة، فطلب يوسف عليه السلام من الملك أن يفوض أمر السياسة وتدبير الأرض والبلاد، فأعطاه ذلك، وأقام يوسف عليه السلام على ذلك مدة، وأمر بأن تزرع الأرض في سنين الخصب جميعها، وجمع هو من الحبوب الزائدة عن الحاجة قدرا كبيرا، فلما مضت سبعة أعوام قل النيل وامتنعت الأمطار، فأكل الناس ما خزنوه جميعه في ثلاثة أعوام، ثم رجعوا يسألون أن يشتروا طعاما فلم يجدوه إلا عند يوسف عليه السلام، فاشتروه منه بالنقد والعقار والدواب والحلي والنساء حتى باعوا منه أولادهم وأنفسهم، ومات
عزيز مصر واستولى ابنه، وكان الملك ليوسف عليه السلام حقيقة ولابن العزيز صورة.
وممن احتاج في هذا الزمن وافتقر زليخا امرأة العزيز، وكانت قد أسنت، وكان يوسف عليه السلام يطوف في مملكته ويتفقد أحوال رعيته، ويسأل عن أسباب المصالح فيفيضها، وأسباب المفاسد فيدرؤها، وكان يطوف بمدينة مصر، فنادته امرأة مظلومة، فأمر بحملها إليه، فلما وصلت إلى داره دعا بإرسالها، فقالت له: أما عرفتني؟ فلم يعرفها، فقالت: أنا زليخا امرأة العزيز، فاسترجع! ! ثم قال: أنت لم تزالي تتبعيني أبدا، فكشفت إليه ما تجده من الشدة والفاقة، وسألته أن يسأل الله تعالى لها أن يعيد عليها شبابها وجمالها، وأن يتزوج بها، فأمر الله -جل شأنه- أن يدعو بذلك لها، فدعا لها، فأعادها الله سبحانه وتعالى على ما كانت عليه، فتزوج بها، (وهيأ لها موضعا) وزينه بأحسن الزينة مقابلا للموضع الذي هيأته له هي للمعصية، وأولدها ولدين عظيمين اسمهما: أفرم وأفريتم.
وفي هذه المدة وقع غلاء عظيم وقحط بالشام وأرض كنعان، فأمر يعقوب عليه السلام بنبيه أن يذهبوا إلى أرض مصر فيمتارون لهم طعاما يقتاتون به، فراجعوه قائلين له: كيف نذهب إلى مصر وهي أرض الفراعنة وموضع الجبابرة؟ فقال لهم: قد بلغني أن ملكها الآن عدل حسن السيرة، فتوجهوا إلى
أرض مصر، فلما وصلوا أبواب المدينة أرسل صاحب الدرب يخبر الملك أنه قدم (علي) أناس من الشام نيرة وجوههم وذواتهم وأشكالهم يزعمون أنهم أولاد يعقوب بن إسحاق، فما يأذن الملك في شأنهم، فأرسل يوسف عليه السلام وهو يأمره أن يأذن لهم قائلا له: ما أتى علي وفد أكرم من هؤلاء، وأمر صاحب المضيف بضيافتهم ثلاثة أيام وإكرامهم غاية الإكرام، ثم اجتمعوا بالملك بعد ذلك، فأكرمهم وتلطف بهم، وسألهم عن حالهم وحال أبيهم فأخبروه أنهم أحد عشر ولدا وأن واحدا منهم عند والده، فسألهم وأكد عليهم أن يعودوا ويستصحبوا أخاهم معهم أيضا ليراه (كما رآهم)، وأكرمه كما أكرمهم، ثم كال لهم الطعام، وأمر الخازن أن يضع ما استلمه منهم من الدراهم في وسط الحبوب، كل واحد دراهمه في حمله، فلما رجعوا إلى أبيهم أخبروه بإكرام العزيز إياهم وطلبه أن يأتوا بأخيهم بنيامين، فاعتذر يعقوب عليه السلام وقال: أخشى عليه أن يقع عليه ما وقع على يوسف ولا أستطيع مفارقته.
ثم لما فتحوا حمولهم وجدوا الدراهم قد أعيدت عليهم، فأخبروا (إياه) بذلك، وألزموا (بأن يرسل معهم أخاهم) لكون العزيز قد بالغ في كرامتهم وأعاد عليهم دراهمهم، وقالوا له: إن في رجوعنا إليه فوائد: منها: أن نشتري لأهلنا وأقاربنا ما يكفيهم من الطعام، ويزيد معنا وقد بعير بمراح بنيامين معنا، فتوثق منهم فأقسموا له بالله أن يعودوا به معهم، فودعهم وأمرهم أن لا يدخلوا من باب مصر جميعا خشية عليهم من العين.
فلما وفدوا على يوسف عليه السلام أكرمهم غاية الإكرام وأضافهم وباسطهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، وجلس هو مع بنيامين، فحسدوه لذلك وغاروا (وتكلموا) بالعبرانية بكلام يفهم منه الغيرة والحسد، فخشي عليه من وقوع الكيدة منهم، فأمر لهم بالكيل، فكيل لهم جميعا، وأمر خادمه أن يضع الصاع في رحل بنيامين، وكان قد أخبره بأنه هو أخوه وكشف له عن حقيقة الحال. فلما توجهوا إلى خارج المدينة، أرسل يوسف عليه السلام جماعة فأدركهم ونادوا فيهم: قد سرقتهم صاع الملك فارجعوا أيها الركب، فرجعوا ففتشت رحالهم جميعا، فوجدوا الصاع في رحل بنيامين، فقال يوسف عليه السلام: هذا سرق صاعي فأنا آخذه وأتخذه عبدا وخادما، فطلبوا منع أن يعيده عليهم ويرحم غربتهم وضعف والدهم، فامتنع من ذلك، فسألوه أن يأخذ أحدهم بدله فلم يرض أيضا، فتعبوا لذلك كثيرا، ورجعوا على بنيامين يوبخونه ويشتمونه
ويقولون: يا لص يا أخا اللص، وكان يوسف عليه السلام إذا جلس في صغره معهم على السفرة يأخذ شيئا من الخبز خفية لأجل أن يتصدق به على المساكين به، فلهذا سموه يا سرقة.
ولما صمم يوسف عليه السلام على عدم إعطائه إياهم، قال يهودا: أما أنا فلا يمكنني العود إلى أبي إلا أن يأذن منه أو فكاك أخي، فرجعوا إلى أبيهم، وأخبروا بما صار عليهم، فحزن لذلك كثيرا، وتجدد له الحزن على يوسف عليه السلام فبكى عليهما كثيرا، وكان قد بكى على يوسف عليه السلام أولا حتى ضعف بصره، وتقرحت أجفانه، وابيضت عيناه من الحزن والتعب على يوسف عليه السلام، ولما
مضت بعد ذلك مدة من الزمن ألقى الله في روعه عود يوسف وأخيه بنيامين، وقرب مدة الاجتماع بهما، فأمر بنيه أن يرجعوا ويتعطفوا بالعزيز ويأخذوا بخاطره، ويطلبوا منه فكاك أخيهم، وأن يتفحصوا ويتحسسوا عن يوسف عليه السلام فأجابوه أن يوسف قد أكله الذئب مدة، فأين نجد يوسف عليه السلام وأنى له أن يعود؟ فقال لهم: لا تيأسوا من روح الله، وحسنوا الظن بالله وكتب معهم كتابا إلى العزيز، يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الكروب الحزين يعقوب (إسرائيل بن إسحاق) صفي الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر، أيها العزيز إنا قوم موكل بنا البلاد وما صفت لنا الدنيا، ولا تزال أبدا ولا نزال مغمورين، أما جدي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنه ابتلاه بنار نمرود، وأما أبي إسحاق فابتلاه الله بالذبح فصبر وفداه الله بذبح
عظيم، وأما أنا فابتلاني الله -جل شأنه- بفقد يوسف فبكيت حتى ذهب بصري ونحل جسمي، وكنت أتسلى بهذا الغلام الذي حبسته عندك، فزعمت أنه سارق، وإن الله تعالى قد طهرنا من جميع الرذائل، فالله من علي به ولا تفقدني إياه، واتق دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله، فإن لم ترسل إلي ابني دعوت عليك دعوة تلحقك وتلحق السابع من ابنك.
فلما وصل الكتاب إلى يوسف وعدهم في غد أن يعيد لهم الجواب. ثم خرج في اليوم الثاني في أحسن الهيئة وأعظم الزينة، ودعا أولاد يعقوب عليه السلام فسألهم هل تعرفون شيئا من اللغات، وقراءة الكتب؟ وكان روبائيل وهو أكبرهم يعرف من اللغات سبعين لغة، فقال له: أنا أعرف سبعين لغة، فأمر فأتي بحق ففتحه، فاستخرج منه كتابا فدفعه إلى روبائيل، فلما نظر روبائيل الكتاب وتأمله تغير لونه وسقط من يده، فنظر فيه يهودا ودار الكلام بينهم، فقالوا: هذا الكتاب الذي كتبناه يوم بيع يوسف. فقال لهم العزيز: ما لكم تتشاورون؟ فأجاب شمعون: بأن الكتاب قد تقادم عهده، وقد امتحى الخط. فقال لهم: كذبتم ليس الشأن كذلك، وإنما هذا كتاب بيعكم أخاكم، وقد استحققتم بفعلكم غاية التأديب والعقوبة، فلما رأوا تشديده وتصميمه عليهم، وكانت لهم همم عظيمة وأحوال فخيمة، قال شمعون: أنا أكفيه هو وجنوده وأهل بلده، وكان إذا صاح صيحة الغضب وقع على وجهه كل من يسمعه، ولا يسكن غضبه إلا إذا وضع أحد من أولاد يعقوب عليه السلام يده عليه أو لمسه، فلما توجه ليفعل ذلك وعلم يوسف عليه السلام منه ما أراده أرسل ابنه أفراثيم، وقال اذهب إلى هذا الشيخ المبارك وأدخل يدك فيه إلى أن تمس
بدنه وقل: بسم الله إله إبراهيم الخليل، فلما أراد أن يصيح وضع أفراثيم يده عليه، فوقع مغشيا عليه، فلما أفاق من (غشيه)، قال لإخوته:(من مسني منكم) ولأي شيء مسستموني؟ ثم أمر يوسف بالأخشاب، فوضعت وأمر بهم أن يصلبوا عليها، فبكوا لذلك وحزنوا، فعطف عليهم ودعاهم وكشف لهم عن حقيقة الحال، وبين لهم الأمر والشأن، ثم أمرهم أن يتوجهوا بقميصه إلى يعقوب عليه السلام، فلما أقبلوا بالقميص شم يعقوب عليه السلام ريح يوسف عليه السلام من عشرة مراحل، فأخبر من عنده بأنه شم ريح يوسف عليه السلام فاستبعد الحاضرون ذلك.
فلما وصلوا بالقميص بشروه بوجود يوسف وسلامة أخيه بنيامين، وشم القميص ووضعه على بصره عاد بصره ونشطت قواه. وطلب يوسف عليه السلام من إخوته أن يتوجهوا جميعا، وأن يتحملوا بأهلهم وأتباعهم، فلما وصلوا إلى أرض مصر تلقاهم يوسف عليه السلام وكان يوما عظيما، ورفع أباه وخالته على سرير عظيم، وحمد الله سبحانه وتعالى قائلا: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ