الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة أهل سبأ
قال المفسرون: وكانت أرض سبأ المعينة بقوله تعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15)} [سبأ: 15] أخصب بلاد الله، ليس بها سباخ ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، ويمر الغريب بواديهم وفي ثيابه القمل فيموت، وتخرج المرأة وعلى رأسها بمكتلها، فتعمل بمعزلها وتسير بين الشجرة فيمتلئ مما يتساقط من الشجر، وهي أكثر من شهرين للراكب المجد طولًا وعرضًا، وأهلها في غاية الكثرة مع أجماع الكلمة والقوة، تخرج المرأة تتردد تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام، كما قال تعالى:
{وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} [سبأ: 18]؛ أي: قرى الشام قرى ظاهرة يرى بعضًا من بعض بمقربها، فبطروا النعمة {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} [سبأ: 19]؛ أي: بمفاوز بينهم وبين الشام يركبون الرواحل، فعجل الله -جل شأنه- لهم الإجابة، كما قال عز من قائل:{فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وزلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزقٍ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19)} [سبأ: 19].
وكانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بلقيس بواديهم فسد بالعرم وهو المستاه بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبوابًا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها، وإذا جاء المطر اجتمع إليه أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني ثم من الباب الثالث، فلا ينفد الماء حتى يرجع الماء من السنة المقبلة، وكان السيل يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يستقر في واديهم فيجتمع الماء من تلك السيول والجبال في ذلك الوادي، وكان السد فرسخين في فرسخ.
وقيل: بناه لقمان الأكبر العادي، وقيل: سبأ بن يستجب ومات قبل إكماله، فأكمله ملوك حمير وأولاد كهلان بن سبأ ملوك اليمن حينئذٍ. وهم: عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء، وكانت زوجة عمرو تسمى طريفة الحميرية كاهنة وولدت له ثلاثة عشر ولدًا، ثعلبة أبو الأوس من الخزرج وحارثة والد خزاعة.
وقيل فيهم غير ذلك، وجفنة والد غسان وحارثة والحارث وعوفًا ولعبًا ومالكًا وعمران هؤلاء أعقبوا والثلاثة الباقون لم يعقبوا، وكان لعمرو مزيقيا من القصور والأموال ما لم يكن لأحد فرأى أخوه عمران، وكان كاهنًا ولم يعقب أن قومه يتمزقون وتخرب بلادهم فذكر له.
ثم إن طريفة الكاهنة سجعت له بما يدل على ذلك، فقال: وما علامته؟ قالا: إذا رأيت جرذًا يكثر في السد الجفر ويقلب بيده الصخرة.
فلما غضب الله -جل شأنه- عليهم، وأذن في هلاكهم دخل عمرو
مزيقيا فنظر جرذًا تنقل أولادها من باطن الوادي إلى أعلى الجبل، فقال: ما نقلت هذه أولادها من ها هنا إلا وقد حضر أخل هذه البلاد عذاب، فخرقت ذلك العرم فنقبت نقبًا، فسال الماء من ذلك النقب إلى جنبه، فأمر بذلك النقب فشد فأصيبوا وقد انفجر بأعظم مما كان، فلم يترك فرجة بين حجرين
إلا وأمر بربط هرة عندها، فما زاد الأمر إلا شدة، وكان الجرذ يقلب صخرة ما يقلبها خمسون رجلًا.
فلما رأى ذلك دعا ابن أخيه، فقال له: إذا جلست العشية في نادين قومي، فأتني فقل لي: علام تحبس علي مالي، فإني سأقول لك: ليس لك عندي مال ولا ترك أبوك شيئا، وإنك كاذب، فإذا كذبتك فكذبني، واردد علي مثل ما قلت لك. فإذا فعلت ذلك فإني أشتمك فاشتمني، فإذا شتمتني فإني ألطمك، فإذا أنا لطمتك فالطمني.
قال: ما كنت لأستقبلك بذلك يا عم، قال: بلى فافعل؛ فإني أريد بذلك صلاحك وصلاح أهل بيتك، فقال الفتى: نعم، حيث عرف رأي عمه، فجاء فقال ما أمره به حتى لطمه، فقال الشيخ: يا معشر بني فلان ألطم فيسلم، لا سكنت في بلد لطمني فيه فلان أبدًا، من يبتاع مني، فلما عرف القوم منه الجد أعطوه، فنظر إلى أفضلهم عطية، فأوجب له البيع ودعا بالمال. ويحمل هو وبنوه من ليلته.
وفي رواية: أن الثمن لما صار في يده قال: [أي قومي إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم دارًا جديدًا وحمى شديدًا وسفرًا بعيدًا فليلحق بعمان، ومن أراد منكم الخمر والحمير والعصير فليلحق ببصرى، ومن أراد منكم الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المغيمات في القحل، فليلحق بيثرب ذات النخل]، فأطاعه قوم فخرج أهل عمان إلى عمان، وخرجت غسان إلى بصرى، وخرجت الأوس والخزرج وبنو كعب إلى يثرب، فلما كانوا