الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اشتغل عن هذا المعنى، فلم يطق أيوب عليه السلام هذه البلية، لكونه سببا إلى إفساد المشاهدة والمعاينة والمكالمة، فحينئذ قال عليه السلام:{ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83)} [الأنبياء: 83] فاستجاب الله -جل شأنه- دعاءه وشفاه، وذلك قوله تعالى:{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)} [الأنبياء: 83 - 84].
قصة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام
-
ولما قرب ظهور موسى عليه الصلاة والسلام أخبر المنجمون والكهان فرعون بأنه سيولد مولود في بني إسرائيل يكون زوال ملكه على يده، فخشي
من ذلك كثيرا، وأمر أن تذبح الأطفال التي تولد في ذلك الزمن، فذبح أطفالا كثيرا. ولما آن أوان ولادة أم موسى صنعت تابوتا من خشب؛ لأن العامل لهذا التابوت رجل اسمه حبيب النجار، وقد كان سأل أم موسى ما تصنع بالتابوت، فأخبرته أنها تريد وضع ابن لها فيه كيلا يقتله فرعون، فتوجه يريد أن يخبر فرعون لذلك، فعقد الله لسانه عن النطق ثلاث مرات، فلما رأى ذلك؛ علم أنها كرامة من الله عز وجل، فتاب إلى الله -جل شأنه-، وأناب وعزم على موالاة هذا العبد الصالح وأتباعه، فهو أول من آمن بموسى عليه السلام.
ثم لما وضعت موسى، وضعته في التابوت وألقته في البحر وذلك بالإلهام الإلهي وقع في نفسها، فألقته الأمواج في البحر إلى موضع كان فيه بنات فرعون ونساؤه يغتسلن، ففتحوا التابوت، فرأوه، فألقى الله -جل شأنه- في قلوبهم محبته، فذهبوا به إلى دار فرعون، وعرضوا عليه المراضع فأبى، فجاءت أخته مستخفية فعرفته وأخبرت أمه، ثم جاءت إليهم أمه فأرضعته على أنها مرضعة، فلم يزل يربى في دار فرعون ولم يشعر به.
فلما علم به أراد قتله فمنعوه من ذلك، وألقى الله سبحانه وتعالى عليه الشفقة، وتربى وأحبته ابنة فرعو، وامرأته آسية، وهي آسية بنت مزاحم، وقد
آمنت بموسى عليه الصلاة والسلام لما رأت (مع وقع له مع السحرة).
ثم لما شب وترعرع أسلمته امرأة فرعون وابنته إلى من يعلمه، فتعلم العلم والحكمة، وكانت مصر دار العلم والحكمة، فأحدق جميع العلوم، وكان بمصر حكيمان أحدهما يسمى ياسين والآخر عرائيس، فأسلمته ابنة فرعون إليهما، وتعلم منهما الحكمة، وبعد أن كبر رأى رجلين يختصمان أحدهما قبطي والآخر إسرائيلي، والقبطي يتجرأ على الإسرائيلي، فالتفت موسى عليه السلام فلم ير أحدا فقتل القبطي، ثم بعد أيام رأى رجلين يختصمان أيضا، فأنكر عليهما فقالا: من ولاك علينا أتريد أن تقتلنا كما قتلت بالأمس رجلا، فخشي أن يبلغ فرعون ذلك، فخرج فارا من مصر متوجها إلى أرض مدين، وهو مدين بن إبراهيم عليه السلام وهم قبائل عظيمة، فتوجه نحو أرضهم فوصل إلى بئر
يردها قبيلة من أولاد مدين بعد أن مشى سبعة أيام ليس له فيها زاد، فجلس قريبا من البئر، فرأى امرأتين ولهما ماشية تنتظران خلو البئر عن الواردين، فتقدم إليهما موسى عليه السلام قائلا لهما: ما لكما لا تسقيان؟ فقالتا: إنا ضعاف ووالدنا شيخ كبير، فسقى لهما ماشيتهما، وكان موسى عليه السلام صاحب قوة وجلادة، ثم رجع إلى فيء شجرة فنام تحتها، وسأل الله تعالى أن يرزقه قوتا، فعادت إليه إحدى المرأتين قائلة: إن والدي يدعوك إلى الضيافة فأجابها، فكان الشيخ هو نبي الله شعيب عليه السلام.
ثم إن شعيبا لما جاء موسى اتخذه ابنا، واستأجره لرعي ماشية، وأن يزوجه ابنته، فلما مضت سبعة أعوام زوجه ابنته، فحصل لموسى العلوم الكسبية من مصر والعلوم الوهبية من صحبته شعيب.
ثم توجه موسى من عند شعيب بزوجته، فلما كان قريبا من طور سيناء خرج يلتمس لأهله نارا، فرأى نورا عظيما قد شعشع الوادي، فلما رآه ظنه نارا فخوطب: اخلع نعليك، كما قال تعالى ذلك في كتابه العزيز بقوله:{يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14)} [طه: 11 - 14].
وخاطبه الله -جل شأنه- قائلا: ما هذه التي بيمينك؟ قال: عصاي، فأمر الله -جل شأنه- أن يلقيها، فألقاها، فانقلبت حية عظيمة، فقال: خذها، فأخذت فانقلبت عصاه في يده، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يذهب إلى فرعون، فيعظه
وينصحه وينهاه عن الطغيان والكفر والعناد واستعباده بني إسرائيل، فقال موسى عليه السلام: إن لساني ألثغ وبي لكنة، وأحتاج إلى معين، فأعانه الله بهارون عليه السلام ونبأه وأمرهما أن يذهبا إلى فرعون، وأن يشتغلا بذكره ولا ينيا على في ذلك، ولا يقصروا، وأن يكون الله -جل شأنه- منهما على بال، وأن يستشعرا معينه لهما وحفظه ويعلما أنه ناظر إليهما، فامتثلا أمره، وقصدا فرعون ودخلا عليه، وأخبراه أن الله أوحى إليهما بما أوحى، وألانا له في القول بأمر الله تعالى بذلك، فطغى وتمرد ولم يقبل وطلب منهما برهانا
وعلامة على صدقهما، فألقى موسى العصا فصارت حية عظيمة تمشي، وأخرج يده من كمه فإذا هي بيضاء تلمع، ثم أدخلها ثانيا فإذا هي عليه. فلما رأى ذلك استشار أصحابه وجلساءه في أمرهما، فقالوا له: إن هذا سحر، فأرسل السحرة في كل أرض وأجمعهم فسيعلوه، فأرسل فرعون فجمعهم، فكانوا أكثر من الصعيد، فاجتمع عنده نحوا من أربعين ألف ساحر، فخرجوا هم وموسى عليه السلام وألقى كل منهم ما بيده من الحبال والعصا، فانقلبت ثعابين وحيات، وأقبلت نحو موسى عليه السلام فارتاع لذلك.
فأوحى الله -جل شأنه- إليه في سره ألق عصاك فألقاها، فانقلبت حية عظيمة وابتلعت جميع تلك الحيات المموهة، فلما رأى السحرة ذلك علموا أن مثل هذا الشأن لا يكون إلا المؤيد بتأييد إلهي، فأذعنوا حينئذ وآمنوا به وعلموا أنه مرسل من عند الله سبحانه وتعالى، وأنكر فرعون عليهم ما صنعوا من الإيمان بموسى واتباعه، وقال لهم: إن هذا هو الذي علمكم السحر فلهذا أطعتموه وآمنتم به، وهددهم وخوفهم فلم يرجعوا؛ بل أصروا على الإيمان وصرحوا بالتوحيد، وقالوا: افعل ما شئت فلا نرجع من ذلك أبدا.
فلما رأى ذلك فرعون منهم، ورأى إيمان كثير من بني إسرائيل واتباعهم لموسى، استشار فرعون أصحابه في قتل موسى هو ومن اتبعه، فأشاروا عليه بالفعل إلا رجل مؤمن يخفي الإيمان، واسمه خرقيل، وهو الذي قال الله -جل شأنه- فيه:{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} إلى آخر الآية [غافر: 28]، فإنه قال له: قد جاءه هذا الرجل بهذه الآيات الواضحات فلا ينبغي الفتك فيه؛ فإنه إن يكن كاذبا فما
يضرك كذبه، وإن يكن صادقا يصبك أمر عظيم، ويخشى عليك من الخطر فوعظه كثيرا، فأعرض عن موسى ولم يتعرض له بسوء، وبقي مصرا على تجبره وادعائه الربوبية، واستضعافه بني إسرائيل. وكان المؤمنون بموسى عليه السلام مستضعفين مستخفين في أرض مصر لقوة فرعون وجنوده، فدعا موسى لربه قائلا كما قص الله -جل شأنه- خبره في كتابه المكنون بقوله:{ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89)} [يونس: 88 - 89].
ثم إن موسى عليه السلام كان يدعو فرعون وقومه إلى توحيد الله تعالى وتعظيمه، ويطلب منهم أن يرسلوا معه بني إسرائيل ليذهب بهم إلى وطنهم الأصلي، ومسكن أبيهم الخليل عليه السلام، فأبوا عن ذلك فدعا عليهم، فأرسل الله -جل شأنه- عليهم طوفانا عظيما فأغرق بيوتهم ودخل الماء عليهم في كل موضع فالتجؤوا إلى موسى عليه السلام وسألوه أن يسأل الله -جل وعلا- أن يكشف ما بهم، إن كشف عنهم آمنوا به، وأرسلوا معه بني إسرائيل، فكشف الله -جل شأنه- عنهم ذلك، وأنبتت الأرض أضعاف ما تنبته من المعتاد فطغوا بذلك، وقالوا: هذه كانت علينا نعمة، فدعا عليهم بالجراد فأتاهم من كل موضع وأكل زروعهم، فسألوا موسى عليه السلام أن يدعو لهم ويؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل، فلما كشف ما بهم عادوا إلى ما هم عليه.
فدعا عليهم بالقمل فكثر فيهم، وأهلكهم وأتبعهم، فسألوا موسى عليه السلام كشف ذلك وأن يؤمنوا، فدعا لهم فكشف عنهم فلم يرجعوا عما هم عليه.
فدعا عليهم بالضفادع فامتلأت منازلهم وأماكنهم بها، فسألوه كشف ذلك ويؤمنوا، فكشف الله -جل شأنه- عنهم فلم يرجعوا.
فدعا عليهم بالدم فامتلأت منازلهم ومواطنهم دما، فسألوا كشف ذلك، وأن يؤمنوا، فدعا لهم، فكشف الله عنهم فلم يرجعوا.
ثم إن موسى عليه السلام طلب منهم أن يصنع عيدا لله تعالى ويخرج هو وبنو إسرائيل إلى خارج مصر، فاستعار بنو إسرائيل من القبط مصاغا وحليا لعرس لهم على أنهم يصنعوه ويعودوا إلى مصر، فتوجه موسى عليه السلام بهم وكانوا ستمائة ألف رجل والنساء والأطفال، وتوجهوا إلى خارج مصر وقصد المسير إلى الأرض المقدسة، وكانت ليلة خروجهم ألقى الله -جل شأنه- الموت على أبكار القبط فماتوا جميعهم، فاشتغل القبط بدفنهم، وسار موسى عليه السلام في ساقة بني إسرائيل، وسار هارون في مقدمتهم، فبلغ فرعون قصدهم، فخرج
في طلبهم في ألف ألف وسبعمائة ألف، فلما رأى بنو إسرائيل قرب فرعون منهم وقدموا على موسى عليه السلام قائلين: كنا راضين بعبودية القبط ولا يهلكونا، وكان البحر أمامهم ولس طريق غيره، فضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه فانفلق بإذن الله عز وجل، وصار لهم طريق فيه، فمروا فيه، وأتى فرعون وجنوده فمشوا في البحر، فلما خرج بنو إسرائيل من الطريق الآخر انطبق البحر على فرعون وجنوده فأغرقهم جميعا، وورث بنو إسرائيل أموال القبط ودورهم ومساكنهم وصاروا ملوكا بعد أن كانوا مملوكين.
وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى عليه السلام أن يتوجه إلى طور سيناء، فيأتي بني إسرائيل بكتاب من عند الله فيه جميع ما يحتاجون إليه من الأحكام والشرائع والنوامس، وهي التوراة، وهي أول كتاب أنزل من عند الله -جل شأنه- وما
قبلها من كتب الأنبياء تسمى صحفا، وكانت التوراة وقر بعير، وهي سبعون سفرا، يذكر في كل سفر منها نوعا من الأنواع: مثل: المبدأ والمعاد والتوحيد والأحكام، فتوجه موسى عليه السلام ووعدهم أن يغيب عنهم ثلاثين يوما يناجي فيها ربه ويأتيهم بكتاب من عنده، فتوجه إلى طور سيناء وأقام بجبل الطور تسعة وعشرين يوما صائما طاويا، وفي اليوم التاسع والعشرين استاك بعود الحزون، فقال له الملائكة: قد تغير ريح فمك، وأمر بزيادة عشرة أيام، وكانت الثلاثين يوما على وجه الطي والسهر، وفي هذه العشرة اضطرب بنو إسرائيل: وقالوا: وعدنا موسى عليه السلام بثلاثين يوما فلم يجيء، وزعموا أنه مات، وكان السامري: واسمه موسى بن ظفر رجلا صائغا، فمر به فارس لا يمر ببقعة من الأرض إلا اخضرت، فعلم أنه ليس من البشر، ووقع في نفسه أنه لا يوضع هذا التراب الذي وقع عليه حافر الفرس في شيء إلا حي، فأخذ منه قبضة واستعار من بني إسرائيل مصاغا الذي أخذوه من القبط، وصبغه عجلا ورصعه بالجواهر وألقى في جوفه شيئا من ذلك التراب، فخار وتحرك، فدعى بني إسرائيل قائلا: هذا إلهكم يا بني إسرائيل الذي ذهب موسى إليه، فعبدوا العجل في تلك المدة، فلما عاد موسى عليه السلام ومعه الألواح مكتوب فيها جميع ما يحتاج، وكانت اثني عشر لوحا.
فلما رأى ما صار منهم غضب لذلك، وألقى الألواح فتكسرت وأقبل يوبخ أخاه، فاعتذر إليه بأنهم لم يقبلوا نصيحتي، وأمر موسى بالعجل فبرد بالمياه وألقاه في النيل وأمرهم أن يشربوا منه، فأوحى الله -جل شأنه- إليهم إن أرادوا قبول التوبة فليقتل بعضهم بعضا فامتثلوا، وأنزل الله -جل شأنه- سحابة سوداء فصار لا يرى بعضهم قريبه أو أباه أو أخاه، فلما طال القتل فيهم تضرع موسى عليه السلام وأخوه هارون لحضرة الأزل، فكشف السحابة ونهوا عن القتل، فكان المقتول منهم نحوا من سبعين ألف رجل.
ورجع موسى عليه السلام إلى طور سيناء ثانيا واختار كبار بني إسرائيل سبعين رجلا، فجلسوا في آخر الجبل، وصعد موسى عليه السلام إلى أعلاه، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يرى الله هو وإياهم، فلما حصل التجلي الإلهي صار الجبل هباء ومات السبعون جميعهم وغشي على موسى عليه السلام، فلما أفاق من
غشوته، سأل الله -جل شأنه- إحياء السبعين فأحياهم الله تبارك وتعالى، ورجع موسى عليه السلام بالمواعظ والأحكام إلى بني إسرائيل، فأظهر فيهم أحكام الله -جل شأنه-، ودعاهم إلى عبادته، فامتنع من ذلك قومه ولم يمتثلوا، فرفع الله سبحانه وتعالى بدعاء موسى عليه السلام جبلًا عظيمًا حتى أظلهم وعلا عليهم فحينئذ امتثلوا وانقادوا.
وقع لموسى عليه السلام بمصر قميص جليلة: منها: قصة البقرة: وكان سبب هذه القصة أن رجلًا من بني إسرائيل كان غنيًا، وكان له ابن عم فقير وليس له وارث غيره، فطال عمر الغني، واستبطأ وارثه ذلك فقتله ليلًا ورماه في محله أخرى، وأصبح يدعي أهل ذلك المنزل الذي وجد القتيل عندهم إلى موسى عليه السلام، واختلفوا بنو إسرائيل في ذلك،
فأوحى الله -جل شأنه- إلى موسى عليه السلام أن أذبحوا بقرة، وخذوا قطعة منها واضربوا به قبر الميت؛ فإنه يخبركم من قتله، فلما أخبرهم موسى عليه السلام بذلك استبعدوا قوله، فسألوه عن صفة البقرة، فأخبرهم أنها بقرة لا كبيرة ولا صغيرة. فسألوه عن لونها، فأخبرهم أنها صفراء، وسألوه سائمة أم عاملة فأخبرهم أنها سائمة. وكان سؤالهم لحكمة إلهية؛ وهو أن هذه البقرة الموصوفة بهذه الصفة كانت لغلام يتيم لما قربت وفاة والده أخذ هذه البقرة، وذهب بها إلى غيضة فاستودعها الله تعالى لابنه حتى يكبر، وكان ذلك الغلام شابًا بارًا بوالدته، فقالت له يومًا: إن أباك استودع لك في غيضة كذا البقرة فنادها، فذهب فناداها فأتت إليه، فسار بها إلى أمه، فقالت له: بعها بثلاثة دنانير بشورتي، فبعص الله -جل شأنه- ملكًا فقال: بكم تبيع البقرة؟ فقال: بثلاثة دنانير وأستأمر والدتي، فقال الملك: بستة دنانير ولا تستأمرها، فقال له: لو أعطيتني وزنها ذهبًا لم آخذ إلا برضا والدتي، فردها إلى والدته، وأخبرها، فقالت: بعها بستة دنانير مع الاستئمار، فراوده الملك بزيادة ضعف الثمن، فلم يفعل إلا باستئمار والدته، فقالت له أمه: إن الذي يأتيك هذا ملك، فاسأله: أبيعها أم أبقيها، فسأله فقال له: أبقها؛ فإن بني إسرائيل يحتاجون إليها فستبيعها بملء مسكها ذهبًا. فلما رآها بنو إسرائيل دفعوا إليه فيها ثمنًا، فأبى أن يبيعها إلا بملء جلدها ذهبًا، ووسع الله -جل شأنه- الجلد حتى حمل أضعاف ما هو حامل، ثم ذبحوها وضربوا ببعضها قبر الميت، واسمه عاميل، فأحياه الله -جل شأنه-، وقال: قاتلي فلان، ثم رجع ميتًا فعرفوا القاتل واقتصوا منه.
ووقع لموسى عليه السلام أيضًا بمصر أنه قام خطيبًا في بني إسرائيل، فوعظهم وذكر علومًا عظيمة ومعارف جليلة، فقالوا له: يا نبي الله من أعلم الناس؟ فقال: «أنا» ، ولم يرد العلم إلى الله -جل شأنه-، فأوحى الله إليه، أنك ما أعدت العلم إلي، وإن لي عبدًا من عبادي هو أعلم منك يقال له: الخضر.
فلما قال الله -جل شأنه- له ما قال طلب من الحق أن يجتمع به، فقال له الحق -جل وعلا-: اطلبه عند مجمع البحرين، فعلامة اجتماعك بأن تأخذ حوتًا فتنساه.
فتوجه موسى عليه السلام واستتبع معه تلميذه يوشع بن نون، وقال له: أنا طالب الاجتماع بهذا الشخص، ولو مضى علي حقبًا من السنين، فلما وصلا إلى مجمع البحرين نام موسى عليه السلام عند صخرة، وكان معهما حوت في مكتل، ثم قام من نومه فتوجه وتوجه معه يوشع، ونسيا الحوت في محله فسارا، وكان موسى قد تعب وجاع فطلب الحوت، فأخبر يوشع بنسيانه وخشي من ذلك، فقال موسى عليه السلام: هذا مطلوبنا، ورجعنا فوجدا رجلًا عند مجمع البحرين، فسلم موسى عليه السلام وقال له: إني أريد أتبعك وأتعلم منك،
فقال له: إنك لا تقدر على متابعتي وصحبتي. فقال له موسى عليه السلام: ستراني إن شاء الله قادرًا على صحبتك، فمرت بهم سفينة عظيمة فطلبوا أهلها أن يحملوهم، فلما استقروا فيها أخذ الخضر عليه السلام قدومًا فكسر لوحًا من ألواح السفينة وأخرجه، فأنكر عليه موسى عليه السلام قائلًا له: قوم حملونا وأكرمونا تعيب سفينتهم! فقال لهم: ما قلت لك: إنك ما تقدر على مرافقتي، فاستغفر موسى عليه السلام له، وقال: قد نسيت فلا تؤاخذني، ثم خرجا من السفينة ومشيا في مدينة، فرأيا غلامًا حسن الصورة بديع الشكل، واسمه حيسون، فجذب الخضر عنقه فاقتلعها من جسده فرماه ميتًا، فأنكر عليه موسى عليه السلام قائلًا: أتقتل غلامًا بلا سبب؟ فقال له: ألم أخبر أن لا تقدر على مرافقتي. فقال له موسى عليه السلام: لا أعود، وإن عدت فلا تصحبني أبدًا.
فخرجا مشيًا وانتقلا من موضع إلى موضع حتى وصلا إلى مدينة أنطاكية وهما جياع، فطلب أن يضيفوهما فلم يضيفوهما، فخرجا منها فوجد الخضر عليه السلام جدارًا مائلًا يكاد أن يقع، فمسح بيده عليه فاستقام كأحسن ما يكون، فقال له موسى عليه السلام: لو أخذت أجره منهم فأكلنا بها فكان خيرًا، فقال له الخضر: هذا فراق بيني وبينك، ولكن اجلس فسأخبرك عما صنعت معك.
أما السفينة فهي لمساكين يعملون في البحر، وأن ملكًا جبارًا يغصب السفائن التي تعجبه، فخرقي لها حتى أعيبها فلا تعجبه ولا يأخذها.
وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين صالحين، وكان هو في علم الله شقيًا كافرًا، فعلم الله -جل شأنه- أنه يتعب أبويه ويؤذيهما، فأرحتهما منه بأمر الله تعالى، ويعوضهما الله -جل شأنه- خيرًا منه.
قيل: إنه عوضهما الله -جل شأنه- بنتًا تزوجت بنبي من الأنبياء، فأتت بني عظيم هدى الله -جل شأنه- به أممًا عظيمة.
وأما الحكمة في عمارة الجدار؛ فإنه كان ليتيمين: واسمهما أصرم وصريم، وكان تحته كنز لهما من ذهب، وكان أبو الغلامين رجلًا صالحًا،
واسمه كاشخ، قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، فعمرت الجدار كيلا ينكشف الكنز، وإذا بقي على حاله، كبر الغلامان فيأخذاه، ثم قال له الخضر عليه السلام: كل هذه الأشياء ما فعلتها إلا بأمر الله تعالى.
وقد كان الخضر عليه السلام أعد لموسى عليه السلام مائة مسألة من هذه المسائل، ولكن استحيى موسى فقال:{إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} [الكهف: 76] يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي موسى استحيى، فقال ذلك: لو لبث مع صاحبه لبصر عجب الأعاجب» .
ووقع لموسى عليه السلام في هذه المدة قضية قارون، وكان موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل بأمر فقبلوا ولم يقبل قارون. وقال: إنما أردت أن تتميز على بني
إسرائيل بهذه الشارة، فتركه موسى عليه السلام ولم يتعرض له لقرابته.
ولما قطع موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر، فعاد إلى أرض مصر، أمره الله -جل شأنه- أن يتخذ لله بيتًا وهو المسجد، وأن يفرش بالفرش العظيمة وتوقد فيه السراج، وأن يكون أمر خدمته وأمر القرابين التي تهدى إليه راجعًا إلى أخيه هارون وبنيه، وتسمى هذه الخدمة الحبورة، فازداد بغي قارون عند ذلك، وخاطب موسى عليه السلام قائلًا له: لك الرسالة والنبوة ولأخيك الحبورة
وليس لي شيء؟ ! لا صبر لي. فقال له موسى عليه السلام: ليس ذلك مني إنما هو بأمر الله تعالى واختياره. فطلب من موسى علامة على ذلك، فطلب موسى عليه السلام عصا هارون وعصا قارون عصيا كثيرًا من كبراء بني إسرائيل فحزمها وباتت جميعها عنده، فأصبح قضيب هارون معتزًا مورقًا خضرًا فرآه الحاضرون فنسب قارون ذلك إلى السحر، وازداد حقده وحسده وبغيه، وأقبل على جمع الدنيا والغرور بها والامتثال إليها، فنصحه موسى عليه السلام والعاملون من قومه، وأخبروه أن هذه نعمة من الله عز وجل. ثم لما فرض الله -جل شأنه- الزكاة على بني إسرائيل وطلبه موسى بذلك ازداد بغي قارون ولم تطاوعه نفسه على إعطائه
حقوق الله عز وجل فجمع أصحابه وإخوانه واستشارهم قائلًا: إن موسى لم يكفه ما كلفكم به من الأوامر فأراد الآن أن يشارككم في أموالكم، قالوا له: الرأي ما ترى. فأحضر قارون امرأة بغيًا وأوعدها أن يوسع لها في العيش، وأن يعطيها جانبًا عظيمًا من حطام الدنيا وأن تقذف موسى بنفسها، فامتثلت ما أشار به عليها قارون، فلما خرج موسى عليه السلام في مشهد من مشاهد بني إسرائيل، وقد اجتمع الناس في ذلك الموضع، فخطبهم موسى عليه السلام، وأمرهم ونهاهم وأخبرهم بحدود، فقال: من سرق قطعت يده، ومن زنى وهو محصن رجم، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة، ومن قذف مسلمًا جلد ثمانين جلدة.
فقام إليه قارون قائلًا: وإن كان أنت يا نبي الله؟ فقال: نعم. فقال: إن قومًا يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي. فقال: ادعوها، فإن قالت ذلك فهو كما تقول، فلما أقبلت عزم موسى عليه السلام عليها القسم، وقال لها: أسألك بالذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لبني إسرائيل فأنجاهم من فرعون وجنوده إلا ما صدقتني، فأوقع الله -جل شأنه- في قلبها التوبة والإنابة وسبقت لها العناية، فقالت: لا والله يا نبي الله لم يكن شيء من ذلك، وإنما قارون هو الذي أشار علي بالافتراء والبهتان، فغضب موسى عليه السلام من ذلك، ودعا عليه أن تأخذه الأرض، فأخذته الأرض، فاستغاث بموسى عليه السلام فلم يغثه لشدة الغضب، ودعا أن تأخذه فلم يزل يناشده الله والرحم، وموسى لا يصغي إلى قوله إلى أن ذهبت به الأرض. وأصبح الملأ من بني إسرائيل يتحدثون أن موسى إنما دعا على قارون ليرث ماله ويأخذ ما عنده، فدعا موسى عليه السلام أن يخسف الله بما عنده وبما تحتوي به دوره من الأموال. وذلك قول الله -جل شأنه- في كتابه المبين:{فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئةٍ ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81)} [القصص: 81].