المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثالث والأربعون بعد المائة علم معرفة شروط المفسر وآدابه - الزيادة والإحسان في علوم القرآن - جـ ٧

[محمد عقيلة]

فهرس الكتاب

- ‌النوع الحادي والثلاثون بعد المائة علم من ذكر من الأنبياء عليهم السلام في القرآن العظيم صريحاً وبالإشارة

- ‌النوع الثاني والثلاثون بعد المائة علم تاريخ الأنبياء المذكورين في القرآن وبيان المتقدم منهم والمتأخر

- ‌فأولهم آدم عليه الصلاة والسلام

- ‌وبعده شيث عليه الصلاة والسلام

- ‌وبعده إدريس عليه الصلاة والسلام

- ‌ إدريس عليه السلام

- ‌ نوح عليه الصلاة والسلام

- ‌ هود عليه الصلاة والسلام

- ‌ صالح عليه الصلاة والسلام

- ‌ حنظلة بن صفوان عليه السلام

- ‌ أهل القصر المشيد، وهم من أمة صالح

- ‌(حنظلة بن صفوان) عليه الصلاة والسلام

- ‌ لوط عليه الصلاة والسلام

- ‌ نبي الله إسماعيل عليه السلام

- ‌ نبي الله إسحاق عليه الصلاة والسلام

- ‌ يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو المسمى إسرائيل

- ‌ يوسف عليه الصلاة والسلام

- ‌ موسى بن ميشا، وهذا لم يذكر في الكتاب العزيز، وهو من ولد يوسف عليه السلام

- ‌ أيوب عليه الصلاة والسلام

- ‌ بشر بن أيوب نبياً وسماه ذا الكفل

- ‌ شعيب عليه الصلاة والسلام

- ‌ موسى بن عمران - عليه الصلاة والاسلام

- ‌ الخضر عليه الصلاة والسلام

- ‌ يوشع، نبأه الله جل شأنه

- ‌ شمويل عليه الصلاة والسلام

- ‌ داود عليه الصلاة والسلام

- ‌ سليمان عليه الصلاة والسلام

- ‌ إلياس عليه السلام

- ‌ اليسع عليه الصلاة والسلام

- ‌ ذو الكفل عليه الصلاة والسلام

- ‌ يونس بن متى عليه الصلاة والسلام

- ‌ شعيا عليه الصلاة والسلام وكان نبياً عظيماً

- ‌ أرمياً - عليها الصلاة والسلام

- ‌ عزيز عليه الصلاة والسلام

- ‌ دانيال عليه السلام

- ‌ زكريا عليه السلام

- ‌ يحيى عليه السلام

- ‌ عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌ جرجيس عليه الصلاة والسلام

- ‌ خالد بن سنان العبسي

- ‌ سيدنا ونبينا خاتم النبيين ورسول رب العالمين ورحمة الله على الخلق أجمعين

- ‌النوع الثالث والثلاثون بعد المائة علم ماوقع في القرآن العظيم من الأسماء والكنى والألقاب

- ‌أسماء الملائكة:

- ‌فائدة: قرأ أبو حيوة: فأرسلنا إليهما روحنا بالتشديد

- ‌أسماء الصحابة:

- ‌[أسماء المتقدمين من غير الأنبياء والرسل: ]

- ‌[أسماء النساء]

- ‌[أسماء الكفار]:

- ‌[أسماء الجن]:

- ‌[أسماء القبائل]:

- ‌[أسماء الأقوام بالإضافة]:

- ‌[أسماء الأصنام]:

- ‌[أسماء البلاد والأمكنة]:

- ‌[أسماء الأماكن الأخروية]:

- ‌[أسماء الكواكب]:

- ‌فائدة [في اسماء الطير]:

- ‌فصل [في الكنى والألقاب في القران]

- ‌وأما الكنى:

- ‌وأما الألقاب:

- ‌النوع الرابع والثلاثون بعد المائه علم مبهمات القران

- ‌الأول: فيما أبهم من رجل أو امرأة أو ملك أو جني، أو مثنى أو مجموع عرف أسماء كلهم أو من أو الذي إذا لم يرد به العموم

- ‌القسم الثاني في مبهمات الجموع الذين عرفت أسماء بعضهم:

- ‌قصة نبي الله صالح عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله لوطعليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله إسماعيل عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله إسحاق عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله يوسف عليه السلام

- ‌قصة نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة الخضر عليه السلام

- ‌قصة نبي الله هارون عليه السلام

- ‌قصة نبي الله يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله حزقيل عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله شمويل عليه السلام

- ‌قصة نبي الله داود عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة لقمان الحكيم

- ‌قصة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله إلياس عليه السلام

- ‌قصة نبي الله اليسع عليه السلام

- ‌قصة نبي الله ذو الكفل عليه السلام

- ‌قصة نبي الله يونس عليه السلام

- ‌قصة نبي الله عزير -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام

- ‌قصة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌النوع السابع والثلاثون بعد المائة علم من ذكر في القرآن الكريم من الملوك والأمم غير الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام

- ‌قصة شداد بن عاد

- ‌قصة أهل البئر المعطلة وأهل القصر المشيد

- ‌قصة أصحاب الرس

- ‌قصة السبت

- ‌قصة بخت نصر

- ‌قصة الإسكندر ذي القرنين

- ‌قصة أهل سبأ

- ‌قصة صياطاس

- ‌قصة أهل الكهف

- ‌قصة تبع الأخي

- ‌قصة أصحاب الأخدود

- ‌قصة أصحاب الفيل

- ‌النوع الثامن والثلاثون بعد المائة علم أمثال القرآن

- ‌فصل في ذكر أمثال القرآن في القرآن اثنان وأربعون مثلًا

- ‌فصلأمثال القرآن قسمان:

- ‌النوع التاسع والثلاثون بعد المائة علم مواعظ القرآن العظيم

- ‌فصل في المواعظ القرآنية الممزوجة بكلمات الصوفية

- ‌فصل: في قصة آدم -عليه صلوات الله وسلامه

- ‌الفصل الرابع: في قصة عاد:

- ‌الفصل الخامس: في قصة ثمود:

- ‌الفصل السادس: في قصة الخليل عليه السلام:

- ‌الفصل السابع: في قصة الذبيح:

- ‌النوع الأربعون بعد المائة علم حكم القرآن

- ‌النوع الحادي والأربعون بعد المائة علم حقائق القرآن

- ‌القسم الأول- عروج روحاني

- ‌القسم الثاني- وهو المعراج الجسماني

- ‌وأما القسم الثالث- وهو المعراج السري

- ‌النوع الثاني والأربعون بعد المائة علم معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه

- ‌النوع الثالث والأربعون بعد المائة علم معرفة شروط المفسر وآدابه

- ‌تنبيه:

- ‌فصل وأما كلام الصوفية

- ‌فصل قال العلماء يجب على المفسر [

- ‌فائدة:

الفصل: ‌النوع الثالث والأربعون بعد المائة علم معرفة شروط المفسر وآدابه

‌النوع الثالث والأربعون بعد المائة علم معرفة شروط المفسر وآدابه

ص: 409

النوع الثالث والأربعون بعد المائة علم معرفة شروط المفسر وآدابه قال العلماء: من أراد تفسير الكتاب العزيز، طلبه أولًا من القرآن، فما أُجمل منه في مكان، فقد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر [منه].

وقد ألف ابن الجوزي كتابًا فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر [منه]، وأشرت إلى أمثله منه في نوع المجمل.

فإن أعياه ذلك طلبه من السنة؛ فإنها شارحة للقرآن وموضحة له.

وقد قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مما قهمه من القرآن قال تعالى:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105] في آيات أخرى.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» ؛ يعني السنة.

فإن لم يجد في السنة رجع إلى قول الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح.

ص: 410

وقد قال الحاكم في «المستدرك» : إن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع.

وقال الإمام أبو طالب الطبري في أوائل تفسيره: [القول في أدوات المفسر]: اعلم أن من [شرطه صحة الاعتقاد أولًا، ولزوم سنة الدين]، فإن كان مغموصًا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا، فكيف على الدين! ثم لم يؤتمن من الدين على [الأخبار عن عالم، فكيف يؤتمن في] الأخبار عن أسرار الله تعالى، [ولأنه] لا يؤمن إن كان متهمًا بالإلحاد أن يبغي الفتنة، ويغوي الناس بليه وخداعه، كدأب الباطنية، وغلاة الرافضة، وإن كان متهمًا بهوى لم يؤمن أآن يحمله هواه على ما يوافق بدعته، كدأب القدرية،

ص: 411

فإن أحدهم يصنف الكتاب في التفسير، ومقصوده منه الإيضاع خلال المساكين ليصدهم عن اتباع السلف ولزوم طريق الهدى.

ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ومن عاصرهم، ويتجنب المحدثات، وإذا تعارضت أقوالهم وأمكن الجمع بينها فعل، نحو أن يتكلم على {الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6} وأقوالهم فيه، ترجع إلى شيء واحد، فيؤخذ منها [ما يدخل فيه الجميع]، فلا تنافي بين القرآن، وطريق الأنبياء وطريق السنة، وطريق النبي صلى الله عليه وسلم، وطريق أبي بكر وعمر، فأي هذه الأقوال أفرده كان محسنًا.

وإن تعارضت رد الأمر إلى ما ثبت فيه السمع، وإن لم يجد سمعًا، وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدهما رجح ما قوي الاستدلال فيه، كاختلافهم قف معنى حروف الهجاء، يرجح قول من قال: إنها قسم.

ص: 412

وإنما تعارضت الأدلة في المراد علم أنه قد اشتبه عليه، فيؤمن بمراد الله تعالى منها، ولا يتهجم على تعيينه وينزله منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبينه.

[ومن شرطه: صحة المقصد] فيما يقول ليلقى التسديد، فقد قال تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]. وإنما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا؛ لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى غرض يصده عن صواب قصده، ويفسد عليه صحة عمله.

وتمام هذه الشرائط أن يكون ممتلئًا من عدة الإعراب، لا يلتبس عليه اختلاف وجوه الكلام، فإنه إذا خرج بالبيان عن وضع اللسان، إما حقيقة أو مجازًا، فتأويله تعطيله. وقد رأيت بعضهم يفسر قوله تعالى:{قل الله ثم ذرهم} [الأنعام: 91] أنه ملازمة قول الله، ولم يدر الغبي أن هذه الجملة حذف منها الخبر، والتقدير {الله أنزله} . انتهى كلام أبي طالب.

وقال ابن تيمية في كتاب ألفه في هذا النوع: يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه؛ فقوله تعالى:{لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.

وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤون القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم

ص: 413

والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.

ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس -رضي الله تعالى عنه-: كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران، جد في أعيننا. رواه أحمد في مسنده. وأقام ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- على حفظ البقرة ثمان سنين، أخرجه في الموطأ. وذلك أن الله تعالى قال:{كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته} [ص: 29]، وقال:{أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وأيضًا في العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب، والحساب، ولا يستشرحونه، فكيف بكتاب الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم، وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم! ولهذا كان النوع بين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- في تفسير القرآن قليلًا جدَّا. وهو وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة؛ فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم.

ومن التابعين من تلقى التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، والخلاف بين السلف في التفسير قليل، وغالبًا ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، كتفسيرهم {الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] بعضٌ: بالقرآن؛ أي اتباعه، وبعضٌ: بالإسلام، فالقولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهم نبه على وصف (غير الوصف) الآخر، كما أن لفظ {صراط} يشعر بوصف ثالث.

ص: 414

وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، [وقول من قال: هو طريق العبودية]، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله. وأمثال ذلك؛ فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم من صفاتها.

ثانيهما: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثاله: ما نقل في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا

} الآية [فاطر: 32]، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات.

والمقتصد: يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات.

والسابق: يدخل فيه من سبق، فتقرب بالحسنات مع الواجبات.

والمقتصدون: أصحاب اليمين، والسابقون السابقون أولئك المقربون.

ثم إن كلا منهم [يذكر هذا في نوع] من أنواع الطاعات. كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي قف أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.

ويقول: السابق: المحسن بالصدقة مع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة [فقط]، والظالم مانع الزكاة. قال:[وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في] تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر

ص: 415

بعض أنواع المسمى، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.

[ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ محتملًا للأمرين، وإما لكونه مشتركًا في اللغة]، كلفظ {قسورة} [المدثر: 51] الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد. ولفظ {عسعس} [التكوير: 17] الذي يراد به إقبال الليل وإدباره.

وإما لكونه متواطئًا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله تعالى:{ثم دنا فتدلى (8)} الآية: [النجم: 8]. وكلفظ {الفجر} ، {الشفع} ، {وليال عشر (2)} [الفجر: 1 - 3] [وأمثال ذلك]. فمثل هذا قد يجوز أن يراد كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك.

ص: 416

فالأول: إما لكونه الآية نزلت مرتين: فأريد بها هذا تارة، وهذا تارة. وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه. وإما لكون اللفظ متواطئًا، فيكون عامًا إذا لم يكن لمخصصه موجب. فهذا النوع إذا صح فيه القولان كاتن من الصنف الثاني. ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافًا، أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة، كما إذا فسر بعضهم قوله تعالى:{أن تبسل} [الأنعام: 70] بـ (تحبس) وبعضهم بـ (ترتهن)؛ لأن كلا منهما قريب من الآخر.

ثم قال {فصل} والاختلاف في التفسير على نوعين، منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك.

والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره، ومنه ما لا يمكن ذلك. وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه، ولا حاجة بنا إلى معرفته؛ وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وفي قدر سفينة نوح وخشبها، وفي

ص: 417

اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور من طريق العلم بها النقل، فما كان منه منقولًا نقلًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم [قبل]، وما لا -بأن نقل عن أهل الكتاب كعب، ووهب- وقف عن تصديقه وتكذيبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» .

وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلًا صحيحًا، فالنفس إليه أسكن مما نقل عن التابعين؛ لاحتمال أن يكون سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو من بعض من سمعه منه أقوى؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب [أقل من نقل التابعين. ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال: إنه أخذه من أهل الكتاب]، وقد نهوا عن تصديقهم!

وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود كثيرًا ولله الحمد. وإن قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي، وذلك لأن الغالب عليها المراسل.

ص: 418

وأما ما يعلم بالاستدلال، لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين مثل: تفسير عبد الرزاق، والفريابي، ووكيع، وعبد بن حميد، وإسحاق، وأمثالهم.

أحدهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.

والثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان عن الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه والمخاطب به.

فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.

والآخرون راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام، ثم هؤلاء كثيرًا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين

ص: 419

كثيرًا ما يغلطون في صحة المعنى [الذي] فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.

والأولون صنفان، تارة [يسلبون] لفظ ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وكلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلًا، [فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقًّا] فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول، فالذين أخطأوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا [مذاهب] باطلة وعمدوا إلى القرآن، فتأولوه على رأيهم، ولس لهم سلف من الصحابة والتابعين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.

وقد صنفوا تفاسير على أصول مذاهبهم مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، والجبائي، وعبد الجبار، والرماني، والزمخشري، وأمثالهم.

ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة يدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف [ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل

ص: 420

السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة].

وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة وأسلم من البدعة، ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن؛ فإنه كثيرًا ما ينقل [من] تفسير ابن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا. ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطريق من جنس ما قررت به المعتزلة، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة. لكن ينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه؛ فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كانوا لهم في الآية تفسير، وجاء قوم فسروا الآية يقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين صار مشاركًا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.

وفي الجملة: من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا؛ لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله.

وأما الذين أخطأوا في الدليل لا في المدلول، فمثل كثير من الصوفية، والوعاظ، والفقهاء يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها، لكن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره السلمي في الحقائق، فإن كان فيما ذكروه

ص: 421

معان باطلة دخل في القسم الأول. انتهى كلام ابن تيمية ملخصًا وهو [نفيس] جدًّا.

وقال أبو حيان: النظر في تفسير كتاب الله يكون من وجوه: الوجه الأول: علم اللغة اسمًا وفعلًا وحرفًا، فالحروف لقلتها تكلم على معانيها النحاة فيؤخذ ذلك من كتبهم. وأمات الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة، وأكبر الموضوعات في علم اللغة كتاب ابن أسيد، فإن الحافظ أبا محمد علي بن أحمد الفارسي ذكر أنه في مائة سفر بدأ فيه بالفلك، وختم بالذرة.

وفي الكتب المطولة فيه: كتاب الأزهري، و «الموعب» لابن التياني، و «المحكم»

ص: 422

لابن سيده، و «كتاب الجامع» لأبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي القيرواني المعروف بالقزاز، و «الصحاح» للجوهري، و «البارع» لأبي علي القالي، و «مجمع البحرين» للصاغاني.

وقد حفظت في صغري في علم اللغة كتاب «الفصيح» لأبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني، واللغات المحتوى عليها دواوين مشاهر العرب الستة: امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة،

ص: 423

وزهير، وطرفة، وعنترة، وديوان الأفوه الأودي لحفظي عن ظهر قلب لهذه الدواوين. وفظت كثيرًا من اللغات المحتوى عليها نحو الثلث من كتاب «الحماسة» واللغات التي تضمنها قصائد مختارة من شعر حبيب بن أوس لحفظي لذلك.

وفي الموضوعات في اللغة: كتاب ابن القوطية، وكتاب ابن

ص: 424

طريف، وكتاب السرقسطي المنبوز بالحمار، ومن أجمعها كتاب ابن القطاع.

الوجه الثاني: معرفة الأحكام التي للكلم الغريبة من جهة إفرادها، ومن جهة تركيبها. ويؤخذ ذلك من علم النحو. وأحسن موضع فيه وأجله كتاب أبي بشر عمرو بن عثمان بن (قنبز) سيبويه. وأحسن ما وضعه المتأخرون من المختصرات وأجمعه لأحكام كتاب «تسهيل الفوائد» لأبي عبد الله محمد بن مالك الجياني الطائي مقيم دمشق.

ص: 425

وأحسن ما وضع في التصريف كتاب «الممتع» لأبي الحسن علي بن مؤمن بن عصفور الحضرمي الإشبيلي. وقد أخذت هذا الفن عن أستاذنا [الأوحد] العلامة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي في كتاب سيبويه، [وغيره].

الوجه الثالث: كون اللفظ والتركيب أحسن وأجمع، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبدع، وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة، وأجمعها ما جمعها شيخنا الأديب الصالح أبو عبد الله محمد بن سليمان النقيب، وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير. وما وضعه شيخنا الإمام الأديب الحافظ المتبحر أبو الحسن حازم [بن محمد بن حازم] الأنصاري، الأندلسي مقيم تونس المسمى «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» .

وقد أخذت جملة من هذا الفن عن أستاذنا أبي جعفر بن الزبير -رحمه الله تعالى.

الوجه الرابع: تعيين مبهم، وتبيين مجمل، وسبب نزول، ونسخ. ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من علم الحديث.

وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها ورويناها ذلك، كالصحيحين،

ص: 426

والجامع، للترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه، وسنن الشافعي، ومسند عبد، ومسند الدارمي، [ومسند الطيالسي]، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، وسنن الدارقطني، ومعجم الطبراني الكبير، والمعجم الصغير له، ومستخرج أبي نعيم على مسلم، وغير ذلك.

الوجه الخامس: معرفة الإجمال، والتبيين، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، ودلالة الأمر، والنهي، وما أشبه هذا. ويختص أكثر هذا الوجه بجزء الأحكام من القرآن، ويؤخذ هذا من أصول الفقه، ومعظمه هو في الحقيقة راجع لعلم اللغة، إذ هو شيء يتكلم فيه على أوضاع العرب، ولكن تكلم فيه غير اللغويين، والنحويين، ومزجوه بأشياء من حجج العقول. ومن أجمع ما في هذا الفن كتاب «المحصول» لأبي عبد الله محمد بن عمر الرازي، وقد بحثت في هذا الفن في كتاب «الإشارة» لأبي الوليد الباجي عن الشيخ الأصولي الأديب أبي الحسن فضل بن إبراهيم المعافري الإمام بجامع غرناطة والخطيب به، وعلى أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير في كتاب «الإشارة» ، وفي شرحها له، وذلك بالأندلس، وبحثت أيضًا في هذا الفن على الشيخ علم الدين عبد الكريم بن

ص: 427

علي بن عمر الأنصاري المعروف بابن بنت العراقي في مختصره الذي اختصره من كتاب «المحصول» وعلى الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب الباجي في مختصره الذي اختصره من كتاب «المحصول» وعلى الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأنصاري صاحب شرح المحصول بحثت عليه في كتاب القواعد من تأليفه -رحمه الله تعالى.

الوجه السادس: الكلام فيما يجوز على الله تعالى، وما يجب له، وما يستحيل عليه، والنظر في النبوة.

ويختص هذا الوجه بالآيات التي تضمنت النظر في الباري تعالى، وفي الأنبياء، وإعجاز القرآن. ويؤخذ هذا من علم الكلام، وقد صنف علماء الإسلام من سائر الطوائف في هذا كتبًا كثيرًا، وهو علم صعب إذ المزلة فيه -والعياذ بالله- مفضٍ إلى الخزانة في الدنيا والآخرة.

وقد سمعت [منه] مسائل [تبحث] على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وغيره.

الوجه السابع: اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقصان أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ،

ص: 428

وذلك بتواتر وآحاد. ويؤخذ هذا الوجه من علم القراءات. وقد صنف علماؤنا في ذلك كتبًا لا تكاد تحصى، وأحسن الموضوعات في القراءات السبع كتاب «الإقناع» لأبي جعفر بن الباذش، وفي القراءات العشر «المصباح» لأبي الكرم الشهرزوري. وقد قرأت القرآن بقراءة السبعة [بجزيرة الأندلس] على الخطيب [أبي جعفر أحمد بن علي بن محمد الرعيني عرف بابن الطباع بغرناطة]، وعلى الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله الأنصاري، [وعلى غيرهما] بالأندلس. وقرأت القرآن بالقراءات الثمان بثغر الإسكندرية على الشيخ الصالح رشيد الدين أبي محمد عبد النصير بن علي بن يحيى الهمداني عرف بابن المريوطي.

(وقرأت) القرآن بقراءة السبعة بمصر -حرسها الله تعالى- على الشيخ المسند العدل فخر الدين أبي الطاهر إسماعيل بن [هبة الله] بن علي المليجي.

ص: 429

وأنشأت في هذا العلم كتاب «عقد اللآلئ» قصيدًا في عروض قصيد الشاطبي [ورويه] تشتمل على ألف بيت وأربعة وأربعين بيتًا، صرحت فيه بأسامي القراء من غير [رمز] ولا لغز ولا [حوشي] لغة. وأنشأته من كتب تسعة كما قلت.

تنظم هذا العقد من در تسعة

من الكتب فالتيسير عنوانه انجلا

بكاف لتجريدها لتبصره

وإقناع تلخيصين أضحى مكملا

فهذه سبعة وجوه لا ينبغي على تفسير كتاب الله تعالى إلا من أحاط بجملة

غالبها من كل وجه منها.

وقال الجاح في كتاب «نظم القرآن» : فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في علم صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار، وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من

ص: 430

سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني والبيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعًا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات طويل المراجعات قد راجع زمانًا ورجع إليه، ورد عليه فارسًا في علم الإعراب، مقدمًا في جملة الكتاب، وكان من ذلك مسترسل الطبيعة، منقادها مشتعل القريحة، وقادها يقظان النفس دراكًا للمحة، وإن لطف شأنها منتبهًا على الرمزة، وإن خفي مكانها لا كزًا جاسيًّا، ولا غليظًا جافيًّا، متصرفًا [ذا دراية] بأساليب النظم والنشر، مرتضاها غير ريض بتلقيح نبات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة، ووقع في مداحضة ومزالقة.

قال الزركشي في البرهان: للناظر في القرآن [لطلب

ص: 431

التفسير] مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة:

الأول: النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الطراز المعلم، لكن يجب الحذر من الضعيف منه، والموضوع، فإنه كثير؛ ولهذا قال أحمد: ثلاثة لا أصل لها: المغازي، والملاحم، والتفسير. قال المحققون من أصحابه: مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة، وإلا فقد صح من ذلك كثير، كتفسير «الظلم» بـ «الشرك» في آية الأنعام، و «الحساب اليسير» بالعرض، والقوة بالرمي في قوله تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ} [الأنفال: 60].

قال الحافظ السيوطي: قلت: الذي صح من ذلك قليل جدًّا، بل أصل المرفوع منه في غاية القلة، وسأسردها كلها آخر الكتاب -إن شاء الله تعالى.

ص: 432

الثاني: الأخذ بقول الصحابي؛ فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله الحاكم في «المستدرك» .

وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يحتمل أن لا يرجع إليه إذا قلنا: إن قوله ليس بحجة، والصواب الأول؛ لأنه من باب الرواية لا الرأي.

قال الحافظ السيوطي: قلت: ما قاله الحاكم نازعه فيه ابن الصلاح وغيره من المتأخرين، بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أو نحوه مما لا مدخل للرأي (فيه).

ص: 433

ثم رأيت الحاكم نفسه صرح به في «علوم الحديث» فقال: ومن الموقوفات تفسير الصحابة. وأما من يقول: إن تفسير الصحابة مسند، فإنه إنما يقول فيما فيه سبب النزول. فقد خصص هذا، وعمم في «المستدرك» فاعتمد الأول، -والله أعلم.

ثم قال الزركشي: وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل، المنع وحكوه عن شعبة لكن عمل المفسرين على خلافه، فقد حكوا في كتبهم أقوالهم، لأن غالبها تلقوها من الصحابة، وبما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ، فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف

ص: 434

محقق [فيحكيه] أقوالًا، وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من الآيات؛ لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل. وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى معنى واحد غالبًا، فإن لم يمكن الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم، إن استويا في الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدم.

الثالث: الأخذ بمطلق اللغة؛ فإن القرآن بلسان عربي. وهذا قد ذكره جماعة، ونص عليه أحمد في مواضع لكن نقل الفضل بن زياد عنه [أنه] سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر، فقال: ما يعجبني. فقيل: ظاهره المنع، ولهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة: روايتان عن أحمد، وقيل: الكراهة تحمل على [من] صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا يوجد غالبًا إلا في الشعر ونحوه ويكون المتبادر خلافها.

وروى البيهقي في «الشعب» عن مالك قال: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالًا.

الرابع: التفسير بالمقتضى (من) معنى الكلام، [والمقتضى] من قوة الشرع، وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال:«اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» . والذي عناه علي -كرم الله وجهه- بقوله: «إلا فهمًا يؤتاه الرجل في القرآن» .

ص: 435

ومن هنا اختلف الصحابة في معنى الآية، فأخذ كل برأيه على منتهى نظره. ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل، قال تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، وقال:{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة: 169]، وقال:{لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]. فأضاف البيان إليه. وقال صلى الله عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود [والترمذي والنسائي]، وقال:«من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» أخرجه أبو داود]).

وقال البيهقي في الحديث الأول: إن صح [فإنما أراد]-والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، وأما الذي يسنده برهان فالقول به جائز. وقال في «المدخل»: في هذا الحديث نظر، وإن صح فإنما أراد به -والله أعلم- فقد [أخطأ] الطريق، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة، وفي معرفة ناسخه ومنسوخه، وسبب نزوله، وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله، وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانًا لكتاب الله، قال تعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44]. فما ورد بيانه عن صاحب الشرع، ففيه

ص: 436

كفاية عن فكرة من بعده، وما لم يرد عنه بيانه، ففيه حينئذٍ فكرة أهل العلم بعده؛ ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد. قال: وقد يكون المراد به: من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه، فيكون موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة.

وقال الماوردي: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبتها الشواهد [ولم يعارض شواهدها] نص صريح، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام [منه]، كما قال تعالى:{لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83]، ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط، ولما فهم الأكثرون من كتاب الله شيئًا، وإن صح الحديث فتأويله: أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق، وإصابته اتفاق؛ إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له.

وفي الحديث: «القرآن ذلول ذو أوجه فاحملوه على أحسن وجوهه» أخرجه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس، فقوله:«ذلول» يحتمل معنيين: أحدهما: أنه مطيع لحامله تنطق به ألسنتهم.

والثاني: أنه موضح لمعانيه حتى لا يقصر عنه أفهام المجتهدين.

وقوله: «ذو أوجه» يحتمل معنيين: أحدهما: أن من ألفاظه ما يحتمل وجوهًا من التأويل.

ثانيهما: أنه قد جمع وجوهًا من الأوامر، والنواهي، والترغيب، والترهيب، والتحليل، والتحريم.

وقوله: «فاحملوه على أحسن وجوهه» ، [يحتمل] على معنيين:

ص: 437

أحدهما: الحمل على أحسن معانيه.

والثاني: أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص والعفو دون الانتقام. وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى. انتهى.

وقال أبو الليت: النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه، لا إلى جميعه كما قال تعالى:{فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه} ؛ لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق؛ فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة. فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وأسباب النزول، أن يفسره. وأما من لم يعرف وجوه اللغة، فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع؛ فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على وجه التفسير. ولو انه يعلم التفسير وأراد أن يستخرج من الآية حكمًا ودليلًا فلا بأس به. ولو قال: المراد [من الآية] كذا من غير أن يسمع فيه شيئًا فلا يحل، وهو الذي نهي عنه.

وقال ابن الأنباري في الحديث الأول: حمل بعض أهل العلم على أن

ص: 438

الرأي يعني به الهوى، فمن قال في القرآن قولًا يوافق هواه ولم يأخذه عن أئمة السلف وأصاب فقد أخطأ؛ لحكم على القرآن بما لا يعرف أصله، ولا قف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه. وقال في الحديث الثاني: له معنيان: أحدهما: من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله.

والثاني: وهو الأصح. من قال في القرآن قولًا يعلم أن الحق غيره، فليتبوأ مقعده من النار.

وقال البغوي والكواشي وغيرهما: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط وغير محظور على العلماء بالتفسير، كقوله تعالى:{انفروا خفافًا وثقالًا} [التوبة: 41] قيل: شبابًا وشيوخًا. وقيل: أغنياء وفقراء. وقيل: عزابًا ومتأهلين. وقيل: نشاطًا وغير نشاط. وقيل أصحاء ومرضى، وكل ذلك سائغ والآية تحتمله.

وأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور؛ لأنه تأويل الجاهلين، مثل تأويل الروافض قوله تعالى:{مرج البحرين يلتقيان (19)} [الرحمن: 19] أنهما علي وفاطمة، {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22)} [الرحمن: 22]؛ يعني الحسن والحسين.

وقال بعضهم: اختلف الناس في تفسير القرآن، هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟

ص: 439

فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى [في] تفسير شيء من القرآن، إن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعًا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علمًا.

أحدها: اللغة؛ لأن ها يعرف (شرح) مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع.

قال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب. وتقدم قول مالك في ذلك. ولا يكفي في حقه معرفة اليسير منها، فيكون اللفظ مشتركًا، وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر.

الثاني: النحو؛ لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب [لا بد من اعتباره].

وأخرج أبو عبيد عن الحسن، أنه سئل عهن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته. فقال الحسن: فتعلمها؛ فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك [فيها].

الثالث: التصريف؛ لأن به يعرف الأبنية والصيغ. قال ابن فارس ومن

ص: 440

فاته علمه، فاته [المعظم]؛ لأن «وجد» مثلًا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها.

وقال الزمخشري: من بدع التفاسير قول من قال: إن الإمام في قوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71] جمع «أم» ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، قال: وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف؛ فإن «أما» لا تجمع على «إمام» .

الرابع: الاشتقاق؛ لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو من المسح.

الخامس، والسادس، والسابع: المعاني والبيان والبديع؛ لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادة المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهذه العلوم الثلاثة في علوم البلاغة؛ وهي من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا يد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك بهذه [العلوم].

قال السكاكي: اعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا التمرن في علمي المعاني والبيان.

وقال ابن أبي الحديد: اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق

ص: 441

[والأرشق] من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدليل عليه، وهو بمنزلة جاريتين [إحداهما] بيضاء مشربة بحمرة، دقيقة الشفتين، نقية الثغر، كحلاء العينين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة. والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها، ولا يدري سبب ذلك، ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة، ولا يمكن تعليله وهكذا الكلام. نعم يبقى الفرق بين الوصفين، أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدرك كل من له عين صحيحة، وأما الكلام فلا يدرك إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو، واللغة، والفقه يكون من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق [هم] الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفهم بالرسائل، والخطب، والكتابة، والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة؛ فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض.

وقال الزمخشري: [من] حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي [سليمًا] من القادح.

وقال غيره: معرفه هذه الصناعة بأوضاعها، هي عمدة التفسير المطلع على عجائب كلام الله، وهي قاعدة الفصاحة، وواسطة عقد البلاغة.

الثامن: علم القراءات؛ لأن به تعرف كيفية النطق بالقرآن. وبالقراءات ترجيح بعض الوجوه المحتملة على بعض.

ص: 442

التاسع: أصول الدين؛ لما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله.

فالأصولي يؤول [ذلك] ويستدل على ما يستحيل وما يجب وما يجوز.

العاشر: أصول الفقه؛ إذ به يعرف وجه [الاستدلال] على الأحكام والاستنباط.

الحادي عشر: أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول [يعرف به معنى الآية] المنزلة فيه بحسب ما أنزل فيه.

الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ لعليم المحكم من غيره.

الثالث عشر: الفقه.

الرابع عشر: الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم.

الخامس عشر: علم الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث:«من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» .

قال ابن أبي الدنيا: وعلوم القرآن، وما يستنبط منه [بحر لا ساحل له]، قال فهذه العلوم -التي كالآلة للمفسر- لا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها كان مفسرًا بالرأي المنهي عنه، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرًا بالرأي المنهي عنه.

قال: والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع [لا] بالاكتساب، واستفادوا العلوم الأخرى من النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 443

قلت: ولعلك تستشكل علم الموهبة، وتقول: هذا [شيء] ليس في قدرة الإنسان [تحصيله][وليس كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله] ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد.

[وقال في البرهان: اعلم] أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى، أو حب الدنيا، أو هو مصر على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف [التحقيق]، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها [حجب وموانع] بعضها آكد من بعض.

قال الإمام السيوطي: قلت: وفي هذا المعنى قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} [الأعراف: 146].

قال سفيان بن عيينة يقول: أنزع عنهم فهم القرآن أخرجه ابن أبي حاتم.

وقد أخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. ثم رواه مرفوعًا بسند ضعيف بلفظ: «أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال

ص: 444

وحرام، لا يعذر أحد بجهالته، [وتفسير تفسره العرب]، وتفسير يفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب».

قال الزركشي في «البرهان» في قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: هذا تقسيم صحيح؛ فأما الذي تعرفه العرب، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك اللغة والإعراب. فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها، ولا يلزم ذلك القارئ. ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم، كفى به خبر الواحد. والاثنين، والاستشهاد بالبيت والبيتين، وإن كان يوجب العلم لم يكف ذلك، بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ، وتكثر شواهده من الشعر.

وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلًا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه؛ لوصول المفسر إلى معرفة الحكم، ويسلم القارئ اللحن، وإن لم يكن محيلًا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن، ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه.

وأما ما لا يعذر أحد بجهله، فهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من

ص: 445

النصوص المتضمنة شرائع الأحكام، ودلائل التوحيد. وكل لفظ أفاد معنى واحدًا جليًّا يعلم أنه مراد الله، فهذا القسم [لا يلتبس] تأويله؛ إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى:{فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] وأنه لا شريك له في الإلهية، وإن لم يعلم أن «لا» موضوعة في اللغة للنفي و «إلا» للإثبات، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى:{أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] ونحوها من الأوامر، طلب إيجاد المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة «افعل» للوجوب، فما كان من هذا القسم لا يعذر أحد [يدعي] الجهل بمعاني ألفاظه؛ لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة.

وأما ما لا يعلمه إلا الله، فهو ما يجري مجرى الغيوب، نحو الآي المتضمنة لقيام الساعة، وتفسير الروح، والحروف المقطعة، وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن أو الحديث أو إجماع الأمة على تأويله.

وأما ما يعلمه العلماء، ويرجع إلى اجتهادهم، فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وذلك استنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم، وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا، فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، فإن كان أحد المعنيين

ص: 446

أظهر وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي. وإن استويا -والاستعمال فيها حقيقة؛ لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية- فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية كما في قوله تعالى:{وصل عليهم إن صلواتك سكنٌ لهم} [التوبة: 103]، [ولو كان في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى وإن اتفقا في ذلك أيضًا]، وإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو كراد الله تعالى حقه، وإن لم يظهر له شيء فهل يخبر في الحمل على أيهما شاء، أو يأخذ بالأغلظ حكمًا أو بالأخف أقوالًا. وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة، إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما إذا عرف ذلك فينزل حديث:«من تكلم في القرآن برأيه» على قسمين من هذه الأربعة.

ص: 447

أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.

والثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع (من العلوم، والتبحر) في العربية واللغة، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي والخبر، والمجمل والمبين، والعموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والحقيقة والمجاز، والصريح والكناية.

ومن الفروع ما يدرك به الاستنباط، و [الاستدلال] على هذا أقل ما يحتاج إليه، ومع ذلك فهو على خطر، فعليه أن يقول يحتمل كذا، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به، فأدى اجتهاده إليه، [فيجزم مع تجويز خلافه]. انتهى.

وقال ابن النقيب جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال: أحدها: التفسير من غير حصول [العلوم] التي يجوز معها التفسير.

[الثاني: تفسير] المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلًا، والتفسير تابعًا [له]، فيرد إليه بأي طريق أمكن، وإن كان ضعيفًا.

الرابع: التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل.

الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.

ص: 448

ثم قال: واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام: الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدًا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته، (ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته، وتفاصيل علوم) غيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعًا.

الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز فيه إلا له صلى الله عليه وسلم أو لمن أذن له.

قال: وأوائل السور من هذا القسم. وقيل: من القسم الأول.

الثالث: علوم علمها الله -جل شأنه- نبيه بما أودع كتابه من المعاني الجليلة والخفية وأمره بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين.

منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وهو أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات واللغات، وقصص الأمم الماضية، وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأمور الحشر والمعاد.

ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من ألفاظ، وهو قسمان: قسم: اختلفوا في جوازه وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات.

وقسم: اتفقوا عليه وهو استنباط الأحكام الأصلية، والفرعية، والإعرابية؛ لأن معناها على الأقيسة، وكذلك فنون البلاغة، وضروب المواعظ، والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه، واستخراجها [لمن له أهلية ذلك] انتهى ملخصًا.

وقال أبو حيان: ذهب بعض من عاصرناه إلى أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد إلى مجاهد، وطاوس، وعكرمة،

ص: 449

وأضرابهم، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك، قال: وليس كذلك.

وقال الزركشي بعد حكاية ذلك: الحق أن علم التفسير، منه ما يتوقف على النقل، كسبب النزول، والنسخ، [وتعيين المبهم]، وتبيين المجمل.

ومنه ما لا يتوقف، ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر. قال: وكأن السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط، ليحمل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط.

قال: واعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد، والأول إما أن يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، أو رؤوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان -فلا شك [في اعتمادهم]-[أو بما شاهدوه] من الأسباب والقرائن فلا شك فيه، وحينئذٍ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة، فإن أمكن الجمع فلذلك، وإن تعذر قدم ابن عباس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال:«اللهم علمه التأويل» .

وقد رجح الشافعي -رحمه الله تعالى- قول زيد في الفرائض لحديث:

ص: 450