الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 من أخلاق الدعاة إلى الله
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(من أخلاق الدعاة إلى الله)
1 -
مِن صفاتِ الدّعاة
التعريف ببعض الكلمات التي لها صِلة بالدّعوة إلى الله على بصيرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومَن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين. أما بعد:
الدّعوة إلى الله على بصيرة.
ومِن الصّفات التي ينبغي أن يتحلّى بها الدّعاة إلى الله، وأن تكون مِن مُقوِّمات شخصيّتهم هي: الدّعوة إلى الله على بصيرة.
فإنّ من خصائص دعوة الإسلام: أنّ عقائده وتشريعاته جليّة واضحة وضوح الشمس في الأفق، نقيّة بيضاء كنقاء اللّبن، صافية كصفاء السماء، ليس في عقائده لَبس يُحيِّر العقول، ولا طلاسم وألغاز تتيه بين ضبابها النفوس، ولا أمور غامضة يقِف القلب حيالها تائهاً حيراناً، كما هو الحال في الأديان والنِّحل والفلسفات الأخرى التي تُجبر أصحابَها على اعتناقها دون تبصّر وتدبّر. وحينما فشلوا في فهْمها، وعجزوا عن تعقُّل نصوصها، ركلوها جميعاً، وحصروها في الكنائس والبِيَع والأدْيرة، ومعابد الكهّان والرّهبان، وتركوها تلفظ أنفاسها في نسيان وصمت.
أمّا الإسلام العظيم، فآياته بيِّنات ودلائلُه واضحات، تدركه العقول لأوّل لحظة، وتطمئنّ له القلوب، وتنشرح له الصدور، بمجرّد سماع آياته أو التّعرّف على أحكامه؛ قال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ولم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرّفيق الأعلى إلاّ بعد أن بلّغ الإسلام وأبان الحجّة، ووضّح العقيدة وضوحاً جلياً، وطبّق الشريعة، وأقام الحدود، ودخل الناس في
دين الله أفواجاً، وترك صلى الله عليه وسلم أمّته على الحنيفيّة السمحاء والمحجّة البيضاء، ليْلُها كنهارها لا يَزيغ عنها إلاّ هالك.
ونزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} . وتُوِّج القرآن الكريم بآخر سورة نزلت، وهي سورة (النصر)، قال تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
وما تمّ ذلك النّصر والفتح إلاّ لِكوْن الدّعوة إلى الله تُلامِس الفِطَر النّقيّة والعقول السليمة، من خلال الدلائل الواضحة التي لا يَسَع البشَرُ إزاء جلائها وظهورها سوى الدّخول في الإسلام مُختارِين طائعين؛ قال تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وفي هذه المحاضرة، سوف نوضّح الأساس والمنهج الذي مِن خلالِه انتشر الإسلام، وارتفع لواؤه في العالَمين، ونضع هذا المنهج أمام الدّارسين والدّعاة، والذي جاء في قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وسوف تتضمّن هذه المحاضرة العناصر التالية:
العنصر الأول: التّعريف ببعض الكلمات التي لها صلة بالدعوة إلى الله على بصيرة، لكي نتعرف على أسس ومقوّمات الدّعوة على بصيرة واضحة وأدلّة ناصعة، كما جاءت في القرآن الكريم. ينبغي علينا أن نرجع لمصادر اللغة العربية نسترشد بها في تفهّم معاني الكلمات الآتية:
1 -
البصر والبصيرة.
"البصر": حسّ العيْن وحركتها للرؤية، وتُجمع على: أبصار؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
والبَصر من القلب: نظَره وخاطِره؛ قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، وقال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .
و"البصيرة": عقيدة القلب، والفِطنة، والحجّة، وتُجمع على: بصائر؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} .
يقول ابن كثير رحمه الله: "البصائر: هي البيِّنات والحُجج التي اشتمل عليها القرآن الكريم وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم".
هذه البصائر التي تتجلّى في الأنْفُس والآفاق، أو من خلال آيات القرآن الكريم وهدْي الرسول صلى الله عليه وسلم، تُحقِّق الهداية والرحمة لأولئك النّفر من البشَر الذين وصَفَهم الله تبارك وتعالى في قوله:{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، أي: عبرةً وعظةً. وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} .
والمنيب: هو العبد الخاضع، الخائف الوَجِل، الرّجّاع إلى الله عز وجل.
فقد بيّنتْ هذه الآيات مَن هُم الذين يُدركون تلك البصائر التي تَنطق بالأدلّة على دلائل القدرة، وآيات العظمة التي تستوجب الإيمان بوجود الله، وتفرّده بالوحدانية، واستحقاقه للعبوديّة الخالصة. إنها صفات: الإيمان، والتّذكّر، واليقين، والرجوع إلى الله.
مَن اتّصف بتلك الصفات، تتجلّى له الحقيقة بيضاء ناصعة، ولامس الإسلام شِغاف قلبه، وتعمّق في وجدانه ومشاعره.
2 -
البرهان: هو الدليل القاطع للعُذر، والحُجّة المزيلة للشُّبْهة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .
ولقد طلب القرآن الكريم من المستكبِرين والمعانِدين أن يُقدِّموا البراهين والأدلّة على صدْق مَزاعِمهم الفاسدة وعلى صحّة معتقداتهم الباطلة، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ومن ذلك: ما اعتقده اليهود والنصارى من اقتصار الجنّة عليهم، وزعْمهم الباطل ألّنْ يدخُلَها غيرُهم، فطالَبهم الله بالبرهان والدليل؛ قال تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وقال تعالى عن عُبّاد الأصنام والمُتّخِذين من دون الله آلهة، بدون برهان أو دليل:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
3 -
الحُجّة -بالضّم-: البرهان، والمِحْجاج: الجَدِل، والتّحاجّ: التّخاصم. وتُجمع على: حُجَج، وهي: أن يَطلب كلّ واحد أنْ يرُدّ الآخَر عن حُجّته ومحجّته.
قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
يقول الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: فلله الحُجة البالغة، أي: الحِكمة التّامّة، والحجة البالغة في هداية من هَدى، وإضلال من ضلّ.
ومن ذلك: قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، حينما جادله وفْد نصارى نجران في حقيقة سيدنا عيسى عليه السلام:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} .
وقد بيّن القرآن الكريم: أنّ كثيراً من الناس حُججُهم داحضة وأدلّتُهم كاذبة؛ وهذه ظاهرة متواجدة في كل زمان ومكان، كما يشاهِده العالَم الإسلامي من حُجج الغرب الباطلة وأدلّته الكاذبة، على العدوان على العالَم الإسلامي، واختلاق الأسباب للهيمنة بأعذار ودوافع واهية، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
4 -
البيِّنة:
"البيان": بان بياناً: اتّضح فهو: بَيِّن. وبِنْتُه -بالكسر-، وتبيّنْتُه، وأبَنْتُه، واستبَنْتُه: أوضحْتُه وعرَفْته.
فالبيان: الإفصاح عن ذكاء، والبيِّن: الفصيح؛ ولذلك كانت نِعمة البيان من أعظم النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان؛ قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
وهو وسيلة الرّسل لتبليغ دعوة الله، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
والقرآن الكريم تنزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربيٍّ فصيح مُبين، أي: ظاهر واضح مُحكَم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
ولقد أخذ الله العهد والميثاق على أهل الكتاب على تبيين الناس الحق، غير أنهم خانوا العهد، وامتنعوا عن البيان، وحرّفوا أديانهم، ونبذوا كتبهم؛ قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} .
والبيان في الدعوة الإسلامية مرتبط بالحِكمة ارتباطاً وثيقاً، وكذلك في دعوات الأنبياء جميعاً؛ وقد تحدث القرآن عن عيسى عليه السلام قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
والقرآن الكريم يضُمّ بين سُوَره سورةً قصيرة، عددُ آياتها ثماني آيات، تتحدّث عن البيِّنة والأدلّة والبراهين التي جاء بها القرآن الكريم، وتلاها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صُحفٍ مطهّرة.
وبيّنتِ السّورة موقفَ كلّ من المسلمين والكافرين مِن البيِّنات التي جلَاّها وأظهرها القرآن الكريم، وأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد طال الحديث عن البيِّنات باعتبارها أحد معالم الدّعوة إلى الله، والمنهج الحقيقيّ الذي ينبغي أن يَسلكه الدّعاة في دعْوتهم.
5 -
الدليل:
هو الذي يدلّ الناس على الشيء، خيراً كان أو شراً، ويتتبّعون خُطاه، ويَقتفون أثَرَه، ويثِقون فيه، لِخبْرته ومهارته؛ فهو: المُرشد الأمين. ومن ذلك: ما حكى القرآن عن أخت موسى، حينما دلّت فرعونَ وزوجَه على مُرضعة لموسى، ولم تكن سوى أمّه، قال تعالى:{فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} .