الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيسقط مُدّعو الفكر السقيم، دعاة العلمانية والإلحاد، كأوراق الخريف الجافّة التي يُطوِّح بها الهواء، وتدوسها الأقدام، قال تعالى:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} .
مراتب الصِّدق
إن لفضيلة الصّدق درجات ومراتب عدّة، كلّها تتضافر وتتعاون على إظهار الحقيقة ساطعة، وعلى إعلان الحق واضحاً، ومَن اتّصف بهذه المراتب كلها فهو:"صِدِّيق"، وهي صيغة مبالغة لكلمة "صَديق". وهي تطلق على الصّديق المُخلص غاية الإخلاص، شديد الحب والوفاء لِمن يُصادقه.
ولقد اتّصف بها الأنبياء والمرسلون جميعاً، وقد ذكر القرآن الكريم منهم: إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} ، ويوسف عليه السلام حينما وصَفَه الملِك، قال تعالى:{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} .
وتحدّث القرآن عن إدريس، قال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} .
ووصف الله مريم عليها السلام في قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} .
وتشرّف بهذا اللقب أتباع الأنبياء والمرسلين الذين كانوا صادقين مصدِّقين لهم، وكذلك الشهداء في سبيل الله الذي صدَقت نيّتهم لله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
وقد نال هذا اللقب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- لإخلاصه في الصّدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ضمّ القرآن الكريم من يطيع الله ورسوله مع صفوة الخلْق وخيرة البشر، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} .
هؤلاء الذين ذكَرهم القرآن الكريم، وأثنى الله عليهم الثناء الحسن الجميل، وأجزل لهم العطاء الكثير، لم يصِلوا إلى هذه المكانة العالية والمنزلة الرفيعة، إلاّ بعد أن تحقّقت فيهم مراتب الصِّدق التالية:
المرتبة الأولى: صِدْق النِّيّة والإخلاص فيها:
"النِّيّة" لغة: القصْد، يقال: نوى الشيء يَنْويه نِيّة: قَصَده؛ فالنِّيّة هي: الوجه الذي يُذهب فيه.
وهي أصل عظيم من أصول الإسلام، وعلى مدار صدْقها والإخلاص فيها يكون الثواب والعقاب.
وهي أمرٌ مستورٌ خفيّ لا يعلَمه إلاّ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} .
وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
هذه الآيات وغيرها تؤكِّد في وضوح وجلاء على: أنّ الله -جلّتْ قدرته- يعْلَم حقيقة الإنسان، ويطّلع على ما توسوس به نفسه، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} .
فصِحّة الأعمال وقبولُها أو عدم قبولِها مُتوقِّف على صدْق النّية والإخلاص فيها، قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .
وعن تعلّق الأعمال وصدْق التّوجّه بالنّية، روي عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّما الأعمال بالنِّيّات، وإنّما لِكلّ امرئٍ ما نوى. فمن كانت هجْرته إلى الله ورسولِه، فهجْرتُه إلى الله ورسوله. ومَن كانت هجْرتُه لِدنْيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجْرتُه إلى ما هاجر إليه))، متفق عليه.
فالأعمال تتحدّد قيمتُها بقيمة النِّيّات الباعثة عليها، أمّا مظاهر الأعمال المادِّيّة، فلا قيمة لها دون صدْق النّية.
وقد وضّح المرحوم الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه القيِّم "الأخلاق" ما يتعلّق بالنية الباعثة على الأعمال"، واستخلص النتائج التالية:
1 -
إنّ الأعمال لا يُنظر إليها عند الله إلاّ من خِلال النِّيّات الباعثة عليها، وبِحَسب النّية يجري الحساب والجزاء على الأعمال عند الله تبارك وتعالى.
2 -
إذا كانت النّياتُ مُخالفةً لظواهر الأعمال، أُلغِيَت الأعمال، وجرى الحساب والجزاء على النِّيّات فقط، كأعمال المنافقين والمُرائين.
3 -
إذا وُجِدت النِّيات الجازمات، ولم يقف دون تنفيذ الأعمال إلاّ عقبات أو أعذارٌ خارجة عن إرادة الإنسان، فإنّ مناط المسؤولية حينئذٍ هو النّيات وحْدها، ويجري الحساب عليها كما لو تمّ تنفيذ الأعمال التي تقتضيها. والدليل على ذلك: ما رواه الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مَرِض العبْد أو سافَر، كُتب له بمِثْل ما كان يعمل مُقيماً صحيحاً)).
وروى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال:((وإنّ بالمدينة لَرجالاً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعْتُم وادياً إلاّ كانوا معكم، حَبَسَهم المرض))، وفي رواية ((إلاّ شركوكم في الأجْر)).
4 -
إذا وُجدت النّيات الجازمات، ولكن لم يتمّ التنفيذ للأعمال التي تقتضيها بسبب يرجع إلى الإنسان نفسه، فإن سيّئاتها لا تُكتب عليه، ويتجاوز الله عنها. فإذا كان ذلك خوفاً من الله وابتغاء مرضاته، فإن الله يكتب له بذلك حسنة. وأمّا حسناتها فتُكتب له في صحيفة على مقدارها دون مضاعفة بخلاف ما لو فعَلها؛ فإنها تُضاعف له أضعافاً، فضلاً من الله وكرَماً.
5 -
الخواطر والوساوس معفوٌ عنها، ولا تدخل في حدود العمل المراد ما لم تصِلْ إلى مستوى النّيّة المقترنة بالإرادة الجازمة. ولكن قد يُثاب الإنسان على خواطر الخير إذا كانت ثمرة توجّهه وإرادته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمّتي ما وسوسَتْ به صدورُها، ما لم تَعملْ به أو تَتَكلّم))، رواه الشيخان.
6 -
الهمّ بالعمل إذا كان هماً بفعْل حسَنة فالله يُثيب عليه من غير مضاعفة، إذا لم يتمّ تنفيذه، ومع المضاعفة الكثيرة إذا تمّ تنفيذه. وإذا كان هم
اً بفعْل سيِّئةٍ فلَه حُكم الوساوس والخواطر المعفوّ عنها؛ فإن الله يتجاوز عنه ولا يُسجِّله على صاحبه، فضلاً وكرماً. والدليل على ذلك: ما روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: إذا همّ عبْدي بحسَنة ولم يعملْها، كتبْتُها له حسَنة؛ فإنْ عمِلها، كتبتُها له عشْرَ حسَنات إلى سبعمائة ضِعف. وإذا همّ بسيِّئة فلم يعملْها، لم أكتب عليه؛ فإنْ عمِلها كتبْتُها سيِّئةً واحدة)).
وهكذا يبدو من تلك النصوص مدى الأهمِّيّة المترتِّبة على صدْق الّنية؛ إذ إن العمل الإنساني قبل أن يبرز إلى الوجود ويدخل حيّز التنفيذ يَمرّ بالمراحل التالية:
1 -
توجّه النفس إلى العمل خيراً أو شراً.
2 -
الرغبة في القيام به.
3 -
الهمّ بالتنفيذ والتخطيط له.
4 -
الإرادة الجازمة التي تدفع إلى التنفيذ.
5 -
العقل الذي يقوم بالإعداد إلى كيفيّة التنفيذ والإعداد له.
6 -
العزم والذي من خلاله يُقدم الإنسان على ما عزم عليه خيراً أو شراً.
هذه الخطوات وتسلْسُلها وتتابعها على النحو المذكور، جاءت في قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز.
وقد أشار إلى مراحل النّية ووجوب الصّدق فيها: الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين"(4/ 410)، حيث قال عن مراحل النِّيّة:
الصّدق في النّية، ثم الإرادة، ثم الصّدق في العزم، ثم الصّدق في الوفاء بالعزم.
المرتبة الثانية: صدْق اللّسان:
إنّ نعمة البيان من أعظم النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
فاللّسان هو المعبِّر عمّا يجيش به الفؤاد، والنّاطق بما يجول في القلب والفكر والوجدان. وبمَنطِقِه يتمّ التفاهم بين بني الإنسان، والتعارفُ بين الأمم والأوطان. وهو أداة لنقل العلوم والمعارف. وهو أساس البلاغة ومن أمارات الفصاحة، به تُستمال القلوب، وتنقاد الأمم والشعوب. وهو وسيلة الرّسُل في الدّعوة إلى الله، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
فموسى عليه السلام حينما أمَره الله بالذهاب إلى فرعون، دعا الله سبحانه أن يفكّ عقدة لسانه، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} .
وقد طلَب الاستعانة بأخيه هارون، لفصاحة لِسانه وملَكة بيانِه، قال تعالى:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} .
والقرآن الكريم تنزّل على خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربيّ مُبين، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
فطلاقة اللّسان بالصّدق، وحُسْن المنطق بالحق، وسلامة التعبير بإظهار الحقيقة، هي دعائم الدّاعي إلى الله؛ فإنّ التأثير في جمهور المسلمين، واستمالتهم
وإقناعهم واحتواءهم، لن يبلغ أثَره في القلوب والنفوس مهما أوتي الإنسان من البلاغة وتصنّع تزويق الكلام وتحسينه، إلا إذا ارتبط بقول الحق ونُطْق الحقّ.
وحينما يتوافق صِدْق النّية مع صدْق اللسان، وتتّحد مشاعر القلب وأفكار العقل مع طلاقة اللسان، ببيان أحكام الشرع وآدابه، وبيان الأشياء على حقيقتها، وتقديم النّصح دون خوف أو وجل، وإبداء الشجاعة في الحديث دون مجاملة على حساب الدِّين، وبلا مُزايدة على مصالح الأمّة، ومن غير نفاق ينال الدّاعي به رضى بشَر، ولا رياء يَنفُذ مِن خلاله لمَنصب أو جاه، فإنّ القلوب تطمئنّ لِحديثه، والنفوس تنشرح بكلامه، والأفئدة والعقول تنقاد لتوجيهه وإرشاده.
ولأهمِّيّة صدْق اللسان، كان دعاء إبراهيم عليه السلام، كما جاء في قوله تعالى:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} .
ولقد استجاب الله دعاءه، بعد صِدق القول في النصيحة لأبيه وقومه، وأعلن اعتزاله لهم، وبُعدهِ عن مواطن أصنامهم، فوهبه الله أبناء وأحفاداً أصحاب ألْسنةٍ صادقة، قال تعالى:{قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَاّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} .
وقد وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم أنه كتاب صدْق بلسان عربيّ، قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} .
وقد أفصح القرآن الكريم عن خطورة ما يقوم به أهل الكتاب بالكذب على الله، وتحريف الكلِم عن مواضعه، لتحريم حلال أو تحليل حرام، مُمالأة لِحاكم أو
طمعاً في متاع الدّنيا من مالٍ وجاه، قال تعالى:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
ويلحق بهؤلاء نفَر من بعض أبناء المسلمين الذين يتطوّعون لإصدار الفتاوى التي تتناقض وأصول العقيدة، وتتعارض مع ثوابت الشريعة، ويلتقطون الأدلّة الواهية والآراء الضعيفة التي تساند ما يدعون إليه من إفْك وبهتان، قال تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وإنّ أخطر شيء على الأمّة: أن يستشرى الكذبُ وينتشر النفاق فيها، وأن يكون هناك انفصامٌ وانفصالٌ بين ما يُكنّه القلب وما تُضمره النفس، وبين ما تلوي به الألسنة من كذب، وما تلوكه الأفواه من كلام عارٍ عن الصّدق بعيد عن الحقيقة؛ قال تعالى كاشفاً طوايا نفوس المتخلِّفين عن الجهاد بلا عذر:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
ولأهمّية صدْق اللسان، والتحذير من التّحدّث بالكذب، تتابعت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تُحذِّر من فلتات اللسان، وتُنذر من خطورته على الدِّين والفرد والمجتمع، وتوجب على كلّ إنسانٍ أن يصون لسانه عن جميع الكلام إلاّ ما كان فيه المصلحة.
يقول الإمام النووي رحمه الله: "ومتى استوى الكلام وتَرْكه في المصلحة، فالسُّنّة الإمساك عنه، لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة بين الناس. والسلامة لا يَعْدلها شيء".
ومن الأحاديث التي تُلزم اللّسان بالصّدق، وتكفّه عن التّحدّث بغير حق: ما يلي:
1 -
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخِر، فلْيقُلْ خيراً أو لِيَصْمتْ!))، متفق عليه.
2 -
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، أيُّ المسلمين أفضل؟ قال:((مَن سلِم المسلمون مِن لَسانه ويدِه))، متفق عليه.
3 -
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ العبْدَ لَيتكلّم بالكلمة مِن رضوان الله ما يُلقي لها بالاً، يرفعُه الله بها درجات. وإنّ العبْد لَيتكلّم بالكلمة مِن سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالاً، يَهوي بها في جهنّم))، متفق عليه.
4 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا أصبح ابن آدم، فإنّ الأعضاء كلّها تُكفّر اللِّسان تقول: اتّقِ الله فينا! فإنما نحن بك؛ فإن استقمْتَ استقمْنا، وإن اعوجَجْت اعوجَجْنا))، رواه الترمذي.
ومعنى تكفِّر اللسان: أي تذلّ وتخضع له.
والأحاديث في الأمر بصدْق اللّسان والنّهي عن الكذب كثيرة، فلْيُرْجَع إليها. وللإمام أبي حامد في كتابه "الإحياء" كلام طيّب ومفيد عن آفات اللسان، فليُرجَع إليه.
ممّا سبق، يتبيّن لنا في هذه المحاضرة أهمّيّة صدْق الحديث وقول الحقّ في ميدان الدّعوة إلى الله، وأنه يجب على الدّاعية:
أن يتحلّى بفضيلة الصِّدْق،
وأن يتّصف بالشجاعة في إعلان الحقّ، وأن يتسلح بالإيمان بالله والتّوكّل والاعتماد عليه في منازلة الباطل وحزبه، قال تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ،