الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من دعائم وأسس دعوة الرسل
.
2 -
الأسس التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله
من دعائم وأسس دعوة الرُّسل
الحمد لله، الَّذي أرسل رسوله بالهُدى ودين الحقِّ، لِيُظهرَه على الدِّين كلِّه، ولو كره المشركون، والصَّلاة والسَّلام على الهادي البشير، والسِّراج المنير، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تمهيد:
لقد تناولنا في اللِّقاءات السَّابقة تعريفَ وتحديدَ مفهوم المنهج في اللُّغة والاصطلاح، ووضَّحنا الفرق بين المنهج والأسلوب، وذكرنا أنَّ منهج الدَّعوة إلى الله يقومُ على الحواسِّ والعقلِ والعاطفة، وهي أمورٌ أودع الله فيها من أسرار الخلق ودلائل الإعجاز ومشاهدِ القدرة، ما تخفى على كثير من خلقه، قال تعالى:
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].
وفي هذه المحاضرة، نبين القضايا والموضوعات التَّي قامت عليها دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، والتَّي هي في جوهرها وأسسها دعوات الأنبياء والمرسلين، من لدن آدمَ إلى بعثته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
والأنبياء المذكورون في هذه الآية، هم أولو العزم من الرُّسل، الَّذين أفاض القرآن الكريم في عرض دعواتهم، وتوضيح الأسس التَّي قامت عليها رسالتَّهم، وهي في نفس الوقت أصلُ وجوهرُ كلِّ الرسالتَّ، قال تعالى:
وسوف تتضمن هذه المحاضرةُ العناصر التَّالية:
1 -
الإيمان بوجود الله:
وهو الاعتقاد القلبيُّ الجازم، والتَّصديق العقليُّ القاطع، والإيمانُ اليقينيُّ الخالص، بوجوده سبحانه وتعالى وجوداً لا يعتريه شكٌّ أو تشوبُه شبهة أو ظنٌّ، وهو وجودٌ يليق بذاته تعالى، ومنزَّه عن التَّميُّز والتَّحيُّز في الزَّمان أو المكان.
والأدلَّة والشَّواهد على وجود الله كثيرةٌ، ومنها:
أ-الدَّليل الفطريُّ:
فوجود الله سبحانه وتعالى من الأمور البديهيَّة، التَّي يدركها الإنسان بفطرته، وتهتدي إليها العقولُ بما أودعه الله في مشاعر البشر ووجدانهم، ولهذا بُعث الأنبياء والمرسلون
لدعوة الخلق إلى التَّوحيد، ليقولوا:"لا إله إلا الله"، وما أُمروا أن يقولوا:"الله موجود"؛ فإنَّ هذا مجبولٌ في الفِطَر والعقول، ولذلك قال تعالى:
{وَلَئِنْ سَالتَّهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
فلا يكاد يخلو عقلُ وقلبُ مخلوقٍ من الاعتقاد بوجود إلهٍ خالقٍ لهذا الكون ومدبِّر لحركته، حتَّى أولئك الَّذين عبدوا الآلهة أو مظاهر الطَّبيعة، فإنَّ هذا من منطلقٍ فطريٍّ بوجود قوَّة قاهرة وخالقة لهذه الأنفس والآثار، وإنْ ضلَّت عقولهم فيما يعتقدون، حتَّى الملحدون الَّذين أنكروا الله وكفروا به، لم يسعْهُم إلا أن يقولوا بأنَّ المادة هي التَّي تكوَّن منها هذا العالم، فهي عندهم كلُّ شيٍء، منها يبدأ كلُّ شيء، وإليها ينتهي؛ فهي الفاعلة وهي الصَّادقة، وهي مصدر الوجود والحياة، وكذلك هي مصدر العدم والفناء، وقد عبَّر عن هؤلاء -في بيان عقيدتهم المادِّيَّة تلك، وإنكارهم الألوهيَّة "ماركس" مؤسِّس الشُّيوعيَّة، حينما قال قولته الخبيثة:"لا إله، والحياة مادَّة".
فقد أسند هؤلاء الملحدون للمادة، ما يجب أن يُسندوه لله؛ لأنَّهم لم يستطيعوا إنكارَ أنَّ لهذا الكون قوَّةً فاعلةً دائمةَ الوجود، وهم بذلك استجابوا لنداء الفطرة، غيرَ أنَّهم قد ضلَّت عقولُهم وطُمست بصائرهم عن معرفة الخالق َلهذا الكون، وهو الله سبحانه وتعالى.
فالإنسانيَّة، منذ أن خلق اللهُ آدم عليه السلام قد انطبع في عقلها وانغرس في أفئدتها ومشاعرها، الإحساسُ بوجود الخالق، وذلك من خلال العهد والميثاق الَّذي أخذه الله على البشر، وهم ما يزالون في عالم الرُّوح، بأنَّه الرَّبُّ الخالق، وأشهدهم على ذلك، قال تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} الأعراف:172 - 173].
وهذه هي الفطرة التَّي فطر الله الخلقَ عليها، قال تعالى:
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ مولودٍ يولد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانِه أو يمجِّسانِه))، وقد بَيَّن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، أنَّ الله قد خلق العباد على الفطرة النقيَّة، التَّي لو تُرِكت وشأنها؛ لآذنت بوجود الحق تبارك وتعالى.
ولقد جاء القرآن الكريم يصوِّر المشاعر الوجدانيَّة والأحاسيس الفطريَّة، التَّي تعبر عن الإيمان بوجود الخالق، ويَظهر هذا الإحساس الفطري، حينما يعتري الإنسان شدٌّةٌ أو تفاجئُه مُلمَّة، أو يُواجَه بسؤالٍ عن خالق الكون، والأدلَّة من القرآن الكريم عديدة وكثيرة، ومن ذلك قوله تعالى:
وقال تعالى:
وقد بيَّن القرآنُ الكريم أنَّ مشركي العرب، ما كانوا يُنكرون وجود الله؛ لأنَّ لديهم إحساساً فطريَّاً بهذا، يَظهرُ ذلك من خلال الأسئلة، التَّي كانت تُلقى
عليهم، والإجابة التَّي يُجيبون بها، ومن ذلك قوله تعالى:
لهذا، لم يلتفت القرآنُ الكريم إلى قضيَّة إثبات وجود الله، فهذا أمرٌ فطريٌّ لا يملك أيُّ عاقلٍ إنكارَه، وإنَّما ساق من الأدلَّة والشَّواهد ما تراه الحواسُّ وتدركه العقول وتلمسه القلوب، على وجوده المستمر الدائم، وقدرته سبحانه وتعالى قال تعالى:
ممَّا سبق من الأدلة القرآنيَّة، يتبين أنَّ أولى الأسس التَّي قامت عليها دعواتُ جميع الأنبياء والمرسلين، إعادةُ البشر إلى الفطرة التَّي تُشعرهم بوجود الله، وتُوقظ في عقولهم وقلوبهم مظاهرَ هذا الوجود، من خِلال لفت البصر والبصائر، إلى آيات الله في الأنفس والآفاق.
ب- الأدلةُ المبثوثة في الكون:
بجانب المشاعر الفطريَّة، في داخل كيان الإنسان، والتَّي تنطق بوجود الله، أقام سبحانه وتعالى الشواهد والأدلة على وجوده من خلال آياته في الكون، فقد خلق الله الكون بنظام فريد وتناسق عجيب، فأنّى قلّب الإنسان بصره في صفحات الكون، يرى صنعَ الله الَّذي أتقن كلَّ شيء، ويرى آياتِه في الأنفس والآفاق، تَشهد بوجوده وتنطق بقدرته سبحانه وتعالى، مما
يدفع بالنَّفس البشريَّة لتهتفَ من أعماقها، مردِّدة قول الله تعالى:
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11].
فهذا الكون بنظامه البديع، وإحكامه المتقن، وتناسُقه المبهر، لا يُمكن أن يتصوَّر العقلُ والفكرُ أنَّه وُجد بدون خالق، فالعدم لا يخلق شيئاً، فمن المستحيل عقلاً، أن يوجد فعلٌ بدون فاعل أو أثرٌ بدون مؤثر، فهذا الإبداع المعجز في الكون والتَّآلف والتَّزاوج بين جزئيَّاته، والتَّرتيب والتَّناسق بين عناصره، والتَّعادل والتَّوازن الدقيق بين ذرَّاته، كلُّ هذا محكومٌ بقوانين إلهيَّة منضبطة ومحكمة، وسننٍ إلهيَّة لا تتخلَّف، ولا يتصوَّر عاقل أن ذلك الخلق والإبداع والتَّدبير قد تم عن طريق الصدفة العشوائيَّة، أو عن طريق مادة سابحة تنقسم جزئيَّاتُها، لتتولَّد منها الأشياء، كما يزعم الملحدون. فالمصادفة لا يُعقل أن يتولَّد عنها نظامٌ، إذن فلم يبق إلا أن يُذعِنَ الإنسان بعقله، ويستجيبَ لنداء الفطرة بوجود الخالق سبحانه وتعالى.
قال -جلَّ شأنه-:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36].
وإمعاناً في إقامة الأدلَّة، ومنعاً لكلِّ شبهة ومَظَنَّة، فقد احتوى القرآن الكريم على كثيرٍ من آيات الله في الأنفس والآفاق، فحينما يشاهدُ الإنسان صفحةَ الكون، ويرى آيات الله في أرجائه، فكأنَّه يقرأ القرآن الكريم، وحينما يقرأ القرآن الكريم ويتدبَّر في آياته؛ فكأنَّه يُبصر الكون أمامه، ويشاهد عن قربٍ حقائقه، فالكون والقرآن كلاهما يشهدان على وجود الله، وقد قيل:"القرآن كونُ الله المقروء، والكون قرآنُ الله المنظور".
وقد أدرك أعرابيٌّ بفطرته وجودَ الله، وعبَّر عن ذلك بما شاهده من حوله فقال:"البَعرةُ تدلُّ على البعير، وأثرُ الأقدامِ يدلُّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ؛ أفلا يدلُّ ذلك على اللَّطيف الخبير؟! ".
هذا هو الأساسُ الأول، من الأسس التَّي قامت عليها الدَّعوة إلى الله.
2 -
توحيد الله سبحانه وتعالى:
إنَّ الإيمان بوجود الله عز وجل يقتضي العلم والاعتراف والإقرار، بأنَّ الله إلهٌ واحد في ذاته، لا شريكَ له في صفاته وأفعاله، قال تعالى:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
فتوحيد الخالق سبحانه وتعالى هو القضيَّة الجوهريَّة، والرَّكيزة الأساسيَّة، لرسالتَّ الأنبياء جميعاً، قال تعالى:
وتوحيد الله يتحقَّق بأمرين:
الأمر الأول: نفيُ الألوهيَّة عن غير الله، وذلك بأن يعتقدَ العبدُ بأنَّه لا يستحق الألوهيَّة ولا شيئاً من العبوديَّة أحدٌ من الخلق، لا نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرب، ولا كائن من كان.
الأمر الثاني: إثبات الألوهيَّة لله تعالى، وتفرُّده بالوحدانيَّة واختصاصه بالعبوديَّة، وعدم مشاركة أحد في أسمائه وصفاته، ولقد ذكر القرآن الكريم الآيات الدالة على وحدانيته، وساق ذلك في استدلالٍ عقليٍّ ومنطقيٍّ مقنع بالحجة والبرهان، ومن ذلك:
أ- أخبر الحقُّ سبحانه وتعالى أنَّه لو وُجد شريكٌ معه في الألوهيَّة؛ لبطل نظامُ هذا الكون.
قال تعالى:
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:21 - 22].
وقال تعالى:
فقد تضمنت الآية ما يلي:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى لو اتخذ ولداً؛ لاستلزم ذلك انفصال الولد عن أبيه، مما يقتضي التَّركيب المحال على الله؛ لأنَّ الولد يجانس أباه ويماثله، والله تعالى لا نظيرَ ولا شبيه ولا مثيل ولا ندَّ ولا قرين له، قال تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
2 -
لا ينبغي لعاقل أن يتصوَّر أن يكون مع الله إلهٌ آخر؛ لأنَّه لو كان معه إله؛ لشاركه في الألوهيَّة، ولخلق معه، ولذهب كلُّ إلهٍ بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض وتصارعوا، مما يؤدي إلى فساد الكون واختلال نظامه قال تعالى:
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:42 - 43].
أقسام التَّوحيد:
جاء الأنبياء والمرسلون بعقيدة التَّوحيد، وهذه العقيدة كما ذكرنا هي جوهر رسالتَّهم، ومحور دعوتهم، قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وقد استنبط أئمَّة السلف من النُّصوص القرآنيَّة، التَّي تناولت مسائل العقيدة: أنَّ توحيد الله يَرِدُ على ثلاثة أنواع:
النَّوع الأول: توحيد الرُّبوبيَّة:
فالرَّبُّ في اللُّغة: المالك، المدبر، وربُّ كلِّ شيءٍ، مالكه ومستحقُّه أو صاحبه، والربوبيَّة مشتقة من الرب، ومعناه السيد والمالك والمربي.
ومعنى توحيد الربوبيَّة هو: الإقرار بأنه سبحانه وتعالى هو خالق الخلق ومالكهم ومحييهم ومميتهم ومعطيهم ومانعهم، وله الخلق والأمر كلُّه، قال -سبحانه- عن نفسه:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
ويدخل في هذا التَّوحيد، الإيمانُ بقدر الله -سبحانه-، أي الإيمان بأنَّ كل محدَث هو صادرٌ عن علم الله عز وجل وعن إرادته وقدرته.
ولقد أفاض القرآن الكريم عن هذا النَّوع من التَّوحيد، ولم تخلُ سورةٌ من سوره منه، فآيات الذكر الحكيم تذكره في مقام الحمد لله، وعبادته والانقياد له والاستسلام، ففي مقام الحمد يتلو المسلم في كل ركعة يصليها:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
ويقول -سبحانه-:
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36].
وفي مقام الاستسلام لله، والانقياد له، قال عز وجل:
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
وفي مقام التَّوجُّه إلى الله عز وجل وإخلاصِ القصد إليه، قال -تعالى-:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
وفي مقام الدُّعاء، قال عز وجل:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:54 - 55].
وفي مقام العبادة، قال -تعالى-:
{وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22].
فالإنسانُ بتوحيد الرُّبوبيَّة يدرك عجزه أمام قوى الكون المختلفة، ولا يعلم تفسيراً لها، ولذلك سلَّم بوجود الخالق، وقد آمن العرب بوجود الرب الخالق، غير أنَّ هذا الإيمان غيرُ مُنجٍ لهم؛ لأنَّهم اتَّخذوا أصناماً آلهة، وقد ذكر القرآن الكريم أنَّ العرب كانوا يُقرُّون بوجود الخالق، قال تعالى:
وقد أنكر الله عليهم ما اتَّخذوه من آلهة، واستغربَ القرآنُ من ضلال عقولهم، فكيف يؤمنون بالخالق، وفي نفس الوقت يجعلون معه آلهةً أخرى، فقال -تعالى- بعدَ هذه الآيات مباشرةً-:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].
وهكذا، فإنه ليس مَن أقرَّ بأنَّ الله تعالى هو ربُّ كلِّ شيءٍ، يكون موحداً في ألوهيته وأسمائه وصفاته.
النَّوع الثَّاني: توحيد الألوهيَّة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الإله هو المعبود المطاع، فإنَّ الإله هو المألوه، والمألوه هو الَّذي يستحقُّ أن يعبد".
وقال العلامة ابن القيم: "الإلَّه هو الَّذي تألهه القلوب، محبةً وإجلالاً وإنابةً، وإكراماً وتعظيماً، وذلاً وخضوعاً، وخوفاً ورجاءً وتوكُّلاً".
فتوحيد الألوهيَّة، يقوم على نفي الألوهيَّة، عن كلِّ ما سوى الله -تعالى- كائناً من كان، ويقوم على إثبات الألوهيَّة لله وحده، دون كلِّ ما سواه.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وهذا التَّوحيد هو الفارق بين الموحِّدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثَّواب، في الأولى والآخرة، فمن لم يأتِ به كان من المشركين.
وتوحيد الألوهيَّة، هو الَّذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين، وتنزَّلت به الكتب، قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:26].
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحل:26].
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23].
وهكذا، كانت دعواتُ جميع الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم تقوم على توحيد الألوهيَّة، الَّذي يستوجب ما يلي:
1 -
وجوب إخلاص العبادة والمحبة لله، فلا يتَّخذٌ العبد ندَّاً لله في العبادة والحبِّ، قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقال تعالى:
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين * أَلا لِلَّهِ الدِّين الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3].
2 -
وجوب إفراد الله بالدُّعاء والتَّوكُّل والرَّجاء، فيما لا يقدر عليه ولا يتحقَّق إلا منه سبحانه وتعالى قال تعالى:
3 -
وجوب إفراد الله بالخوف منه، قال تعالى:
{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النَّحل:51].
وقال تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النُّور:52].
4 -
وجوبُ إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادات البدنيَّة والقوليَّة، فجميعُ أنواعات الطَّاعات يجبُ أن تتوجَّه لله وحده، قال تعالى:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
وإنَّ إشراك غير الله معه في العبادة أو الطَّاعة، هو شرك أكبر، وذنب لا يُغتفر، قال تعالى:
النَّوع الثَّالث: توحيد الأسماء والصفات:
ومعناه الاعتقاد الجازم بأنَّ الله عز وجل متَّصف بجميع صفات الكمال، ومنزَّه عن جميع صفات النَّقائص، وأنه متفرد عن جميع الكائنات، وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، من غير تحريف لألفاظها أو معانيها، ولا تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن الله عز وجل ولا تكييفها بتحديد كنهها، أو إثبات كيفيَّة معينة لها، ولا تشبيهها بصفات المخلوقين.
وواضحٌ من هذا أنَّ توحيد الأسماء والصفات، يقوم على ثلاثة أسس، مَن حاد عنها لم يكن موحداً بالله -سبحانه- في أسمائه وصفاته:
الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل عن مشابهة الخلق، وعن أيِّ نقص، قال تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وقوله تعالى:
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4].
وقوله تعالى:
{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النَّحل:74].
الأساس الثَّاني: الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة، فهي تُعرف عن طريق التَّلقِّي منها؛ فلا يوصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يُسمَّى إلا بما سمَّى الله به نفسه أو سمَّاه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الله عز وجل أعلم بنفسه وصفاته وأسمائه، قال تعالى:
{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140].
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يُوصفُ اللهُ إلا بما وصف به نفسَه، أو وصفه به رسولُه، لا يتجاوز القرآن والحديث".
الأساس الثَّالث: قطع الطمع عن إدراك كيفيَّة هذه الصفات، وقد أجمع السلف على ذلك، فقالوا ما قاله الإمام مالك:"الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ غيرُ معقول، والإِيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنهُ بدعة ".
مما سبق يتبيَّنُ أنَّ توحيد الأسماء والصِّفات، يقدحُ فيه عدَّةُ أمورٍ، يجب على المسلم أن لا يقع فيها، وهي:
أولاً: التَّشبيه -أي تشبيه الخالق بصفات المخلوقين، كتشبيه النَّصارى عيسى بن مريم بالله -سبحانه-.
ثانياً: التَّحريف، كتحريف ألفاظ الأسماء والصفات، بزيادةِ أو نقصِ أو تغييرِ الحركات الإعرابيَّة، كما يفعلُه بعضُ المتصوِّفة، بتقطيع لفظ الجلالة أو تحريفه عند الذِّكر، أو حمل اللَّفظ على معنىً فاسدٍ، لم يُعهد به استعمالٌ في اللُّغة العربيَّة.
ثالثاً: تعطيل بعض الصِّفات، أو إنكارُ قيامِها بذات الله عز وجل، وذلك بجحد أسمائه وصفاته، كتعطيل معاملة الله عز وجل بترك عبادة، وكتعطيل المصنوع من صانعه، كمن قال بقدم المخلوقات، وجحد أنَّ الله خلقها.
رابعاً: التَّكييف، وهو تعيينُ كيفيَّة الصِّفات وإثباتُ كنهها.
يقول الإمام الشَّوكاني رحمه الله: "إنَّ مذهب السلف من الصَّحابة والتَّابعين، هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريفٍ لها ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إلى التَّأويل".
ولقد حدَّد الرَّسول صلى الله عليه وسلم أسماءَ الله تعالى، فجاء في "الصَّحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً، مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنَّة، إنَّه وِِترٌ يُحبُّ الوِتر)).
أمَّا الصفات التَّي وردت في الكتاب والسنة، فهي نوعان:
الأولى: صفات ذاتيَّة، التَّي لا تنفك عن الذَّات، كالنَّفس والعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والوجه والكلام والقدم والملك والعظمة والعلو والغِنى والرحمة.
الثانية: صفات فعل، وهي ما يتعلق بمشيئة الله وقدرته، كالاستواء والنُّزول والمجيء والعجب والضَّحك والرِّضا والحبِّ والكره والسُّخط، والفرح والغضب والمكر والكيد والمقت.