الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شروط إصدار الفَتوى وآداب المُفتي والمُسْتفتي
وقد وَضع الفقهاء شُروط المُفتي، وهو: الشَّخص الذي يَتولّى الإفتاء.
والشروط التي يَجب أن تَتوافر فيه هي:
الشرط الأوّل:
الإسلام: وهذا شرْط جَوهريّ وأساسيّ ومَنطقيّ؛ فإن غير المسلم، أياً كان عِلْمه، فلا يُؤتمَن على الإسلام. ويَتحقّق الإسلام بالإقرار بأركان الإسلام والإيمان، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، وأن لا يَقوم مَن يَطلب الإفتاء بأعمال تُخلّ بالإسلام، أو تُنقص من المُروءة، وأن لا يُشتَهر عَنه أنه من أرباب البِدع والخُرافات، أو ممَّن يُشاع عن فِكره: الزَّندقة، والعلمانية، والإلحاد.
الشرط الثاني:
البُلوغ والعَقل: يَجب أن يَكون المُتصدِي لرسالة الإفتاء ذا عَقل ناضِج، وفِكر ثاقِب، ورأي حَصيف، يَستطيع من خِلاله أن يَجمع الأدلّة، ويُرجّح بين الآراء، ويستنبط الأحكام؛ ولذلك كان مِن شرط التكليف: أن يكون المسلم بالغاً عاقلاً، ولا يكفي أحدُهما بدون الآخَر. وما عُلم عن أحد جلَس للإفتاء قبل البلوغ. قد يروى الحديث وهو دون البلوغ، لأن هذا يعتمد على الحفظ وقوّة الذاكرة، كمن يجيد حفْظ القرآن وهو دون العاشرة، أمّا الإفتاء، فيقوم على الفهم الدقيق، وإدراك معاني الشريعة، والوقوف على حِكمها.
الشرط الثالث:
العدالة: وهي هيئة يكون عليها المسلم، ومِن لوازمها:
- فعْل ما أمَر به الشارع الحكيم، وترْك ما نهى عنه، واجتناب ما يُخلّ بالمروءة ويوقع الظنون والشكوك به.
- وأن تكون أخلاقُه وسلوكه صورةً لما عليه علماء الإسلام؛ فلا يُشتهر عنه أنه مُرتكب لكبيرة، أو مصرٌ على صغيرة، أو يُجالس ساقطي المروءة، أو يُصادق ناقصي العدالة.
- وأن لا يكون من أصحاب التأويلات الفاسدة، والآراء التي تتصادم مع معتقدات الشريعة وثوابتها المقدّسة.
ويُلحق بساقطي المروءة والعدالة: أولئك البعض الذين يزعمون أنهم مفكِّرون إسلاميّون، وتتبارى القنوات الفضائية في استضافتهم لبثّ أفكارهم السمومة
…
فمنهم من ينال من النص القرآني، ويزعم -افتراء وبهتاناً- أنّ بعض أحكامه وتشريعاته تُمثِّل مرحلة زمنيّة انقضتْ ولا تصلح لهذا الزمان. ومِن طاعنٍ في السنة النبوية وأدلّتها. ومِن لامز وغامز في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى انطلاقة الفكر، وحُرية البحث. وهم بهذا يهدمون ثوابت الأمّة، ويُشكِّكون في خصائصها، ويطعنون في ثقافتها. وللأسف، يُطلق عليهم: أنهم مفكِّرون إسلاميّون. والأوْلى أن يُطلَق عليهم: أنهم مخرِّبون إسلاميّون، وأن خطرهم لا يقل خطراً على مَن جعل الغلوّ ديدَنه والتّطرّف طبيعته.
الشرط الرابع:
الاجتهاد:
تعريف "الاجتهاد" في اللغة:
بذل الجهد، واستفراغ الوسع، في تحقيق أمْر من الأمور الشّاقّة، سواء كان في الأمور الحِسّية كالمشي والعمل، أم في الأمور المعنوية كاستخراج حُكم أو نظريّة عقلية أو شرعية أو لغوية.
تعريف "الاجتهاد" في الاصطلاح:
هو: ملَكة يُقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلّتها التفصيلية.
حِكمة مشروعية الاجتهاد:
من خصائص الشريعة الإسلامية: أنها خاتِمة الشرائع السماوية، وأنّ أحكامها شاملة وعامّة، صالحة لكلّ زمان ومكان، وأنها تحمل بين ثناياها ما يجعلها تُساير الزمن وتلاحق الأحداث. وهي تجمع ما بين الأصول الثابتة، وبين القواعد العامة، والتي تصلح لكل زمان ومكان.
وممّا تجدر ملاحظته: أن نصوص الشريعة من القرآن والسُّنّة محدودة ومتناهية، وأن الوقائع والحوادث لا نهاية لها، تتجدّد بتجدّد الزمان والمكان، ممّا يجعل الاجتهاد مشروعاً وبابه مفتوحاً.
الأدلّة على مشروعية الاجتهاد:
أولاً: القرآن الكريم:
تعدّدت الآيات التي جاءت في القرآن الكريم تحثّ على إعمال الفكْر والعقل، مثل قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} .
ومن الآيات الصريحة في مشروعيّته: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
والشّورى تعني: البحث والصواب فيما يعرض من أمور، وفْق أدلّة الشّرع ونصوصه؛ وهذا لا يكون إلاّ من خلال الاجتهاد من أهل الرأي.
ثانياً: من السُّنّة:
ما روي عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إذا حَكم الحاكم فاجْتهد فأصاب، فله أجْران. وإذا حَكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجْر))، رواه الشيخان.
ومنه: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي أقرّه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد.
ثالثاً: إجماع الأمّة على مشروعية الاجتهاد، وممارسته بالفعل الذي كان من ثماره هذه الثروة الفقهية التي تتميّز بها أمّة الإسلام، وتنفرد بذلك عن غيرها من الأمم.
رابعاً: العقل والنّظر:
دلّت الأدلة العقلية على مشروعية الاجتهاد، وليتحقق به استمراريه الشريعة الإسلامية وخلودها.
أقسام المُجتهدين:
أوّلاً: المجتهد المُطلق:
وهو: مَن حفِظ وفهِم أكثر الفقه وأصوله وأدلّته في مسائله، إذا كانت له أهليّة تامّة يُمكنه بها معرفة أحكام الشّرع بالدليل وسائر الوقائع، فإن كثرت إصابتُه صلح -مع بقية الشروط- أن يُفتي ويَقضي.
قالوا: إنّ الاجتهاد المُطلَق لا بدّ لتحصيله من توافر المعرفة الجيّدة بالكتاب والسّنّة، وما ورد فيهما ممّا يتعلّق بالأحكام، وأن يَعرف الأمر والنهي، والمُجمَل والمُبيّن، والمحكَم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاصّ، والمُطلَق والمقيّد، والمُستثنَى والمُستثنَى منه.
وكذلك تتوافر المعرفة الجيّدة بالسّنّة النبوية الشريفة، بحيث يستطيع المجتهد أن يميِّز بين صحيح السّنة وسقيمها، ومراتب ما وروي منها، وطُرق الاحتجاج بها، وغير ذلك ممّا هو ضروري ولازم لمعرفة الحُكم الشرعي من القرآن الكريم والسُّنّة المطهّرة.
وقالوا أيضاً: لا بدّ للمجتهد المُطلَق: أن يعرف ما أجمع عليه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأن يعرف القياس وشروطه، وأن يكون على قَدْر كافٍ من المعرفة باللّغة العربية، وآدابها، وأساليبها. ولا خلاف بين العلماء في: أنّ المجتهد المُطلق أهل للإفتاء ويصلح أن يكون مفتياً.
ومن هذا القسم: فقهاء الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم
…
ثانياً: المجتهد في مذهب إمِامِه: وهو ما يُسمَّى بـ"المجتهد المُقيّد". وينقسم إلى أربعة أقسام:
الأوّل: مجتهد غير مقلِّدٍ لإمامه في الحُكم والدليل، ولكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه. وفتوى أصحاب هذا النوع كفتوى المجتهد المطلَق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
والثاني: مجتهد مقيّد بمذهب إمامِه يستقلّ بتقريره بالدّليل، لكن لا يتعدّى أصوله وقواعده. وهذا المجتهد يكون قادراً على التخريج والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي قرّرها إمامُه.
الثالث: مجتهد التّرجيح، وهو الذي لم يَبلغ رتبة المتقدِّميْن، إلاّ أنه فقيه حافظ لِمذهب إمامه، عارف بأدلّته، قائم بتقريره ونصْرته. فهو من أهل الترجيح، لكنه لم يبلغ درجة الذين سبق ذكْرهم.
الرابع: مجتهد الفتيا، أو الحافظ للمذهب، وهو الذي يقوم بحفظ أكثر المذهب ونقْله وفهْمه. وهذا تُعتمد فتواه ونقله فيما يَحكيه من مسطورات مذهبه ومن نصوص إمامِه.
واجبات المُفتي وآدابه:
وعلى المفتي:
- أن يعلم أنّ ما يقوله ويُفتي به دِين يحاسَب عليه أمام الله تعالى؛ ولهذا يجب عليه: أن يطيل النّظر والفكْر، ولا يتسرّع في الإجابة، وإذا لم يعرف الجواب يقول:"لا أدري".
- وينبغي للمفتي: أن يلاحظ عُرف البلد وعاداته، ليعرف مقصود المستفتي، وإذا لم يفهم من السؤال استَفْهَم من السائل عن مراده. وإذا جهل لغةً، كفاه ترجمة واحدٍ ثقة.
- كما ينبغي للمُفتي: أن يشاور الفقهاء الحاضرين في موضوع الاستفتاء، إذا رأى حاجة لذلك.
- وعلى المفتي: أن يبتعد عن مظانّ التّهم والرّيب، ليكون قوله مقبولاً عند المستفتي وغيره، وأن لا يَقبل هديةً ممّن يستفتيه.
- وعلى المفتي: أن يكون ليِّناً متواضعاً، لا فظاً غليظاً، وأن يُقبل على المستفتي بلطف وبشاشة، وإذا رآه بطيء الفهم فلْيترفّق به حتى يفهمه.
آداب المستفتي:
عليه:
- أن يلتزم بآداب الإسلام في الكلام والخطاب.
- وأن يلتزم آداب الإسلام في الحديث مع العلماء.
- وأن يُظهر تواضعَه نحو المفتي واحترامه له؛ فلا يُعلي صوته عليه، ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يُكلِّمه بلهجة قاسية.
- وأن يستأذن بالسؤال والجلوس.
- وأن يتخيّر الوقت المناسب والمكان المناسب لسؤاله، فلا يستفتيه وهو مشغول بغيره، ولا أن يطرق بابه في وقت القيلولة، إلى غير ذلك من مظاهر الاحترام
…
- كما يجب على المستفتي أن لا يسأل أسئلة غير منطقيّة، أو يسأل عن أمور العلْم بها لا ينفع والجهل بها لا يضرّ، أو يسأل أسئلة يقصد بها إحراج المُفتى أمام الناس.
ممّا سبَق، يتّضح أن أحوال المسلمين في هذا العصر تستوجب وجود الدّاعية الذي يجمع بين وسائل الدّعوة وأساليبها في الاستحواذ على المشاعر والعواطف بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
وفي نفس الوقت، يكون الداعية عالماً بأمور الدِّين، فقيهاً بأحكام الشريعة، كما قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
وبذلك يجمع الدّاعية بين فضيلتَيِ الدّعوة والإفتاء، فيطمئنّ الناس إلى حديثه، ويأمنون لفتواه، ويتتبّعون دعوته.
وهذه أمور تتمّ إذا صدقت النّيّة، وتحقّق الإخلاص، وتخلّق الدّعاة بالفضائل، وتزوّدوا بالعلوم والمعارف التي أشرنا إليها بين ثنايا هذه المحاضرات، خلال المستوى الأول لمادّة "أصول الدعوة وطُرقها".
والله وليّ التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.