الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من خلال هذه الآيات، يتَّضح في ظهور وجلاء: ما يتََّّصفُ به المؤمنون من رقَّة المشاعر، ورحمة القلوب، ونُبل العواطف، وما عليه الكافرون والعُصاة والطُّغاة، من قسوة القلوب، وتحجُّر النفوس، وموت الأحاسيس.
الأسس التي يقوم عليها المنهجُ العاطفيٌّ للدَّعوة إلى الله
المنهج العاطفيُّ للدَّعوة إلى الله، يقوم على: تحريك الشُّعور والأحاسيس، وعلى التَّأثير والانفعال، وإثارة كوامن الحِسِّ وخبايا النَّفس، من غضب ورضا ورحمة وشفقة وغلظة ولين وسرور وأحزان.
وهذا يتطلَّبُ من الدَّاعية: أن يعرفَ طبيعةَ الشَّخص الَّذي يدعوه، وأن يدرس أحواله العقليَّة والنَّفسيَّة، وظروفَه الاجتماعيَّة، وأن يقف على أمثل أساليب الإقناع.
ونظراً لأهمِّيَّة المنهج العاطفيِّ، وعمق تأثيره على النُّفوس، وأثره في إصلاح القلوب، ودوره في رُقِيِّ المشاعر، وسموِّ العواطف، ونُبل الأحاسيس؛ فلقد وضع الإسلامُ من خلال الكتاب والسُّنة، الأسسَ التي يقومُ عليها المنهجُ العاطفيُّ للدَّعوة إلى الله، وهذه القواعد والأسس سنذكرها -إن شاء الله- على النَّحو التالي:
1 -
محبَّة الله ورسوله:
إنَّ محبة الله ورسوله، هي جوهرُ عقيدة المسلم، وأصلُ إيمانه، وهي أعلى مراتبِ الإيمان. بهذه المحبَّة تسمو العواطف، وتترقرق المشاعر، وتلين الأفئدة، وتطهر النفوس، وتصفو الأرواح.
هذا الحُبُّ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يجبُ أن يكونَ في مقدِّمة كل أنواع المحبوبات، وأن لا يُزاحمَه في قلب المسلم مُزاحمٌ من أعراض الدنيا، وكلِّ صنوف متاعها، قال تعالى:
وحُبُّ الله ورسوله، يُزيل أغلفة القلوب، ويُذيب صدأ النُّفوس. ومن خلال الحبِّ الصادق المرتبط بصدق النِّيَّة وإخلاص العبادة، يشعر المسلم بحسن مذاق الإيمان وحلاوة الطاعة، وهو مذاقٌ وحلاوة معنوية، لا يعرف قدرَها ولا يستشعر سعادتَها، إلا من عاش في ظلال الإسلام، جاء في الصَّحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر، كما يكرهُ أن يُقذف في النار)).
قال تعالى:
وقد عبَّر القرآنُ الكريم عن شدَّة حبِّ المؤمنين لله، فقال تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
هذا الحبُّ، إذا استقرَّ في وجدان المسلم وقلبه؛ فإنَّ الله يبادله حبَّاً بحبٍّ، وإنَّ حبَّ الله تهفو إليه القلوب، وتَتَطَّلعُ إليه النَّفوس، وينشرح به الصدر.
وقد عدَّد القرآن الكريم المجالات التي ينال العبد فيها حبَّ الله، ومن ذلك:
أ- الإحسانُ إلى الغير، سواء كان إحساناً ماديَّاً أو معنويَّاً، قال تعالى:
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
ب- التَّطهُّر الحِسِّيُّ بإزالة النَّجاسات، أو المعنويُّ بخلوِّ القلب من الشِّرك والرِّياء والنِّفاق، قال تعالى:
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
وقال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
ج- التَّقوى والوفاء بالعهود: قال تعالى:
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].
د- الصَّبر في ميادين القتال.
كما ذكر القرآن الكريم الأمورَ التي يُبغضها الله، ويكرهُ من يرتكبُها، ومن ذلك:
أ-الاعتداء على الغير: قال تعالى:
{وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
ب-الكبر والخيلاء: قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النِّساء: 36].
ج-الخيانة: قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النِّساء: 107].
د-الجهر بالسوء، إلا من ظُلم ودافع عن نفسه: قال تعالى:
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّساء: 148].
هذه الأمور وغيرُها تحجب القلوبَ عن محبَّة الله، فكان جزاؤها غضبَ الله على من اتّصف بهذه الصِّفات، وقد ذكرت سورةُ الإسراء من الآية الثانية والعشرين، إلى الآية السابعة والثلاثين الأمورَ التي حرَّمها الله وتُسبّب فسادَ القلب، وفقدانَ المشاعر، وفي نهاية الآيات قال تعالى:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38].
2 -
تلاوة القرآن الكريم:
تُرقِّقُ المشاعر، وتُهذِّب العواطف، كذلك نجدٌ القرآن الكريم، يذكر صفات المؤمنين بما يسمو بالعواطف، قال تعالى:
وبنفس الأسلوب المعجز، والبيان البلاغيِّ المُبهر، ينقل القرآنُ الكريم للحواسِّ والعقول والقلوبِ، مشاهدَ الكافرين والطُّغاة والظَّالمين، الذين قست قلوبُهم وتحجَّرت مشاعرُهم، كما جاء في سورة الحاقَّة، وفي سورة القلم، وفي كثيرٍ من السُّور.
3 -
ذكر الله تبارك وتعالى:
وقد حفل القرآنُ الكريم بالآيات الكثيرة، الَّتي تُبيِّن اطمئنانَ القلوب بذكر الله تعالى، قال تعالى:
وقال تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
آثار المنهجُ العاطفيُّ في ميدان الدَّعوة:
هذا المنهجُ العاطفيُّ، له آثارٌ كثيرة، في ميدان الدَّعوة إلى الله، ومن ذلك:
أ- صدق العاطفة.
ب- الحثُّ على بذل الرَّحمة، خاصَّةً للكبار والصغار.
ج- الحثُّ على استخدام الأساليب العاطفيَّة، كما تحدَّث القرآنُ الكريم:
{يَا أَبَتِ} ، {يا بُنَيَّ} ، {يا بَنِيَّ} ، {يا قَومِ} .
د- إظهار الرحمة والرأفة على المدعُوِّين، وتجنُّب التَّعنيف والشَّدة في الموعظة.
هـ- تليين العواطف وتذويب قسوة القلوب، عند مخاطبة عواطف النَّاس.
وسرعةُ استجابة المسلم، من خلال تفجير ينابيع الإيمان في قلبه، وحثِّه على التَّأثُّر بمن حوله من ذوي الحاجات، وكذلك التَّأثّر بقضايا أمَّته.
واجب الدُّعاة، نحو هذه المناهج الحسِّية والعقليَّة والعاطفيَّة:
يجبُ على الدعاة إلى الله، أن يتَّجهوا بالمنهج الحسِّيِّ والعقليِّ والعاطفيِّ، وجهةً إسلاميَّةً خالصةً، وأن يبذلوا في ذلك غاية الجهد، ولا سيَّما في هذا العصر الذي انحرفت فيه هذه الأمور، بما يتصادم مع قواعد الإسلام، ويتنافى مع الفطرة، وذلك بسبب التَّقدُّم العلميِّ والمادِّيِّ البعيدِ عن ضوابط الشَّرع وموازينه، وبفعل وسائل الإعلام التي أفسدت الفطرة السليمة، بالفن الهابط والأدب الفاحش،
حيث اختزلت العواطف واقتصرت على عاطفة الجنس بين الرَّجل والمرأة، وتغافلت وتجاهلت عواطفَ الدِّين والأرحام والوطن وعواطف الخير والحقِّ والجمال، الذي بثَّه الله في أرجاء الكون، فضَلَّت الأفكار، وفَسَدت الأذواقُ، وتبلَّدت المشاعر، وماتت الضَّمائر.
فعلى الدعاة: أن يوقظوا في النفس عواطفَ الحبِّ الحقيقيِّ ومجالاته، وأن يُحرِّكوا في القلوبِ الهممَ العاليةَ والفضائلَ النبيلة والسلوك المهذَّب الرَّاقي. وينبغي عليهم أن يتصدَّوا لتلك الهجمة الشرسة التي تفسد العواطف والعقول.
وإلى محاضرة أخرى إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.