الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
فائدة الصّبْر:
الصّبر يخلق في الإنسان تريّث العقل، فلا يندفع ويتسرّع في الحُكم على الأشياء. ويُؤدِّي إلى اطمئنان القلب، فلا يتزلزل في مواطن الشّدّة، ولا يجزع عند البلاء. ويُضفي على النفْس الصفاء والهدوء والثبات، فلا يُعكِّر صفْوَها كدرُ الحياة ومتاعب الدنيا. ويولِّد الأمل والرّجاء والتفاؤل وانشراح الصدر وثبات الجأش. الصبر يدفع الإنسان لوضع الأمور في مواضعها بعقل واتّزان، يأخذها بحكمة وثاقب نظَر، وسداد رأي، وتبصرة بالعواقب، وتحسب للنتائج.
4 -
نتائج فقدان خُلُق الصبر:
الإنسان الذي تخلو أخلاقه من فضيلة الصبر يتّسم بالتّسرّع والاندفاع، ممّا يُؤدِّي به إلى التهلكة، بسبب اتخاذه لقرارات رعناء، ومواقف متعجِّلة غير مدروسة، ممّا يُؤدِّي لليأس والقنوط، والتحيّر، والعجز عند مواجهة الشدائد. كما أنّ الشخص الذي يفتقد خُلُق الصبر يعيش في توتّر عصبي وقلق نفسي، حينما يواجه خبراً أو موقفاً طارئاً؛ فهو سريع الانفعال، شديد الغضب، يتّسم بالتضجّر وعدم التّحمّل، ممّا يحمل بين ثناياه آثاراً ونتائج غير محمودة العواقب.
مجالات الصّبر وميادينه
للصبر مجالات كثيرة في ميادين الحياة التي تتطلّبه؛ ومن ذلك:
أولاً: ضبط النفْس وحبْسها عن الضيق والحزن عند حلول المصائب، كموت عزيز، وفقدان مال، أو ضياع متاع، أو مرض عضال، أو تعطل حاسّة من الحواسّ.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
ومن وصايا لقمان لابنه: ما جاء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يقول الله تعالى: ما لِعبدي المؤمن عندي إذا قبضتُ صَفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسَبه، فهو من أهل الجنة))، رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الله عز وجل قال: إذا ابتلَيْتُ عبدي بحبيبَتيْه فصبر، عوّضْتُه منهما الجنّة))، يريد: عيْنيْه. رواه البخاري.
ومن نتائج الصبر على المصائب أمران:
الأول: تكفير الخطايا والسّيِّئات.
وهذا رحمة من الله بتعجيل العقوبة على الذنوب في الدنيا.
فعن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما يُصيب المسلمَ من نَصَبٍ، ولا وصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزنٍ، ولا أذىً، ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكُها، إلاّ كفّر الله بها من خطاياه))، رواه الشيخان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة، في نفْسِه وولدِه ومالِه، حتى يَلقى الله تعالى وما عليه خطيئة))، رواه الترمذي وقال:"حديث حسن صحيح".
الأمر الثاني: منْح الأجْر على الصّبر.
وهذا الأجر يتضاعف ويتكاثر كلّما كان الصبر أجمل وأشمل، والجزع أقلّ وأضعف. فمن الثواب، ولا سيما إذا ارتبط الصبر بحُسن العبادة والطاعة: سلام
الملائكة في الجنّة على الصابرين.
وقال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} .
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
ثانياً: الصّبر في ميادين القتال عند لقاء الأعداء.
إنّ من مجالات الصّبر وميادينه: الصّبر عند اللقاء؛ فهو أهمّ مقوّمات النصر على الأعداء. فإن الظفر مع الصبر، ومغالبة العسر والشدّة يعقبهما فرح ويُسر. فالمرابطة في سبيل الله، والسهر على حراسة الحدود والثغور، في برد الشتاء وزمهريره، وحرارة الصيف وقيظه، بين وهج المعارك وأزيز الطائرات وأصوات المدافع: مواطن ومواقف لا يثبت فيها إلاّ المؤمن المتسلِّح بالإيمان، المتخلِّق بالصبر.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ومن توجيهات القرآن الكريم للمجاهدين في سبيل الله: أمور هي مفتاح النصر، ومنها: الصبر في ميادين القتال عند لقاء الأعداء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
والعدد القليل المتسلِّح بفضيلة الصّبر يُحقِّق النصر على الكثرة المذعورة التي لا تصبر في ميادين الوغى ولهيب المعارك وقعقعة السلاح، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
ولذلك كان دعاء الجيوش المؤمنة عبر التاريخ أثناء لقاء الأعداء، هو ما جاء في القرآن الكريم على لسان طالوت وجنوده، قال تعالى:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} .
ثالثا: الصّبر في ميادين الدّعوة إلى الله.
لقد خلَق الله الخلْق متفاوتين في العقول، مختلفين في التفكير، متمايزين في المشاعر والعواطف، تتصادم مصالحُهم وتتنازع رغباتهم، وتختلف نظرتهم للأمور وحُكمُهم على الأشياء بدرجات كبيرة، واستجابتهم للنصح والإرشاد والتوجيه يختلف اختلافاً شاسعاً. وهذا الاختلاف في المشارب والأهواء سُنّة من سُنن الله في الخلْق والتكوين، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} .
فالتمايز في العقول وفي السلوك، والتّباين الشديد في المعتقَدات والمذاهب والآراء، يوجب على مَن يَنزل ساحة الدّعوة إلى الله، ويتشرّف بحمْل لوائها، أن يتّصف بالصبر والحِلم وسعة الصدر؛ فلا يضيق صدراً بمَن خالَفه، ولا يحزن لِمن هاجمه بالقول. ولْيحبِسْ آلامَه حينما يعتدي عليه أحد. وينبغي ألاّ يتسرّب اليأس إلى نفسه حينما يجد صدوداً أو إعراضاً. وينبغي أن لا يعرف العجزُ والقنوط والفشل طريقاً إلى قلبه، حينما يُضيَّق الخناق عليه، وتُصادَر كلمتُه ويُقطَع رزقُه.
فالابتلاء والاختبار والامتحان كان وسيظل هو طريق الدّعاة إلى الله، قال تعالى:{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
ورسُل الله هم النموذج الفريد والقدوة الحسنة والأسوة الطّيِّبة، في التحمّل والتّحلّي بالصبر، والتّحمّل لأعباء الرسالة ومشاقّ الدّعوة، ومواجهة الموانع، والإعراض بالحِلم وسعة الصدر، ولين الجانب وخفْض الجناح. وسوف نتابع رحلة الأنبياء والمرسلين في رياض الصبر والمصابرة، ونرقُب خطَى سيْرهم في تحمّلهم لكل أنواع العنت، وجميع ضروب المتاعب والآلام، بنفْس سمحة، وقلب رؤوف رحيم، لنضعها أمام أعين الدّعاة ليقتدوا بهم ويسيروا على دربهم في التّخلّق بفضيلة الصبر الذي وصفه صلى الله عليه وسلم بـ"الضياء"، ووصفه مرة أخرى بأنه:"نصف الإيمان". وهو السّمة المشتركة لجميع الأنبياء والمرسلين، والصفة الغالبة لمن يسلك طريق الدّعوة إلى الله.
فعن أبي عُبيد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ((شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ فقال: قد كان ممّن قبلكم يُؤخذ الرّجُل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع
على رأسه فيُجعل نصفيْن، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلاّ الله، والذئبَ على غنَمه؛ ولكنكم تستعجلون))، رواه البخاري.
هذا الحديث يتطابق ويتوافق مع قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} .
وفي شأن صبْر المرسلين وتحمّلهم المشاق والأذى، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} .
ولقد تحدّث القرآن الكريم عن نبإ المرسلين في الصّبر والحِلم واللِّين والرِّفق، وأخبر عن أحوالهم في مواجهة المعاندين والمعارضين، ولا سيما أولو العزم من الرسل الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتأسي بهم، فقال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} .
وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. وقد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في سورتَي:(الأحزاب) و (الشورى).
قال تعالى في سورة (الأحزاب): {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .
وفي سورة الشورى، ذكَرهم الله بقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} .