الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يكون الدّليل ماكِراً خبيثاً يورِد مَن اتّبعوه موارد التّهلكة، كما دلّ الشيطان آدمَ وزوْجَه على الأكل من الشجرة، قال تعالى:{فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ} وقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} .
فممّا سبق، يتّضح من قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} : أنّ طريق الدّعوة إلى الله والسبيل الذي يوصل إلى سعادة الداريْن، يقوم على البصيرة التي تعتمد على البراهين النّقليّة من الكتاب والسّنّة، والعقلية التي تعتمد على العقل والفكر، وعلى الحُجج الواضحة، والبيان البليغ، والدليل الواضح، وأنّه لا نجاح للدّعاة إن لم يتمرّسوا على تلك الأساليب التي تَقطع الحُجج، وتُفنِّد المزاعم، وتُظهر الحقائق؛ قال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَاّ الظَّالِمُونَ} .
أما عن كيفية وصول الدّعاة إلى هذا المستوى الرفيع، فهذا ما سنتاوله في العنصر الثاني.
بيان السُّبل والوسائل التي تُعين الدّعاة على الدّعوة إلى الله على علْم وبصيرة
كما سبق أنْ أوضحنا: إنّ الدّعوة إلى الله ليس عملاً مرتجَلاً، أو انفعالاً عاطفياً يفيض بالحماس، ويشتعل وميضُه لحظات ثم ينطفئ ويخمد، وإنّ ساحة الدّعوة في معظم أقطار العالَم الإسلامي تقوم على الارتجال، وردّ الفعل العاطفي الغير مدروس. كما يفتقد ميدان الدعوة إلى الترابط بين مؤسّساته، والتنسيق بين هيئاته؛ فكلّ يعمل في وادٍ بعيد عن الآخر، فضلاً عن ضعف مستوى الأداء. هذا مع ملاحظة تفوّق الأجهزة الإعلامية الأخرى تفوّقاً ظاهراً وملموساً، ونجحت في انتزاع الناس من أحضان المساجد والدّعاة، وألْقت بهم في مستنقَعات الفنّ الهابط والأدب الرخيص.
وإنّ الدعوة التي على علْم وبصيرة تستوجب الأمور التالية:
أولاً: تحديد الأهداف.
إنّ كل شيء في الكون يسير وفْق غاية مقصودة وهدف منشود، خلَقه الله لذلك.
وإن النظام البديع في الكون هو مرآة تدلّ على أنّ كل شيء فيه له هدف.
والدّاعي إلى الله يجب عليه: أن يُحدِّد الهدف من دعْوته، وتحديد الهدف يدفعه إلى أن يكون مرتّباً في كلامه، منطقياً في حديثه.
وإنّ ما يَحدُث في مضمار الدّعوة الآن، مِن عدم تحديد الأهداف ووضوحها، حيث يَتَشتّت ذهن المستمع في موضوعات شتَّى وفي أمور متنوِّعة، تجْعله ينصرف عن الدّعاة، لأنه لم يجد لديْهم هدفاً مُحدّداً.
ولقد حدّد الله سبحانه وتعالى الهدَف من خلْق الإنسان والجانّ في آية واحدة، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .
وحدّد القرآن هدفَ الإنسان في هذا الكون، وأرشد إلى رسالته في الحياة، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
ولقد حدّد صلى الله عليه وسلم مضمونَ رسالته، والغايةَ منها، منذ أول يوم، حينما وقف على جبل الصفا ينادي أهله وعشيرته قائلا:((إنّ الرائد لا يَكذب أهلَه. والله الذي لا إله إلاّ هو! إنِّي رسولُ الله إليكم خاصّة، وإلى الناس عامّة. والله لتموتُنّ كما تنامون، ولتُبعثُنّ كما تستيقظون، ولتحاسَبُنّ بما تعملون. وإنها لجنّة أبداً أو النار أبداً)).
ثانيا: تنظيم الأهداف.
لكي تكون الدّعوة إلى الله على هدىً وبصيرة، فينبغي تنظيم العمل الإسلامي وتحديد أولويّاته، وأن ينظر الدّعاة فيمن حولهم ويتساءلون: ما الذي يجب أن يَبدؤوا به معهم؟ وما هي الجُرعات المناسبة في الوعظ والإرشاد التي ينبغي أن تُقدَّم؟ وأن يعقب ذلك دراسة واعية للظروف الاجتماعية، والاتّجاهات المضادّة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومدى مواجهتها؟ وبأيّ درجة من درجات التغيير التي حدّدها -صلى الله لعيه وسلم- يبدأ بها؟
إن استباق بعض المراحل، وتقديم البعض على البعض دون ترتيب وتنظيم، يُخلّ بالعمل الإسلامي.
وحينما ينظر الدّعاة والدارسون لتطوّر مراحل الدّعوة، نجد أنها مرّت بالمراحل التالية:
المرحلة الأولى: من بدْء الوحْي في غار حراء حتى قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُون} .
وفي هذه المرحلة كانت الدعوة إلى الإسلام تنتشر بهدوء، لا تلتفت لها الأنظار، واقتصرت على مُحيط الزوجة السيدة خديجة رضي الله عنها، وبعض أبناء عمومته كعليّ رضي الله عنه، وعدد من أصدقائه المقرَّبين وفي مقدّمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. كما انتشر نور الإسلام إلى قلوب بعض المستضعَفين في مكة، كبلال، وعمّار بن ياسر، ووالده، ووالدته، وعبد الله بن مسعود. وانتحى الرسول صلى الله عليه وسلم ناحية بعيدة عن أنظار القوم من دار الأرقم بن أبي الأرقم، يُعلِّم أتباعه. واستمرّت هذه الفترة زهاء ثلاث سنوات.
المرحلة الثانية: تبدأ من لحظة وقوفه صلى الله عليه وسلم على الصفا، يُعلنها صريحة بعدما أمَره الله بذلك، قال تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} .
وهذه المرحلة من أخطر مراحل الدّعوة إذ تمّت المواجهة بين الدِّين الجديد ومعتقَدات الآباء والأجداد.
وتجلّت في هذه الفترة شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصبر أصحابه على الأذى، ورفْض المساومة على الدّعوة، وتحمّل المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية في شِعب أبي طالب، حتى أكلوا أوراق الشجر. وتخلّل هذه المرحلة هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، وخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف.
المرحلة الثالثة: تبدأ من الإسراء والمعراج، حتى الإعداد للهجرة والخروج من مكة المكّرمة إلى المدينة المنورة.
ولقد اتّسمت تلك المرحلة بانتشار الإسلام بين أهل يثرب -الأوس والخزرج-، وبَيْعتَي العقبة الأولى والثانية، وما تمّ فيهما من عهود ومواثيق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولقد كانت أحداث الهجرة ووقائعها صورةً رائعة للإعداد الجيِّد، والتنظيم الدقيق المتقن الذي يأخذ بكلّ الأسباب، ثم يترك الأمور لله يُصرِّفها كيف يشاء.
المرحلة الرابعة: تبدأ من الهجرة وتأسيس المجتمع المسلم على ثلاث قواعد، وهي:
1 -
علاقة المسلم بخالِقه، وذلك من خلال بناء مسجد قباء، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.
2 -
توثيق العلاقة بين المهاجرين والأنصار بالمؤاخاة بينهم.
3 -
تأسيس العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، من خلال عقد معاهدة بين المسلمين واليهود ونصارى نجران.
المرحلة الخامسة: وتبدأ من لحظة إعداد المسلمين للدّفاع عن الدّعوة، والانتقال بهم من مرحلة الصبر والصفح والعفو حتى عن المسيء، إلى مرحلة الاستعداد للدِّفاع عن الإسلام وردع العدوان وكسْر شوكة الكافرين.
واتّسمت تلك المرحلة -والتي استمرت ثماني سنوات- بالعديد من المعارك، كان من أهمِّها: بدر، وأحُد، والخندق.
وكانت سرايا الاستطلاع تجوب الجزيرة العربية، وترقب تحرّكات المشركين. واستمرت هذه المرحلة حتى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
المرحلة السادسة: تبدأ من بعد فتح مكة وحتى انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وفي هذه المرحلة، توالت التشريعات لبناء الدّولة الإسلامية من خلال ما جاء في القرآن الكريم وسُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم القوليّة والفعليّة. وغدا الإسلام قوّة دانت له الجزيرة العربية، وصالحَتْه أطرافُها. وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرّسُل إلى الملوك والأمراء، وعلى رأسهم كسرى ملِك الفُرس، وهرقْل إمبراطور الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر.
وبدأ الإسلام يمدّ أذرعته خارج الجزيرة العربية.
هذه المراحل تُنبئ عن تنظيم الأهداف وترتيبها، في إعداد مرتبط بوحي السماء، وحِكمة خير الأنبياء.
وحينما نضع هذه المراحل بين أيْدي الدّارسين والدّعاة، إنما نهدف من ذلك: أن نُلفت الأذهان والعقول إلى أنّ الدعوة إلى الله على بصيرة توجِب الإعداد الجيِّد، والعمل المنظّم، كما تعمل الأمّة بكلّ مؤسّساتها التربوية والثقافية والتعليمية والإعلامية على إعداد رعيل من الدّعاة يفقهون دين الله، وعلى علم وبصيرة