الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتكرار ذكْرهم في القرآن الكريم يوجب على الدّارسين والدّعاة: أن يقفوا على سُبل تحمّلهم وأساليب صبرهم. وسوف نعرض لمواقفهم -صلوات الله وسلامه عليهم- في الصبر والمصابرة، والمغالبة، والتّحمّل، في العنصر التالي.
الصّبر الذي تحلّى به أولو العزْم من الرّسُل في ميدان الدّعوة إلى الله
التعريف اللّغوي لكلمة "عزْم":
عَزَمَ على الأمْر: أراد فعْله، وقطع عليه، أوْ جدَّ في الأمْر.
وأولو العزْم من الرّسُل: الذين عزموا على أمْر الله فيما عُهد إليهم. وقال الزمخشري: هم أولو الجِدّ والثّبات والصبر.
والأنبياء والمرسلون -صلوات الله عليهم أجمعين- من لدن آدم عليه السلام أولو عزم وثبات وصبر في الدعوة إلى الله. ولقد جاء في تفسير قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} : أنّ {مِنْ} بيانيّة تشمل جميع الأنبياء والمرسلين. ويرى جمهور المفسرين: أنّ {مِنْ} تبعيضية تختص ببعض الأنبياء الذين أشار إليهم القرآن الكريم في سورتَيِ (الأحزاب) و (الشورى)، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم، ومحمد -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-. وسوف نقصر الحديث في هذه المحاضرة على جانب الصّبر في رسالات هؤلاء الخمسة -صلوات الله وسلامه عليهم-، أمّا عن مناهجهم وأساليبهم في الدعوة إلى الله، فسنُفرد لها محاضرة خاصة في المستوى الثاني -إن شاء الله-.
أولاً: نوح عليه السلام.
هو: أبو البشر الثاني، وأوّل الرسل بعد آدم عليه السلام، اصطفاه الله للنّبوّة، واختاره للرسالة، بعد أن انتشرت في قومه عبادة الأصنام، وانحرفت أخلاقُهم إلى الرذائل، واستشرى الظلم والاستبداد والقهر من الأغنياء على الضعفاء.
ونوح عليه السلام نموذج فريد من بين الأنبياء والمرسلين الذين تحدّث عنهم القرآن الكريم؛ فقد لبث يَدعو قومه ألْف سنة إلاّ خمسين عاماً، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} .
هذه القرون العشرة زاخرة بالدروس، مليئة بالعِبر، واتّسمت بالصبر والمصابرة، والمجاهدة والمجالدة، والثبات وقوة العزيمة، وأبرزت للدّعاة أدبَ المجادلة وأساليب المحاورة، ونماذج التضحية حتى بالأبناء والأهل في سبيل الدّعوة إلى الله.
وقد أشار القرآن الكريم إلى مواقف نوح عليه السلام مع قومه في ثمانية وعشرين سُورة، وانفردت سورة كاملة تَحمل اسمه، وهي: سورة (نوح).
وسوف نستنبط معالم صبْره عليه السلام في مجالات الدّعوة التالية:
1 -
الصبر على مواصلة الدّعوة بقوّة نافذة، وعزيمة شديدة لا تعرف اليأس ولا السّأم، في طول مرحلة الدّعوة مدّة تكاد تبلغ الألْف عام. قال تعالى حكاية عنه عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَاّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .
2 -
الصّبر على إيذاء قومه، والذي اتّخذ صُوَراً متعدِّدة، منها:
أ- تهديده بالقتْل والرّجْم، قال تعالى:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .
ب- وصْفه بالجنون، قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} .
ج- الصّبر على المجادلة والمحاورة، قال تعالى:{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
د- الصّبر على سخرية قومه واستهزائهم به، قال تعالى:{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} .
هـ- الصّبر على فجيعته في زوْجه وولده؛ فالزوجة تابعت قومَها في كفْرهم وعنادهم، قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} .
أمّا الابن، فقد عصى أمْر والده نوح عليه السلام، وركب رأسه واتّبع هواه، واعتصم بالجبال من الماء، فكان من المغرقين. وتحركت فيه عاطفة الأبوّة الرحيمة فدعا ربه، كما قال تعالى:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ؛ فامتثل عليه السلام لأمر الله، وصبر على قضائه.
ثانيا: إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
حياته ودعوته خير مثال لصبر الأنبياء، وعزيمة المؤمنين، وقوّة الصابرين؛ فقد جمَع صلوات الله وسلامه عليه بين الصبر والحِلم وسعة الصدر، قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
هذا الحِلم والصّبر كان سِمة من سماته ومَعلماً من معالِم شخصيّته، ظهر ذلك واضحاً جلياً لمحاوراته لعُبّاد الأصنام، ومجادلاته لعُبّاد الكواكب، وتصدِّيه بقوّة
للحاكم الظالم الذي ادّعى الألوهية. ويتجلّى الصّبر والحِلم مع أبيه. ويتجلّى في أعظم صُوَره وأسمى معانيه في تنقّله بين فلسطين ومصر ومكّة المكرمة.
غير أنّ ما انفرد به وتميّز به في ميدان الصبر وقوة التحمّل، والثّبات ورباطة الجأش، والاستسلام لأمر الله والرضى بقضائه وقَدَره، كان في المواطن التالية:
1 -
الصبر وعدم اليأس من الإنجاب والذُّرِّية، وقد جُوزِي وكوفِئ على صبره بإسماعيل من زوجته هاجر، وبإسحاق من زوجته سارة.
2 -
الصبر على الإلقاء في النار، بصبر واطمئنان، وثقة مطلقة بالله، فأنجاه الله منها وخرج سليما معافىً، قال تعالى:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} .
3 -
الصبر على فراق هاجر وإسماعيل، وترْكهما في مكة المكرمة، حيث لا ماء ولا زرع ولا بشَر، ولجأ في هذا الموقف لله، قال تعالى عن لسانه عليه السلام:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} .
4 -
الصبر الجميل والاستسلام المُطلَق لأمْر الله بذبْح إسماعيل بعد رؤية صادقة، فصبر صبراً ليس في طاقة بشَر أن يتحمّله؛ فمن يطيق أن يُمسك بالسِّكِّين ويذبح وحيدَه وفلذة كبِده، والذي رزقه الله بعد صبر وتلهّف وطول انتظار. ولكنّه أمْر الله الذي لا يُردّ، وطبيعة الأنبياء في المبادرة بالإذعان والإسراع في تنفيذ الأمْر بلا تردّد أو مناقشة. وقد اشترك الابن والأب والأمّ في فضيلة الصبر ومُطلق الطاعة لله؛ فالابن قال:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} . والأب امتثل. والأم استسلمت لأمر الله في وحيدها وقرّة عيْنها.
إنها فعْلاً أسرة صابرة بالفطرة، لا تتصنّع الصبر ولا تتجمّل بالفداء. لقد نجحوا جميعاً في امتحان الصبر والرضى بالقضاء، فكانت المكافأة:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} .
ثالثاً: موسى عليه السلام.
وهو من أنبياء بني إسرائيل، ومِن أولي العزم من الرّسل الذين خصّهم الله بالعزم القويّ، والصبر الجميل، والتّحمّل الشديد. وحياته عليه السلام فيها من العِبَر والفوائد ممّا يضيق المقام عن حصرها، غير أنّ جانب الصّبر في دعوته ظاهر بارز، كشأن إخوانه من الأنبياء والمرسلين. ولقد تعدّدت مراحل حياته منذ ولادته والتقاط آل فرعون له.
وفي هذه المرحلة تبرز صورة أمّه والتي أوحى الله إليها أن تُلقي به في البحر. ويربط سبحانه وتعالى على قلبها، فتصبر على قضاء ربّها، وتطمئنّ إلى حسْن تدبيره وحفظه تعالى لموسى، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
إنها الأمومة الصابرة التي جمعَت بين هاجر، وأمّ موسى، ومريم أمّ عيسى. ثم تتتابع رحلة حياته حينما خرج من مصر، وصبر على آلام الغرية.
وتتجلى المواقف الإيمانية التي تتّسم بالصبر في دعوته لفرعون، وصبره على ما لقيه من بني إسرائيل أثناء رحلة الخروج من مصر. ولقد أمَرهم بالاستعانة بالله والصبر والتقوى، قال تعالى:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
غير أن بني إسرائيل لم يعملوا بنصيحته ولم يلتزموا بما شرعه الله لهم، وصبر موسى وهارون عليهما السلام على تعنّتهم وتجرّئهم على الله، وتطاولهم عليهما. وقد استفاض القرآن الكريم في ذكْر مواقف بني إسرائيل من موسى كثيراً، للتنبيه على خطرهم، وتحذير الإنسانية من شرورهم التي أظهرت الأحداث في هذا العصر إعجاز وصدْق ما أخبر به القرآن الكريم عنهم.
رابعا: عيسى بن مريم عليه السلام.
من أولي العزم من الرّسل، ورسالته هي خاتمة رسالات بني إسرائيل. وهو عليه السلام كإخوانه الأنبياء والمرسلين قد تحلّى بالصبر والرحمة. وقد اتضحت معالم دعْوته ومنهج رسالته منذ ميلاده حين أنطقه الله وهو ما زال في المهد صبياً. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا المنهج في قوله تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} .
وقد صبرت أمه مريم عليها السلام على تلك الألسنة التي تطاولت عليها، وعلى تلك النظرة المريبة التي لاحقتْها أثناء الحمل والولادة. وكان ثمار هذا الصبر الجميل، والتحمل الذي لا يطيقه بشَر: أن تولّى الله عنايتها، وأظهر لها من المعجزات ما ثبّت قلبها وهدّأ من روعها؛ وهذا جزاء الصابرين. قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
خامسا: إمام الصابرين، أشرف الخلْق وخاتم الرسُل محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته بعد انتقاله للرفيق الأعلى تجسيداً حياً ونموذجاً فريداً للصبر والحلْم وتحمّل كلّ صنوف الإيذاء والعنت، بنفْس صافية لا تحمل
ضغينة، وقلب مطمئن بالإيمان، مستوثق كلّ الثقة بنصر الله وتأييده. لقد تجمّع صبر الأنبياء جميعاً في صبره، وأفرغ الله عليه من الثبات واليقين وقوّة العزم ورباطة الجأش الذي لا تُحرِّكه شدائد الدنيا بأسرها، وأودع الله بين حنايا نفْسه الرحيمة والحليمة من الحِلْم وسعة الصدر ما وسع أعداءه قبل أصحابه، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
وسوف نقتطف من رياض صبره صلى الله عليه وسلم بعض الباقات التي ترسم صورة رائعة سامية للصبر والمصابرة، والمجاهدة والتحمّل، دون تبرّم أو ضيق أو غضب، الصبر الذي يحمل بين ثناياه أملاً يتجدّد، وتفاؤلاً يُرسل أشعّته على القلوب، فتشعر بالطمأنينة لجانب الله والرضى بقضائه وقَدَره.
هذا الخُلق الكريم، والفضيلة المتألّقة بين الفضائل، يُجهد الإنسان نفْسه ويعتصر عقله وفكْره إذا ما أراد حصْر بعضها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو استيعاب جزء منها في محاضرة أو عدة محاضرات؛ حيث إنّ مجالات الصبر وميادينه في حياته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، لذلك سأرصد للدارسين والدّعاة بعضاً منها على النحو التالي:
1 -
اليُتْم المُبكِّر للرسول صلى الله عليه وسلم ربّى فيه ملَكة الصّبر منذ طفولته، ومجابهة الحياة وتحمّل مسؤولية الرِّجال، وهو صلى الله عليه وسلم فتىً صغير يرعى الغنم، ليكفل نفْسه ويُعين عمّه أبا طالب.
2 -
ما أمره به الحقّ -تبارك وتعلى- في مرحلة التربية والإعداد للدعوة بالصبر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .
وقال تعالى في سورة (المزمل)، وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} .
3 -
مع اشتداد الإيذاء الذي صبّتْه قريش بكلّ صنوفه عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، كانت آيات الصبر تتتابع، إمّا في صورة أمْر، كقوله تعالى:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
أو في عرض قصص الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً لقليه، واطمئناناً لنفسه؛ فلا تُضعف مواقفُ قومه ولا يوهن عنتُهم وحقدُهم مِن عزيمته، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} .
أو تتوالى الآيات في بيان حُسن ثواب الصابرين، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
كما ربط القرآن الكريم بين الصبر والجهاد في سبيل الله في أكثر من آية، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وقال تعال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} .
والربط بين الصبر والصلاة: دلالة على أهمية كلّ منهما للآخَر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} .
أعلن الله محبّته للصابرين، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .
من خلال عرض خبر أولي العزم من الرّسُل، وعَبْر حديث القرآن الكريم عن الصّبر، يتبيّن: أنه من الواجب تربية الدّعاة إلى الله على فضيلة خُلُق الصبر في مختلف المواقف التي يتعرّضون لها.
فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من لوازمه: الصّبر والتّحمّل.
وقد ذكَر القرآن الكريم من وصايا لقمان ما ذكَر الحقّ سبحانه وتعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} .
فالربط بين قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالصبر على ما يصيب الدّعاة: إشارة لما يمكن أن ينزل بهم من إيذاء وفِتن وابتلاءات. وآيات الصبر في القرآن الكريم والتي جاءت في أكثر من مائة آية تخلق في الدّعاة ملَكات كثيرة منها:
1 -
عدم اليأس والقنوط من إصلاح البشَر، فالفطرة الإنسانية مجبولة على الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم:((كلّ مولود يولَد على الفِطرة)).
وقد يتأثّر الشخص بعوامل كثيرة؛ فالواجب على الدّعاة ألاّ يفقدوا الأمل في إصلاح النفوس وهداية القلوب.
2 -
أن يصبر على ممارسة الدّعوة، ولا يتوقف في مرحلة من مراحل حياته لسبب من الأسباب؛ بل يظلّ عطاؤه متجدِّداً ومُستمِراً.
3 -
على الدّاعي أن لا يضيق ذرعاً بالناس، ولا يحنق عليهم، بل يتودّد إليهم ويترفّق بهم، ويحلُم عليهم.
4 -
أن يصبر على المعاندين والمعارضين، لعل الله يهديَهم على يديه، فينال بذلك الثواب العظيم؛ يقول صلى الله عليه وسلم:((لأنْ يهديَ الله بك رجُلاً أحَبّ إليك من حُمر النَّعَم)).
وهكذا يتبيّن بوضوح وجلاء ما ينبغي أن يتحلّى به الدعاة إلى الله من خُلُق الصبر والحِلم وسعة الصدر.
هذا، وبالله التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.