الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس
(العلوم التي يحتاج إليها الداعية (2))
1 -
الثقافة الإسلامية
التعريف باللّغة العربية
الحمد لله الرحمن، علّم القرآن، خلَق الإنسان، علّمه البيان، والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسُل الذي آتاه الله الحكمة وفصْل الخطاب، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدِّين. أما بعد:
اللّغة العربية إحدى اللّغات السّاميّة، انشعبت هي وهنّ من أرومةٍ واحدة، نبتت في أرض واحدة. فلمّا خرج السّاميّون من مهدهم لتكاثر عددهم، اختلفت لغتهم الأولى بالاشتقاق والاختلاط، حتى أصبحت كلّ لهجة منها لغة مستقلّة. والعلماء يردّون اللغات السامية إلى: الآرامية، والكنعانية، والعربية.
ولغات العرب -على تعدّدها واختلافها- إنما ترجع إلى لغتيْن أصليّتيْن: لغة الشمال باليمن، ولغة الجنوب في الحجاز ونجد.
على أنّ اللغتيْن -وإن اختلفتا- فلم تكن إحداهما بمعزل عن الأخرى؛ فقد تلاقتا وتلاقحتا من خلال اتّصال القحطانيِّين بالعدنانيِّين، ولا سيما بعد انهيار سدّ مأرب عام (447 ق. م)، ونزوح عرب الشمال "القحطانيّين" من اليمن إلى شمال شبه الجزيرة العربية.
ولقد آلت إلى قريش ريادة اللغة العربية، وتجمّعت لديها أروع أساليب البلاغة والفصاحة التي سادت بهما على العرب جميعاً، لِما لِمكّة من مكانة تسمو بها عليهم، ولا سيما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو من أشرفهم نسباً وأفصحهم بياناً. وقد تنزّل القرآن الكريم بلسانهم، فارتفعت منزلتُهم وسما قدْرُهم، وعلا شأنهم على غيرهم من القبائل.
أهمّيّة اللغة العربية في ثقافة الدّعاة:
اللغة العربية من اللغات الحيّة، فهي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لها سلطانها على النفوس، وقوّة تأثيرها على الأفكار، وسحْر بيانها على العقول.
ويصف الدكتور محمد كامل الفقي عن أثر اللغة العربية على الدعاة ممّن تخرّجوا في رحاب الأزهر، وانساحوا إلى أقطار العالم الإسلامي وجامعاته ومعاهده، فتربّتْ على أيديهم أجيال وأجيال أصبحوا رواد الفكر في كلّ قطر، وزعماء اليقظة والنهضة في كلّ بلد، يقول:"فلقد كان الأزهر -ولا يزال- عكاظ الأمّة العربية، وميدان فرسان البلاغة. ولقد تهيّأ لكثير من الأزهريِّين مِن طول المراس، واعتياد القول، ومعاطاة الحوار والوعظ والجدل، رصانة في الأسلوب، ودقّة في التعبير، وسموّ في البيان، وطلاقة في اللسان، وفيض في الخواطر، وتدفّق في المشاعر، واقتدار على المباغتة والمفاجأة. وإنك لتسمع إلى خطبائهم البارعين فيخيّل إليك أنك تسمع في البادية عَربها الفصحاء، ومقاويلها البلغاء، يخطبون فيتسابقون، ويرتجلون فينافسون. يقف الخطيب منهم فتجده لا يتلكّأ ولا يتلعثم، ولا يعيد قولاً أو يكرّر جملة، أو يمسح عثنوناً، رصين الأداء، بليغ الحجة، سليم العبارة، مُحكَم الدليل. يزين خطابه درٌ من الكتاب المبين، ويُشرق في حديثه الأدب النبوي، ويلمح في جنباته روائع من أدب العرب وشعرهم".
هذه الصورة المتألِّقة التي يصفها الدكتور الفقي للدّعاة ينبغي أن يتّصف بها كثير من العاملين في ميدان الدّعوة، ويمكن تحصيلها بالوسائل التالية:
أولاً: حفظ القرآن الكريم، وتذوّق أساليبه، وتدبّر معانيه، والوقوف على وجوه إعجازه وشرائعه.
ثانياً: تعميق الصّلة بالأدب النّبوي الكريم الذي له أثر على أداء الدّعاة، لما ينفرد به صلى الله عليه وسلم من فصاحة التّكلّم، وروعة المنطق، ودقّة التعبير. فقد أوتيَ صلى الله عليه وسلم جوامع الكلِم.
ويتحدّث أديب العربية المرحوم أحمد حسن الزيات عن بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي على الدّعاة أن يحذوا حذْوه ويقتفوا أثره، في الفصاحة وحسن البيان،
فيقول رحمه الله: "إذا كان كلام الله كتاب البيان المعجِز، فإن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم سُنّة هذا البيان".
وإذا كان البلاغ صفة كلّ رسول، فإن البلاغة صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجمّعت فيه صلى الله عليه وسلم خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة. فلقد وُلد في بني هاشم، واستُرضع في بني سعد، وتزوّج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو -وهم الأوس والخزرج-. ثم كمّله الله برجاحة العقل، وسماحة الخلق، وصفاء النفس، وقوة الطبع، وثقوب الذهن، وتمكّن اللسان، ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته، مُظهراً لكنوزه. كل ذلك قد مكّن للرسول صلى الله عليه وسلم من ناصية البلاغة، فأسلست له الألفاظ، وأسمت له المعاني، فلم ينِدّ في لسانه لفْظ، ولم يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعزب عن علْمه لغة، ممّا جعل الصحابة يعجبون من تلك الفصاحة، فيقول لهم:((أدّبني ربّي فأحسن تأديبي. ورُبِّيتُ في بني سعد)).
ثالثاً: نشأة علوم اللّغة العربية:
اشتهر العرب من بين الأمم بالفصاحة والبلاغة، وحُسن التعبير، وجمال التصوير. يجري كلامُهم على الطّبع ليس فيه تكلّف ولا زُخرف. يعبِّر أصدق تعبير عن البيئة الصحراوية، بما تحمل من خُلُق الشهامة والمروءة والنجدة. أمّة تتيه فخراً بفرسانها وشعرائها، وتدفع للصدارة حكماءها وخطباءها. وكانت اللغة العربية خالية من التنقيط والتشكيل، إذ إن العربي كان ينطق بالفطرة، ويراعي القواعد بالسليقة، ليست فيه كلمة نابية أو عبارة جافية. فأسلوبهم قويّ اللفظ، متين التركيب، يتّسم بنصاعة البيان، وطلاقة البديهة، ووضوح التعبير، وجلاء الفكرة. ولا يتعثّر لهم لسان، ولا يسقط من كلامهم حرف، ولا تشذّ عن النطق السليم كلمة، ولا تغيب عنهم قاعدة من قواعد الإعراب لحظة؛ فهم يراعونها بالفطرة، ويلتزمون مخارج الحروف بالسليقة.
وازدادت بلاغة العرب وتألّقت فصاحتهم -لا سيما قريش-، حينما نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، أعجز البلغاء وحيّر الفصحاء، فعدّل مسار الفصاحة والبلاغة اللّتيْن كانتا يُتبارى بهما في المفاخرة والمنافرة، والمدح والهجاء، واستجاشة المشاعر وإثارة العواطف، لإيقاد نار الفتنة وتسعير لظى الحروب. نجد هذا كلّه يتغيّر بين ظلال الإسلام وعلى مائدة القرآن وهدي السّنّة، إلى الدعوة للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإلى الفضيلة ومكارم الأخلاق ومعالي الأمور. وتجاوبت فطرة العربي مع بلاغة القرآن الكريم وفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأثمرت وأينعت خير أمّة أخرجت للناس، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
وكان اللسان العربي هو المعبّر عن عظمة الإسلام، والوسيلة التي يُشرح بها تعاليمه ويدعو الناس للدخول في دين الله. وكان نطق العربي، كما كان العهد به، مستقيماً خالياً من اللحن، سليماً من الخطإ. ومع انتشار الإسلام وخروج العرب فاتحين للفُرس والروم، ومع اختلاطهم بالأعاجم، بدأ اللّحن يتسرّب إلى اللغة العربية، وبدأت بعض الهفوات والسقطات تظهر بين ثنايا الكلام. وخشي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتسرّب اللّحن إلى القرآن الكريم، ووقعت بعض الألسنة في الخطإ أثناء التلاوة، فهبّ العلماء من المسلمين للمحافظة على اللغة العربية في تقويم مفرداتها وقواعد تصريفها، ولضبط حركات أواخر الكلمات باختلاف أحوال مواقعها من الجملة.
وقد ذكَر المؤرِّخون عدّة روايات تاريخية حول دوافع تأسيس علْم النحو، منها:
الراوية الأولى: جاء فيها: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ على قوم يُسيئون الرّمي، فقرّعهم على ذلك، فقالوا له:"نحن قوم متعلِّمين". فساءه اللحن الذي وقع في
كلامهم، إذ لم يقولوا:"نحن قومٌ متعلِّمون"، أكثر ممّا إساءه خطؤُهم في الرمي، وأعرض عنهم مغضباً، وقال:"والله لَخطؤكم في لسانكم أشدُّ عليّ من خَطَئكم في رميكم". كما وقع خطأ قارئ القرآن الكريم حينما تلا قول الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، فقرأ كلمة {وَرَسُولُهُ} بكسر اللام، وهذا خطأ فاحش يُغيِّر المعنى تغييراً كبيراً، ويوقع في الإثم والمعصية.
إزاء تسلّل اللّحن، خشي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتشر الخطأ في اللّغة العربية، وينتقل إلى القرآن الكريم، فكُلِّف أبو الأسود الدؤلي من قِبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو مِن قِبَل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، على اختلاف في الروايتيْن.
المهمّ أنه بدأ الاتّجاه لصَوْن اللغة العربية، فوُضعت النقاط فوق الحروف، وتمّ تقسيم الكلام إلى: اسم، وفعْل، وحَرْف. ووضعت قواعد الإعراب لضبط نهاية الجملة، وتمّ تأسيس علْم النحو والصرف. ثم تتابعت علوم البلاغة (المعاني، البيان، البديع).
وكثرت مدارس النحو، وتوالت الجهود لحفْظ اللغة العربية وآدابها. وما زالت هذه المؤلَّفات والمصادر ومعاجم اللغة بين أيدي المسلمين علماء وطلاباً وباحثين.
ثالثاً: كيف يتدرّب الدّعاة على اللّغة ومراعاة قواعدها؟
إنّ نعمة البيان من أجَلِّ النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
فاللسان هو المعبِّر عمّا يجيش به الفؤاد، النّاطق عمّا يجول في القلب والوجدان. وبحُسن المنطق وسلامة التعبير يتمّ التفاهم بين بني الإنسان، وينشأ التعارف بين
الأمم والأوطان. وهو أداة لنقل العلوم والمعارف، وهو عنوان البلاغة وأمارة الفصاحة، به تُستمال القلوب، وتنقاد الأمم والشعوب. وهو لسان حال الدّعوة إلى الله، والأداة الفعّالة لتبليغها.
والدّعاة إلى الله هم أحوج الناس لسلامة اللغة، ويجب مراعاتهم لقواعد الإعراب، وحُسن المنطق، وروعة البيان، ودقّة التعبير، والتّمكّن من توضيح فكرة ما يدعون إليه، ومدى تفهّم المستمع لِمَا يتحدثون به؛ إذ إن العلاقة بين المتكلِّم والمستمع كالعلاقة بين جهازَيِ الإرسال والاستقبال.
فالمتكلِّم ينبغي أن يكون حَسَن الإرسال بحُسْن اللغة وسلامة المنطق، وصدْق العاطفة. والمستمع يجب أن يكون لديْه حُسن استقبال لِما يُلقى إليه، فيكون في يقظة وانتباه، ويُنصت بذهن صافٍ وصدرٍ منشرح. ولن يتسنّى للدّعاة تحقيق ذلك إلاّ بالأمور التالية:
أولاً: معرفة قواعد الإعراب، ويتمّ هذا بدراسة علْم النحو وقواعده، وبجانب الدراسات يكون التدريب على النطق السليم، ومراعاة مخارج الحروف، والوقوف على الجمل المفيدة، مع ملاحظة حركة آخر الكلمة وموقعها من الإعراب. وفي البداية يلتزم الداعية أو طالب العلْم إذا قرأ في كتاب، أن يرفع صوته ويُسمع نفسه، فتشترك العين بالنظر، واللسان بالنطق، والأذن بالسمع، والعقل يضبط إيقاع الكلمة وسلامة حركتها.
ثانياً: يجب على الدّاعي إلى الله: أن يكون شغوفاً بالعلْم نهِماً للقراءة، حَسن الاطلاع لكتب العلم والأدب؛ فكُتب العلْم تُزوِّد معارفه، وتُكثر ثقافته، فينمو عقله وتتّسع مداركه.