الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمّا كتب الأدب من قصص هادفة، أو نثر بأسلوب راقٍ، أو شعر يحرك المشاعر ويستنهض الهمم، فهو ميدان فسيح يفيض بفنون وأساليب القول. فقرائح الخطباء والأدباء والشعراء، وحِكم الحكماء -ما قبل الإسلام وبعده- زاخرة بذلك. فإنّ التطوف في رياض الأدب، والتّريّض بين قطوفه وأثماره، والوقوف بين ظلاله وأفنانه، يُكوِّنان في الداعية رصيداً ضخماً من الكلمات الأدبية السامية، ويُنمي ثروةً كبيرة من الجمل الرفيعة العالية. ومن خلال التزود بالعلوم الشرعية، وتذوق الإحساس الأدبي الراقي الجميل، فإن هذا يولِّد في نفس الداعية ملَكة التعبير، وصدْق العاطفة، ونبْل المشاعر، وإخلاص النِّيّة، وسلامة الطّويّة.
ممّا سبق، تتّضح أهميّة اللغة العربية وآدابها في تكوين عقل وفكر الدّعاة إلى الله.
المصدر الخامس من مصادر الثقافة الإسلامية: علْم التّاريخ
التاريخ مرآة الأمَم، وذاكرة الشعوب، والسّجلّ الحافل بالأحداث والوقائع. يكتب تقدّم الأمم وازدهارها، ويرصد أفول نجْمها وغروب شمسها. وتاريخ الإسلام عظيم مليء بالدروس، زاخرٌ بالعِبَر، ثريّ بالأحداث الجسام. سُطِّرت صفحاته بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وبمواقف رجاله الأشاوس وقادته الأماجد، في معظم فترات تاريخه. وتاريخ الإسلام هو تاريخ الإنسانية عبْر وحي السماء ورسالات الأنبياء، من خلال آيات القرآن الكريم الذي دَوّن الأحداث، وساق القصص، وسرد الوقائع، بصدق لا يأتيه الباطل ولا يتسرّب إليه الشّك، ولا تمتد يد لتزوير التاريخ والعبث به وطمْس معالمه، قال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} .
فمنذ أن انطلقت دعوة التوحيد من مكة المكرمة، والتاريخ يرصد أحداث الإسلام، ويسجّل أحواله المتتابعة والمتلاحقة، ويرمق بعين الشاهد الأمين تقلّب أحوال المسلمين. وقد تعجّب المؤرِّخون والراصدون لمسيرة المسلمين عبر القرون والدهور، فيرون أحوالهم كأمواج البحر، أحياناً هادئة تعلوها سماء صافية وشمس مشرقة، وأحياناً أخرى تكون أحوالهم كالموج الثائر والشّلاّل الهادر والعواصف العاتية، وكالليل المظلم الذي طال سواده. ويرقبهم التاريخ عن كثب، فأحياناً يجدهم أمّة متّحدة تحت سقف الخلافة الراشدة، وحيناً يراهم ممزّقين في دويلات صغيرة متحاربة ومتنافرة. ويشاهد التاريخ المسلمين وهم يرتدون رداء العقيدة، ويتزيّنون بلباس التقوى، ويكتسون بكساء القوة والعزة، فعبؤوا قُواهم، وحشدوا طاقاتهم، وتحصّنوا بدينهم، فتقهقرت أمامهم جيوش، وطويت تحت أقدامهم ممالك وأمم ترى نور الإسلام في مقدمهم والرحمة تتقدّمهم.
وفي مراحل أخرى، يأسف التاريخ لهم، ويحزن عليهم، ويسكب دموعه، حينما يرى الحقد الأسود والغلّ الدفين تنطق به عيون الدّول مِن حولهم، ويتنمرون بهم فيحتلّون أرضهم ويستعبدون شعوبهم، وينهبون خيراتهم.
ولكن ما يلبث التاريخ والمؤرّخون الذين يرصدون حركة الإسلام ويراقبون أحوال المسلمين ويسجّلون أحداثهم، أن يفاجَؤوا بالحياة تدبّ في أوصال الشعوب الإسلامية، وتسري في عروقهم حرارة الإيمان، فتتعالى صيحات اليقظة وتتنادى أصوات الصحوة، ويستجيب المسلمون في المشارق والمغارب، فيهبّ الإسلام واقفاً على قدميْه، شامخ الرأس، يُعيد سالف مجْده وسابق عظمته، موثقاً الإنسانية بعُرَى وحي السماء ورسالات الأنبياء، وأحداث التاريخ خير شاهد على ذلك.
والله تبارك وتعالى يقول عن حركة التاريخ الإسلامي، وعن حركة سيادة المسلمين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
إنّ تاريخ الإسلام، العظيم بأحداثه الهائلة، وأحواله المتغيِّرة بين قوّة وضعف، وارتفاع وانخفاض، وانتصارات وهزائم، ما ينبغي للدّعاة إلى الله أن يتجاهلوا وقائعه، أو أن يغمضوا الأعين عن نوازله؛ ولكن يجب عليهم أن يكونوا على بصيرة ووعْي بحركة التاريخ، يلِجون أبواب عصره، ويقرؤون ما بين سطوره، ليستلهموا منها الدروس والعِبَر، ولِيُبَصِّروا المسلمين بحقائق التاريخ الإسلامي. ويمكن للدّعاة أن يتتتّبعوا تاريخ الإنسانية عموماً والإسلام خصوصاً من خلال مناهج وأساليب البحث التالية:
أولاً: قواعد المنهج العلّمي لدراسة التاريخ:
المنهج في دراسة التاريخ يعني: القواعد والشروط التي يجب مراعاتها عند معالجة أي حدث تاريخي. وتتناول هذه الشروط: الكاتبَ -أو المتكلِّم نفسه-، والمصادرَ التي يَستمِدّ منها معلوماته.
ويمكن استخلاص سمات، أو أصول، أو قواعد هذا المنهج في النقاط الآتية:
1 -
استخدام الأدلّة والوثائق، بعد التأكّد من صحّتها.
2 -
حُسن استخدام الأدلّة والوثائق، وذلك باتّباع التنظيم الملائم للأداة، مع تحرير المسائل وحُسن عرْضها.
3 -
الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهّرة الصحيحة، ومن ذلك: الإيمان بالغيب، والجزاء، والقضاء والقَدَر، وردّ كل ما خالف ذلك.
4 -
تحرِّي الصِّدق في استقصاء جميع الروايات والأدلّة حول الحدث الواحد، وإيرادها، ثم الجمْع بينها إن أمكن ذلك، أو الترجيح بين الروايات المختلفة، وفقاً للقواعد المقرّرة في التحقيق، مع الاستعانة بأقوال العلماء الثقات.
5 -
بيان المصادر والمراجع التي استمدّ منها معلوماته، مع الضبط المتقَن في نقل الأقوال ونِسبتها لأصحابها.
6 -
الاعتماد على النصوص الشرعية والحقائق العلْمية، ونبْذ الخرافات.
7 -
الالتزام بقواعد اللغة العربية، وعدم إخراج اللفظ عن دلالته، إلاّ إذا وُجدت قرينة صارفة له عن دلالته المباشرة.
8 -
استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية، مثل: المؤمن، الكافر، والمنافق، إذ لكلٍ من هذه المصطلحات صفات محدّدة ثاتبة وردت في القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذا لا ينبغي العدول عن هذه المصطلحات إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية. كذلك فإنّ الحُكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن تُستخدم فيه المصطلحات الشرعية، كالخير والشر، والحق والباطل، والعدل.
9 -
اعتبار المصادر الشرعية والأصلية، وتقديمها على كلّ المصادر؛ إذ يجب على الباحث المسلم: أن يعتمد على القرآن الكريم، ويعتبره مصدراً أساسياً في استيفاء معلوماته عن الأنبياء والأمم السابقة، لأن القرآن الكريم قطعيّ الثبوت، ويأتي بعده الحديث النبوي في قوة الثبوت.
10 -
التّجرّد من الأهواء المذهبية، أو العنصرية، أو القومية، أو السياسية.
11 -
معرفة مناهج الإخباريِّين والمؤرِّخين القدماء. ونجعل الطبري مثالاً في هذا الجانب، بوصفه مصدراً من أبرز مصادر التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام
وقبْله. فعلى المؤرِّخ الحديث بصفة خاصة: أن يَعْرف أنّ الطبري قد استخدم في تاريخه نفس منهج علماء الحديث في نقل الأخبار، أي: الإسناد، إلا أنه يختلف معهم في أمر مهمّ، إذ لم يقم بتخريج أو تعديل رواة الأخبار، ولذلك لم يتشدّد فيها تشدّد رجال الحديث.
12 -
معرفة حق الصحابة -رضوان الله عليهم- وعدالتهم، فالصحابة عدولٌ بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو اعتقاد أهل السّنّة والجماعة؛ فقد قال الله فيهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
هذا المنهج يجب أن يضعه الباحثون والدّعاة نصْب أعينهم في استقراء التاريخ، وتفهّم أحداثه وأخباره.
ثانياً: السّيْر في الأرض، والتنقيب على آثار الأقدمين، وقراءة ما كُتب على حفريّاتهم، فهي لسان صدْق وتاريخ حق لمعرفة أحوالهم، والوقوف على أخبارهم، واستجلاء العبَر ممّا حلّ بهم ونزل بديارهم.
وقد تحدّث القرآن الكريم في أكثر من آية، على قانون السّيْر في الأرض، والنظر في سِيَر الغابرين، قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} .
وتحدّث القرآن الكريم عن هلاك فرعون، ولفْظ البحر لجسده لِيُحفظ ويُحنَّط، ليكون عبرة لكلّ جبّار عنيد في كل زمان ومكان، قال تعالى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} .
ثالثاً: قَصص القرآن الكريم:
يجب على الدّعاة أن يكونوا على علْم وبصيرة بقصص القرآن الكريم؛ فهو قَصص حقّ وشاهد صدْق على تاريخ وأخبار الأمم السابقة، وموقفهم من أنبيائهم، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} .
وقد أمَر القرآن الكريم الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يقرأ عليهم قصص السابقين، وأخبار الماضين، فقال تعالى:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
رابعاً: دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم دراسة مستفيضة، وأن يقتبس منها الدّعاة العظات والعِبَر؛ فهي تتناول مراحل الدّعوة، وأساليبها، ووسائلها، ونتائجها، في مكة