المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حاجة الدعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة - أصول الدعوة وطرقها ٢ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 من أخلاق الدعاة إلى الله

- ‌التعريف ببعض الكلمات التي لها صِلة بالدّعوة إلى الله على بصيرة

- ‌بيان السُّبل والوسائل التي تُعين الدّعاة على الدّعوة إلى الله على علْم وبصيرة

- ‌تعريف "الصّبر" في اللغة والاصطلاح

- ‌مجالات الصّبر وميادينه

- ‌الصّبر الذي تحلّى به أولو العزْم من الرّسُل في ميدان الدّعوة إلى الله

- ‌الدرس: 2 تابع من أخلاق الدعاة إلى الله، والثقافة الإسلامية وأثرها على العالم

- ‌تعريف الصِّدْق

- ‌الأدلّة من القرآن والسُّنّة على خُلق الصِّدق وفضْله

- ‌مراتب الصِّدق

- ‌تحديد مفهوم الثقافة والتعريف بها

- ‌خصائص الثّقافة

- ‌أثر الحضارة والثّقافة الإسلاميّة على العالَم

- ‌ما يمكن أن تقدّمه الحضارة والثقافة الإسلامية للعالَم في هذا العصر

- ‌الدرس: 3 ثقافة الداعية

- ‌ضرورة الثّقافة وأهمِّيّتها للدّعاة إلى الله

- ‌مصادر الثّقافة الإسلاميّة

- ‌تعريف السُّنّة في اللّغة والاصطلاح

- ‌السُّنّة النّبويّة ومكانتها في التشريع

- ‌الدرس: 4 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (1)

- ‌ما يجب على الدّعاة معرفتُه ممّا يتعلّق بسُنّته صلى الله عليه وسلم

- ‌تعريف الشريعة وخصائصها

- ‌حاجة الدّعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة

- ‌التعريف الموجَز بأئمّة الفقه

- ‌الدرس: 5 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (2)

- ‌التعريف باللّغة العربية

- ‌المصدر الخامس من مصادر الثقافة الإسلامية: علْم التّاريخ

- ‌العلوم الاجتماعيّة

- ‌الدرس: 6 قواعد الإفتاء، وشروط إصدار الفتوى

- ‌تعريف الإفتاء في اللغة والاصطلاح

- ‌شروط إصدار الفَتوى وآداب المُفتي والمُسْتفتي

- ‌الدرس: 7 أحوال العرب والعالم قبل الإسلام

- ‌التَّعريف بالعرب

- ‌معتقدات العالم وأديانه قبل بعثة الرَّسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 8 منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في الدعوة إلى الله

- ‌التَّعريف بالمنهج وبيانُ الفرق بينه وبين الأسلوب

- ‌الأسس المنهجية التي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله

- ‌الدرس: 9 المنهج العقلي للدعوة إلى الله

- ‌أولاً: تعريف العقل في اللغة والاصطلاح

- ‌ثانياً: مستقر العقل

- ‌ثالثاً: تعريف المنهج العقلي للدَّعوة إلى الله وارتباطه بالحواس

- ‌رابعاً: مكانة العقل في الإسلام

- ‌خامساً: الدَّعوة إلى الله تقوم على الإقناع العقليِّ

- ‌سادساً: آثار المنهج العقليِّ على المدعُوِّين

- ‌الدرس: 10 المنهج العاطفي في الدعوة إلى الله

- ‌التَّعريف بالمنهجِ العاطفِيِّ

- ‌الأسس التي يقوم عليها المنهجُ العاطفيٌّ للدَّعوة إلى الله

- ‌من دعائم وأسس دعوة الرسل

- ‌الدرس: 11 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (1)

- ‌الإيمان بالغيب

- ‌صلة الملائكة بالبشر

- ‌تصحيح عقيدة البشر عن الملائكة

- ‌وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل

- ‌الإسلام هو الكلمة الجامعة التي انضوت تحتها الرِّسالات السَّماوية جميعها

- ‌الدرس: 12 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (2)

- ‌وجوب الاعتقاد بأنَّهم أكمل الخلق علماً وعملاً، وأصدقهم عقيدة وقولاً، وأعظم الناس أخلاقاً وفضلاً

- ‌النُّبوَّة والرِّسالة قاصرةٌ على الرِّجال فقط

- ‌الإيمان بأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يخصَّ الأنبياء والمرسلين بطبائع غيرِ الطَّبائع البشريَّة

- ‌وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، الوارد ذكرهم في القرآن الكريم، وعدم التَّفرقة بينهم

- ‌وجوب الاعتقاد والإيمان أنهم جميعا -عليهم الصلاة والسلام- قد بلغوا رسالات الله على الوجه الأكمل

- ‌الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم أو السنة الشريفة بشأن الأنبياء والمرسلين

- ‌الآثار المترتبة على وجوب الإيمان بالأنبياء والمرسلين

- ‌الدرس: 13 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (3)

- ‌تمهيد حول الإيمان بالكتب المنزلة

- ‌يجب الإيمان والتَّصديق بالكتب الَّتي أنزلها الله على أنبيائه ورسله

- ‌حقيقة ما بين يدي أهل الكتاب -اليهود والنصارى- من التوراة والإنجيل الآن وما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلمين من كل منهما

- ‌مراحل الكتابين (التوراة والإنجيل) أولا اليهود

- ‌اليهود والتَّوراة

- ‌الدرس: 14 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (4)

- ‌ما جاء في عقائد اليهود في حقِّ الله -تعالى

- ‌افتراؤهم على أنبياء الله ورسله

- ‌ما يتعلق بحقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى

- ‌موقف النَّاس من عيسى عليه السلام

- ‌حقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى

- ‌حكم الإيمان باليوم الآخر وأهمِّيَّته

- ‌فتنة القبر وسؤال الملكين

- ‌عذابُ القبر ونعيمه

- ‌أشراط الساعة وأماراتها

الفصل: ‌حاجة الدعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة

والعقل شُرع لحفْظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها.

والنسل شُرع لإيجاده الزواج، وشُرع لحفْظه عقوبة الزنى والقذف، وحرمة إجهاض المرأة الحامل إلاّ لضرورة.

والمال شُرع لتحصيله أنواع المعاملات، وشُرع لحفظه حرمة أكل الأموال بالباطل، وتحريم السرقة والغصب والربا.

‌حاجة الدّعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة

من العوامل التي تُساعد الدّعاة لأداء رسالتهم على النحو الأكمل والأنفع: أن يكونوا على علْم وبصيرة لأحكام العبادات والمعاملات، وعلى صلة وثيقة بالمذاهب الفقهية وأئمّتها، بحيث يجتمع لديهم روعةُ البيان، وحُسنُ الاستدلال من القرآن والسّنّة، مع التّفقه في الأحكام الشرعية. وهم بهذا ينالون الفضيلتيْن: الدعوة إلى الله، والتّفقّه في الدِّين، اللّذيْن أمَر الله بهما، قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .

وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

وسوف يتضمّن هذا العنصر المباحث التالية:

أولاً: تعريف الفقه الإسلامي، وبيان خصائصه:

الفقه في اللغة: العلْم بالشيء والفهم له، كما يعني: إدراك غرض المتكلِّم من كلامه، ومنه قوله تعالى:{فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، وقوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} .

ص: 106

وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُرِد اللهُ به خيراً، يُفقِّهْهُ في الدِّين)).

تعريف الفقه في الاصطلاح:

أُطلِق لفظ "الفقه" في الاصطلاح الشرعي على: جميع الأحكام الدِّينية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، سواء أكانت هذه الأحكام متعلّقة بأمور العقيدة، أو بالعبادات، أو المعاملات.

ثم تغيّر هذا المفهوم الاصطلاحي، وصار يُطلَق على: العلْم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلَّفين.

وقيل في تعريفه: هو العلْم بالأحكام الشرعية العمليّة مِن أدلّتها التفصيلية بالاستدلال، والأحكام الشرعية العملية التي تثبت لأفعال المكلَّفين، أي تتعلّق بأفعالهم التي هي من العبادات والمعاملات هي:

أ- الوجوب: ومعنى هذا: أن الفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم يُلزم المكلّف القيامَ به على وجْه الإلزام، ويسمَّى هذا الفعل بـ"الواجب". فالواجب هو: ما طَلب الشّارعُ فعْلَه على وجْه الحتْم والإلزام، كالصلاة، والوفاء بالعقود.

ب- الحُرمة: ومعنى هذا الحُكم: أن الفعل الذي تعلّق به يُلزم المكلَّف ترْكَه على وجه الحتْم والإلزام، ويُسمَّى هذا الفعل المطلوب ترْكه إلزاماً بـ"المحرّم". فالمُحرَّم إذاً هو: ما طَلب الشّارع تَرْكَه على وجْه الإلزام، كالزّنى والسّرقة.

ج- النّدب: أي: طلَب الشّارع القيامَ بالفعل على وجْه التّفضيل والترجيح لا الإلزام، ويُسمَّى هذا الفعل الذي تعلّق به هذا الحكم بـ"المندوب". فالمندوب: ما يُطلب فعْله على وجه التفضيل لا الإلزام، مثل: كتابة الدَّيْن حِفظاً لحقوق الدّائن.

د- الكراهة: طلَب الشارع ترْك الفعل على وجه الترجيح لا الإلزام، ويُسمَّى الفعل الذي تعلّق به هذا الحكم بـ"المكروه".

فالمكروه: ما طلَب الشارعُ ترْكَه على وجه الترجيح لا الإلزام، مثل: إيقاع الطّلاق بلا مُبرِّر.

ص: 107

هـ- الإباحة: ويعني هذا الحُكم: تخيير المكلَّف بين القيام بالفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم وبيْن ترْكه. والفعل المخيَّر بين ترْكه والقيام به يُسمّى بـ"المباح". إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية.

فالفقه في الإسلام يوضِّح للمسلمين كيفية أداء العبادات على الوجه المشروع، ويحمي حقوق العباد، ويؤمِّن لهم ضروريات الحياة، وينظِّم شؤون المجتمع. ولا يوجد على ظهر الأرض قانون جَمَع بين المصالح الدِّينية والدنيويّة كأحكام الفقه الإسلامي، لأنه تشريع سماويٌّ ربّانيّ؛ العملُ به طاعةٌ لله يترتّب عليه الثواب، ومخالفته معصية لله تستوجب العقاب.

ثانياً: مصادر الفقه الإسلامي:

يقوم الفقه في الإسلام على مصادر ثابتة تُستقى منها الأدلة الشرعية، ويُستند إليها في نوعيّة الأمر أو النهي الذي تضمّنه الدليل. ومصادر الفقه ترجع كلّها لِوحْي السماء، سواء أكان قرآناً أم سُنّة، أو إلى ما أشارت إليه نصوص الكتاب والسُّنّة كالإجماع والقياس. وسوف نشير إلى تلك المصادر والتعريف بها في إيجاز، ليتكوّن لدى الدّعاة ثقافة واسعة تُؤهِّلهم تأهيلاً حسناً للقيام بدور الإرشاد والتوجيه بجانب التعليم والتفقيه للمسلمين.

وبذلك يُخلق رأي عام يَفهم أحكام الشريعة ويتذوّق حلاوة الإيمان، ممّا يعود أثَره على المجتمع المسلم خاصة والمجتمعات الإنسانية بصفة عامة.

وهذه المصادر تأتي مرتّبة على النحو التالي:

أولاً: القرآن الكريم:

وهو: كتاب الله المنزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم، المكتوب بين دفّتيِ المصحف المنقول نقلاً متواتراً بلا شبهة. والقرآن الكريم هو المصدر الأوّل للتشريع، والحجّة القائمة على الناس أجمعين ليوم الدِّين.

ص: 108

خصائص القرآن الكريم:

للقرآن الكريم خصائص يتميّز بها وينفرد عن جميع الكتب المُنزَلة على الأنبياء السابقين. ومن هذه الخصائص:

1 -

القرآن لفْظُه ومعناه من عند الله، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .

2 -

القرآن الكريم وصَل إلى الأمّة عبر أجيالها بالتواتر. ومعنى التواتر: أنه نَقَله جمعٌ عن جمْع لا يحصى عددُهم، ولا يَتصوّر العقل تواطؤَهم على الكذب. وهذا الاستمرار والتواتر قائم إلى قيام السّاعة، ممّا يفيد اليقين والعلْم القطعي.

3 -

القرآن الكريم وصل إلينا كاملاً، لم يُنقص منه حَرف ولن تضيع منه كلمة، كذلك لم تزد عليه جملة واحدة، لأن الله تكفل بِحفْظه، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

4 -

القرآن مُعجز بلفظه ومعناه للإنس والجن، قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .

وقد جاء القرآن الكريم بأحكام تتعلّق بالعقائد، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات. والفقه في الإسلام يتناول العبادات والمعاملات. وقد وردت هذه الأحكام على النحو التالي:

أ- القواعد الكلية والمبادئ العامة التي تكوّن أساساً لتفريع الأحكام، ويُترك للعقل البشري أسلوب تطبيقها مع ظروف كلّ عصر. ومن هذا القواعد العامة:

1 -

الأمر بالشّورى، قال تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .

ص: 109

2 -

الأمر بالعدل والحُكم به، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} .

3 -

لا يُسأل الإنسانُ عن ذنب غيره، قال تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

4 -

حرمة مال الغير، قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .

5 -

التعاون على الخير، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .

فهذه أسُس عامّة يُناط لوليّ الأمر ولأهل الحلّ والعقد سَنّ سُبُلَ ووسائلَ وآليّة التنفيذ.

ب- بيان إجمالي يحتاج إلى تفصيل، مثال ذلك:

1 -

وجوب الصلاة والزكاة، قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .

2 -

وجوب الحجّ والعمرة، قال تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .

3 -

وجوب القصاص، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .

4 -

حِلّ البيع وتحريم الربا، قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} .

فهذه أمور جاء بها القرآن الكريم على سبيل الإلزام، وتُرك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لِذِكْر التفصيلات لكلّ أمر من هذه الأمور. فالسّنّة حدّدت عدد الصلوات وهيئتها قال صلى الله عليه وسلم:((صَلُّوا كما رأيْتموني أصلِّي)). وكذلك في سائر العبادات التي أوضحتْها السُّنّة غاية الإيضاح، ولا مجال فيها لاجتهاد مُجتهد ولا لرأي فقيه.

ج- أحكام وتشريعات جاء بها القرآن الكريم بصورة تفصيليّة دقيقة ومحدّدة، ولا سيما ما يتعلق بالأسرة، من زواج، وطلاق، وأنصبة المواريث، والمُحرَّمات من النساء، والحدود. كذلك ما يتعلّق بأمور العقيدة، فقد جاءت على سبيل الإيضاح والتفصيل.

ص: 110

وقد ربط القرآن الكريم الأحكام -سواء ما جاءت على صورة قواعد عامة، أو إجمال، أو تفصيل- برباط العقيدة، وانخرطت في سلك أركان الإيمان، ممّا يُكسبها قداسةً وهيبةً وأهمية وسبباً رئيسياً بالفوز بالجنة عند أدائها، أو القذف في النار عند عدم الإتيان بها أو مخالفة الأمر الوارد فيها.

ثانياً: سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم:

وهي: المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام، وأجمعت الأمّة على حُجِّيّتها ومشروعية الاستدلال بها. وأصبح هذا معلوماً من الدِّين بالضرورة، لا يُنكره إلاّ زنديق ملحدٌ أو غبيّ جاهل.

والأدلّة على حُجِّيّة السُّنة ما يلي:

أ- التصريح بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} .

ب- الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .

ج- وجوب ردّ التنازع إلى الله -أي: إلى كتابه- وإلى الرسول -أي: لسنته-، قال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .

د- وجوب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحصل من خلاف بين الأمّة، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .

ز- لا خيار للمسلم فيما قضى به الله أو قضى به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} .

ص: 111

هـ- أعطى الله الرسول صلى الله عليه وسلم سلطة تنفيذ الأحكام، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .

فمرتبة السّنّة تلي القرآن الكريم في التشريع، ودلّ على هذا: ما رُوي عن معاذ رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سألَه حين بعثه لليمن: كيف تقضي إن عرض عليك قضاء؟))، قلت: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قلت: أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن قضى به رسول الله؟ قلت: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: لا أقصّر-. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري وقال: الحمد الله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لِما يُرضى رسولَ الله)).

وعلى هذا المنهج، سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومِن ذلك: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كتب إلى القاضي شريح: "إذا أتاك أمر، فاقض بما في كتاب الله. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، فاقْضِ بما سَن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

بجانب هذيْن المصدريْن الرئيسيَّيْن: القرآن والسُّنّة، توجد مصادر أخرى تنبثق منهما، ولا تخرج عن حدودهما. من ذلك:

1 -

الإجماع، ويُعرّف لدى علماء الفقه والأصول: "اتّفاق المجتهدين من الأمّة الإسلامية في عصر من العصور، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومستند الإجماع قد يكون من القرآن والسّنة. وقد يكون قياس ما ليس له دليل على نظير له دليل. وقد يستند الإجماع إلى العُرف المنضبطة ثقافته وفكره وسلوكه بثوابت الإسلام، وليس يراد به العرف المعاصر الذي فقَد هويّته وانقطعت صِلَته بثوابته الشرعية.

وممّا أجمعت عليه الأمّة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: قتال المُرتدِّين، وجمع القرآن. والإجماع ممكن في هذا العصر من خلال المجامع الفقهية التي يشترك فيها فقهاء

ص: 112

المسلمين في مكان معيّن، وتُعرض عليهم الوقائع والقضايا المستحدَثة، وإذا أجمعوا على رأي يصير ملزِماً لجميع المسلمين.

2 -

القياس: وهو في اللغة التقدير والمساواة.

وفي الاصطلاح: إلحاق مسألة لا نصّ على حُكمها بمسألة ورَدَ النّصّ بحُكمها، وذلك بسبب تساوي المسألتيْن في علّة الحُكم.

وهو مصدر هامّ من مصادر الأحكام في الشريعة الإسلامية، وبه قوامها، وتتمّ به صلاحيتها لكلّ زمان ومكان.

3 -

الاستحسان: وهو في اللغة: عدّ الشيء حَسَناً.

وفي الاصطلاح: هو العدول عن قياس جليّ -أي: ظاهر- إلى قياس خفيّ.

4 -

المصالح المُرسَلة: وهي المصالح التي لم يُشرّع الشارع أحكاماً لتحقيقها، ولم يقُم دليل معيّن على اعتبارها أو إلغائها. وقد أجاز جمهور العلماء: أن كلّ واقعة ليس فيها نص ولا إجماع ولا قياس ولا استحسان، وفيها مصلحة محقّقة أو درء مفسدة، فللفقيه المجتهد إيجاد حُكم مناسب بما يُحقّق معه المصلحة.

هذه هي مصادر الشريعة الإسلامية التي يُستدل من خلالها على نوعيّة الأحكام الفقهية ودرجة هذا الحُكم، وعلى الدّاعي إلى الله أن يكون عليماً بهذه المصادر، مطّلعاً على شروط استدلال كل منها؛ وبهذا يصبح داعياً مجتهداً فقيهاً عالماً، صاحب ثقافة واسعة تفي بحاجة من يسأله أو يستفتيه. وبذلك تتعمّق الصلة والثقة بين الدّاعي والمدعوِّين، حيث يشعر المسلمون بمدى حاجتهم إليه، فيفتقدونه إذا غاب، ويسألون عنه لحاجتهم إليه، ويفرحون بلقائه، ويستبشرون بحديثه، ويقتنعون بآرائه وفتاواه.

ص: 113