المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ضرورة الثقافة وأهميتها للدعاة إلى الله - أصول الدعوة وطرقها ٢ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 من أخلاق الدعاة إلى الله

- ‌التعريف ببعض الكلمات التي لها صِلة بالدّعوة إلى الله على بصيرة

- ‌بيان السُّبل والوسائل التي تُعين الدّعاة على الدّعوة إلى الله على علْم وبصيرة

- ‌تعريف "الصّبر" في اللغة والاصطلاح

- ‌مجالات الصّبر وميادينه

- ‌الصّبر الذي تحلّى به أولو العزْم من الرّسُل في ميدان الدّعوة إلى الله

- ‌الدرس: 2 تابع من أخلاق الدعاة إلى الله، والثقافة الإسلامية وأثرها على العالم

- ‌تعريف الصِّدْق

- ‌الأدلّة من القرآن والسُّنّة على خُلق الصِّدق وفضْله

- ‌مراتب الصِّدق

- ‌تحديد مفهوم الثقافة والتعريف بها

- ‌خصائص الثّقافة

- ‌أثر الحضارة والثّقافة الإسلاميّة على العالَم

- ‌ما يمكن أن تقدّمه الحضارة والثقافة الإسلامية للعالَم في هذا العصر

- ‌الدرس: 3 ثقافة الداعية

- ‌ضرورة الثّقافة وأهمِّيّتها للدّعاة إلى الله

- ‌مصادر الثّقافة الإسلاميّة

- ‌تعريف السُّنّة في اللّغة والاصطلاح

- ‌السُّنّة النّبويّة ومكانتها في التشريع

- ‌الدرس: 4 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (1)

- ‌ما يجب على الدّعاة معرفتُه ممّا يتعلّق بسُنّته صلى الله عليه وسلم

- ‌تعريف الشريعة وخصائصها

- ‌حاجة الدّعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة

- ‌التعريف الموجَز بأئمّة الفقه

- ‌الدرس: 5 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (2)

- ‌التعريف باللّغة العربية

- ‌المصدر الخامس من مصادر الثقافة الإسلامية: علْم التّاريخ

- ‌العلوم الاجتماعيّة

- ‌الدرس: 6 قواعد الإفتاء، وشروط إصدار الفتوى

- ‌تعريف الإفتاء في اللغة والاصطلاح

- ‌شروط إصدار الفَتوى وآداب المُفتي والمُسْتفتي

- ‌الدرس: 7 أحوال العرب والعالم قبل الإسلام

- ‌التَّعريف بالعرب

- ‌معتقدات العالم وأديانه قبل بعثة الرَّسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 8 منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في الدعوة إلى الله

- ‌التَّعريف بالمنهج وبيانُ الفرق بينه وبين الأسلوب

- ‌الأسس المنهجية التي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله

- ‌الدرس: 9 المنهج العقلي للدعوة إلى الله

- ‌أولاً: تعريف العقل في اللغة والاصطلاح

- ‌ثانياً: مستقر العقل

- ‌ثالثاً: تعريف المنهج العقلي للدَّعوة إلى الله وارتباطه بالحواس

- ‌رابعاً: مكانة العقل في الإسلام

- ‌خامساً: الدَّعوة إلى الله تقوم على الإقناع العقليِّ

- ‌سادساً: آثار المنهج العقليِّ على المدعُوِّين

- ‌الدرس: 10 المنهج العاطفي في الدعوة إلى الله

- ‌التَّعريف بالمنهجِ العاطفِيِّ

- ‌الأسس التي يقوم عليها المنهجُ العاطفيٌّ للدَّعوة إلى الله

- ‌من دعائم وأسس دعوة الرسل

- ‌الدرس: 11 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (1)

- ‌الإيمان بالغيب

- ‌صلة الملائكة بالبشر

- ‌تصحيح عقيدة البشر عن الملائكة

- ‌وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل

- ‌الإسلام هو الكلمة الجامعة التي انضوت تحتها الرِّسالات السَّماوية جميعها

- ‌الدرس: 12 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (2)

- ‌وجوب الاعتقاد بأنَّهم أكمل الخلق علماً وعملاً، وأصدقهم عقيدة وقولاً، وأعظم الناس أخلاقاً وفضلاً

- ‌النُّبوَّة والرِّسالة قاصرةٌ على الرِّجال فقط

- ‌الإيمان بأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يخصَّ الأنبياء والمرسلين بطبائع غيرِ الطَّبائع البشريَّة

- ‌وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، الوارد ذكرهم في القرآن الكريم، وعدم التَّفرقة بينهم

- ‌وجوب الاعتقاد والإيمان أنهم جميعا -عليهم الصلاة والسلام- قد بلغوا رسالات الله على الوجه الأكمل

- ‌الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم أو السنة الشريفة بشأن الأنبياء والمرسلين

- ‌الآثار المترتبة على وجوب الإيمان بالأنبياء والمرسلين

- ‌الدرس: 13 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (3)

- ‌تمهيد حول الإيمان بالكتب المنزلة

- ‌يجب الإيمان والتَّصديق بالكتب الَّتي أنزلها الله على أنبيائه ورسله

- ‌حقيقة ما بين يدي أهل الكتاب -اليهود والنصارى- من التوراة والإنجيل الآن وما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلمين من كل منهما

- ‌مراحل الكتابين (التوراة والإنجيل) أولا اليهود

- ‌اليهود والتَّوراة

- ‌الدرس: 14 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (4)

- ‌ما جاء في عقائد اليهود في حقِّ الله -تعالى

- ‌افتراؤهم على أنبياء الله ورسله

- ‌ما يتعلق بحقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى

- ‌موقف النَّاس من عيسى عليه السلام

- ‌حقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى

- ‌حكم الإيمان باليوم الآخر وأهمِّيَّته

- ‌فتنة القبر وسؤال الملكين

- ‌عذابُ القبر ونعيمه

- ‌أشراط الساعة وأماراتها

الفصل: ‌ضرورة الثقافة وأهميتها للدعاة إلى الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثالث

(ثقافة الدّاعية)

1 -

ثقافة الدّاعية

‌ضرورة الثّقافة وأهمِّيّتها للدّعاة إلى الله

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسل، آتاه الله مِن لدُنه علْماً، وكان فضل الله عليه عظيماً، وعلى آله وأصحابه، الذين تفقّهوا في دين الله، فكانوا هداةً صالحين، ولدعوة الله مُبلِّغين مُخلصين. أما بعد:

الدّعوة إلى الله نظام حياة، ومنهج دِين، ورسالة أمّة، تقوم على الفهم الصحيح والفقه الدقيق، والفكر المستنير، والثقافة الواسعة، والبصيرة الوضاحة، والحِكمة والموعظة الحسنة؛ قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

ولن يقوم بهذا الأمر العظيم والشّرف الرفيع إلاّ إنسان ذو ملكات خاصة، ومواهب متميّزة، وعلْم غزير، وثقافة متنوّعة، تُمكِّنه من استمالة القلوب، والتأثير على النفوس، وتحريك العواطف والمشاعر واستنهاض الهمم، وتقوية العزائم، وإنارة البصائر، والتعريف بأصول الدِّين وشرائعه ونُظمه؛ ولذلك فإنّ الإعداد العلْمي أحَد مقومات نجاح الدّعاة إلى الله.

وهو إعداد ليس بالأمر السّهل أو الشيء الهيِّن، كما ينظر إليه البعض خطأً فيعتقد أنه يأتي في نهاية الأوْلويّات وفي مؤخّرة التّخصصّات، حيث يدفع إلى كلّيّات الدّعوة ومعاهدها مَن حال مجموعهم في الدرجات دون دخول ما يريدون مِن كلّيّات ومعاهد يُسمّونها: كلِّيّات القمّة، فتوصد أبوابها في وجه أصحاب المجاميع المتدنِّية، فيدخلون كلّية الدّعوة وأصول الدِّين مُرغَمين ولِتخصّصها مُكرَهين. وحينما يتخرّجون، يُدفع بهم إلى ميدان الدّعوة إلى الله وهم فيه زاهدون وعن القيام بالدّعوة إلى الله مُعرِضين، فتخلو الساحة من رجالات الدّعوة وفُرسانها. وينزل إلى الميدان كلّ شارد ووارد ممّن هم فقراء في الثقافة، قليلون في العلْم، لا يُحسنون استمالة القلوب ولا التّأثير على النفوس. وتصبح الدّعوة إلى الله بالنسبة لهم وظيفة لا رسالة، وعادة لا عبادة، ممّا تنعكس آثارُه

ص: 73

السّيِّئة على جمهور المسلمين، فيسعَوْن إليهم يوم الجمعة والمحافل وهم مُتثاقلو الخُطى، منصرفون عن الإنصات لكلامهم، يضيقون ذرعاً بإرشادهم.

فيعمّ الجهل في الدِّين، ويقل الفهم لأحكامه، وتصبح الفرصة سانحة لأصحاب الفكر المتطرِّف وذوي الفهم الخاطئ لنصوصه وشرائعه، فتعمّ الفتن وتثور القلاقل ويحدث ما لا تُحمد عقباه.

لهذه الأسباب، ينبغي إعداد الدّعاة إلى الله إعداداً علمياً دقيقاً، وتكوينهم تكويناً ثقافياً يُؤهِّلهم تأهيلاً جيّداً للقيام بأعباء الدّعوة، وتحمُّل تبِعاتها، ونيْل شرف أداء رسالتها. قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

ولخطورة الإعداد العلْمي وأهمِّيّته، يأمر القرآن الكريم المسلمين بحَشْد طاقاتهم ورصْد مواردهم واختيار النّابهين من أبنائهم، من ذوي القُدرات الخاصة والمواهب المتميِّزة، ليكونوا دعاة إلى الله، قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .

فقد أشارت الآية الكريمة إشارات توجيهيّة واضحة، لإعداد جماعة مؤهَّلة عقائدياً وأخلاقياً وثقافياً للدّعوة إلى الله.

ويُمكن استنباطها من الآية على النحو التالي:

أوّلاً: عبّرت الآية عن استنهاض الهمم وشحذ العزائم بكلمة {نَفَرَ} ، وهي كلمة لا تُستعمل إلاّ في مجال الاستنفار العام في سبيل الله، والتعبئة والحشْد وحسن الاستعداد للجهاد. قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

ص: 74

ثانياً: أشارت الآية إشارة لطيفة إلى وجوب تنوّع التّخصّصات وتوزيع الأعمال، وذلك بأن يُختار لكلِّ مجال من مجالات الحياة مَن يتخصّص فيه ويُبدع ويُنتج، فقال تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} ، أي: من بعضهم: فجماعة تتخصّص في الدعوة، وأخرى تتخصّص في فرع من فروع المعرفة الإنسانية.

ثالثاً: أشارت الآية إلى أنّ الأمر لا يتوقّف على اختيار جماعة فقط، ولكن يجب أن يتبع الاختيارَ الإعدادُ الجيّد، والتّكوينُ الدّقيق، والتّفقّه في الدِّين؛ فقال تعالى:{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} . وهذا معيار نجاح الدّاعية؛ فبجانب معرفته بأساليب الدّعوة ووسائلها، يجب عليه أن يكون فقيهاً بأحكام الشريعة الإسلامية، حتى يجمع بين فضيلتَي: الفتوى والدّعوة إلى الله.

قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُرد الله به خيراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)). وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عمّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ((اللهمّ فَقِّهْهُ في الدِّين، وعلِّمْه التّأويل)).

رابعاً: الآية تُلقي العبْء على الدّعاة بعدما تعلّموا وتفقّهوا، أن يبرحوا أماكن الدارسة ومواطن تلقِّي العلوم، ويرجعوا إلى ديارهم وعشيرتهم، ويُعلِّمونهم أمور الدِّين ويحذِّرونهم من عواقب مخالفة شرْع الله والتّجرؤ على معصيته، فخُتمت الآية بقوله تعالى:{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . والتّزوّد بالعلْم لا نهاية له، والتّوسّع في الثقافة والمعارف لا حدود لها، ولذلك أمَر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من العلْم، فقال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .

وإنّ رحلة موسى في طلَب العلْم، وتجشُّمه الصِّعاب في طول الأسفار وفي الحلّ والتّرحال، وشدّة عزْمه في طلَب المعرفة ولو طال به الزّمن ومرّت به الأحقاب

ص: 75

الطويلة، لم يَحُلْ دون تحقيق بُغْيته في تحصيل المعرفة. وإننا إذ نضع هذه القصة بين يدي الدّارسين للعلْم المُحبِّين للثقافة، فهي تحدّد منهج طلَب العلْم، وتضع الضوابط بين الأستاذ والطالب. وتدور أحداثها في سورة (الكهف) على النحو التالي:

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} .

هذه عشْر آيات من سورة (الكهف) تضع القواعد والأسُس في طلَب العلْم والتّوسّع في المعرفة، نضع ما يُستفاد منها أمام الدّعاة وطلاب العلْم لتنبيه العقول، وشحْذ الهمم، وشدّ العزائم، لإعداد علماء ودعاة وفْق منهج وحْي السماء ورسالات الأنبياء.

ومن هذه الدروس ما يلي:

أوّلاً: أن العلْم بحر لا ساحل له، ومحيط لا نهاية له، قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . فلقد روى البخاري في سبب قصة موسى عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أيّ الناس

ص: 76

أعْلم؟ قال: أنا. فعَتَب الله عليه أنه لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إنّ عبْداً بمجمَع البحريْن هو أعْلَم منك. قال موسى: يا ربّ، وكيف لي به؟)) الحديث.

فهذا إشارة على العالِم أن لا يغترّ بما عنده من علوم، وأن لا يزهو ويفتخر بما لديه من معارف.

ثانياً: مشروعيّة الرحلة في طلَب العلْم، والعزم والإصرار على تحصيله، وتكبّد المشاقّ والصعاب في سبيله، وأن يظلّ الإنسان طول عمره يتزوّد بالثقافة؛ يُؤخذ هذا من قول موسى:{لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} ، وقوله لغلامه:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} .

ثالثاً: على طالب العلْم أن يُدقِّق في اختيار من يتلقّى عليه العلْم، وإن كان هذا صعباً في هذا العصر، حيث المناهج والأساتذة تُفرض على الطّلاب، غير أنّ التدقيق وحُسن الاختيار يجِبان على مُحبِّي الثقافة وطالبي المعرفة من غير الطلاب أن يُحسنوا اختيار الكتاب الذي يقرؤونه، والكاتب الذي يقرؤون له، لأن تشكيل الفكر والثقافة من أهمّ الأشياء؛ ولذلك وجّه الله موسى لعبْد آتاه رحمة وعلماً خاصاً.

وفيها أيضاً إشارة إلى رحمة العلماء وترفّقهم بطلاّب العلْم، وعدم القسْوة عليهم، قال تعالى:{فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا} ؛ فالعالِم المتلقَّى عنه يجب أن يكون عبداً لله، فلا يكون عبداً لفكْر علْماني مُلحد أو لثقافة منتحلة تروِّج للفنّ الهابط والأدب الماجن، أو أن يتناول أحكام الشريعة ونصوصها بالهمز واللّمز. قال تعالى في وصف معالم شخصيّة عالِم موسى:{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} .

رابعاً: على طالب العلْم أن يتلطّف في مخاطبة أستاذه؛ يُؤخذ ذلك من قول موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} .

ص: 77

قال ابن كثير: سؤال تلطّف ليس على وجْه الإلزام والإجبار؛ وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلِّم للعالِم.

خامساً: لطالِب العلْم: أن يشترط على معلِّمه أن يعلّمه العلْم النّافع المفيد، الذي يرشده إلى الخير ويحثّه على الطاعة؛ فالعلْم وسيلة كلّ سُبل الخير في الدنيا والآخرة.

سادساً: على العالِم أن يُبصِّر تلميذه بمنهجه في تدريس العلوم، ويضع الشروط التي يراها مناسبة لنجاح طلاّبه. قال تعالى على لسان الخضر عليه السلام:{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} .

سابعاً: على طلاّب العلوم والمعارف: أن يتحلّوْا بالصّبر والطاعة، قال تعالى عن موسى عليه السلام قوله:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} .

ثامناً: للعالِم أن يُبيِّن طريقته في الدّرس وأسلوبه في تلقِّي الأسئلة، والتوقيت الذي يجاوب فيه عليها؛ قال تعالى على لسان الخضر عليه السلام:{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} .

هكذا يتبيّن من هذه الآيات الكريمة، أُسُس وقواعد طلَب العلوم والمعارف. وعن فضل تحصيل العلْم ما رُوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن سلَك طريقاً يبتغي فيه علْماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة. وإنّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتَها لطالِب العلْم رِضىً بما يَصنَع. وإنّ العالِم لَيستغفرُ له من في السماوات والأرض، حتى الحيتانُ في الماء. وفضْلُ العالِم على العابد كفضْل القمر على سائر الكواكب. وإنّ العلماء ورَثةُ الأنبياء. وإنّ الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنّما ورَّثوا العلْم؛ فمَن أخَذه أخَذ بحظٍّ وافر))، رواه أبو داود والترمذي.

ص: 78

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أصناف مَن تلقّى العلٍْم ونَشَره بين الناس، ومن أفاد غيرَه ولم يستفِدْ بالعلْم ولم يُفد غيره؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلْم كمَثَل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيِّبة قبِلت الماء فأنبتَتِ الكلأ والعشبَ الكثير. وكان منها أجادب -أي: أرض لا تكاد تخصب- أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقَوْا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مَثَل مَن فقُه في دين الله ونفَعه ما بعثني الله به فعَلم وعلّم، ومَثَل مَن لم يرفَعْ بذلك رأساً، ولم يَقبلْ هدى الله الذي أُرسِلْتُ به))، متفق عليه.

ممّا سبق، تتّضح مدى أهَمِّيّة الثقافة للدّاعية، وأنها مِن صُلب تكوينه وأهمّ وسائل نجاح دعْوته.

فالثقافة في المفهوم المعاصر ُتطلَق على كلّ معرفة -عمليّة كانت أم نظرية- تقوم على التّجربة أو الفكْر وتهدف إلى رقيّ الإنسان وتقدّمه في أساليب الحياة العمليّة، أو في تقديم تصوّر حقيقي لأمور الكون النظرية، أو في تقويم سلوكه وتهذيب نفسه؛ فهي الوعاء والغاية لكلّ نشاط بشريّ يتمّ في المجتمع الإنساني. والمثقَّف هو الذي حصل على قدْر كاف من مُختلف علوم ومعارف عصره.

والدّاعي إلى الله هو أوْلى الناس باتّساع الفكر وكثرة الثقافة، ويجب عليه أن يجدّد فكْره ويزيد من معلوماته، وأن يُكثر من اطّلاعاته وقراءاته ليكون محلّ ثقة مَن يستمعون إليه ومحطّ احترامهم، لأنه يحمل بين حنايا نفسه وخلجات قلبه وخلايا عقله أعظمَ رسالة وأشرف أمانة؛ قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

ص: 79