الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسس المنهجية التي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله
تمهيد:
إنَّ الدَّعوة إلى الله أمرٌ إلهيٌّ، وشأنٌ ربَّانيٌّ، صاغته يدُ القدرة صياغةً فريدةً متميِّزةُ:
{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
فالإنسان أثرٌ من آثار قدرة الله، وأحدُ دلائل الإحكام والإبداع والإتقان، قال تعالى:
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
وقال جل شأنه:
هذا الإنسان، قد أودع الله بين حنايا جسده وثنايا قلبه ونفسه، دوافع الخير ونوازع الشر، ومتطلَّبات الرُّوح ورغبات الجسد، كما أنَّه من دلائل الإعجاز وآيات الخلق والتَّكوين ممَّا تخفى حكمته عن الخلق، ويستعصى سرُّه عن الفهم أنَّ الله جلت حكمته، قد جعل للشيطان طريقاً إلى بني آدم، يُزيِّن لهم المعاصي ويوسوس لهم بالمحرَّمات، فلا ينجو أحدٌ من كيده، ولا يفرُّ إنسانٌ من مكره، إلا المتَّقين من عباد الرَّحمن.
هذا الإنسان، بهذا التَّكوين، وبما يحمله داخل جسده ونفسه، لم يتركه الله في هذه الحياة وحيداً فريداً، تتخطَّفه شياطين الإنس والجنِّ، ولم يدفع به إلى الأرض تائهاً حيرانَ، تتخبَّطُه العقائد الباطلة والنِّحَلُ الفاسدة، وإنَّما وُضع له من خلال الرُّسل المرسلة، والكتب المنزلة، المنهجُ الذي يصونه ويحفظه ويرعاه ويحول بينه
وبين وساوس الشيطان ورغبات النفس وشهواتها، هذا المنهج الدَّعويُّ، يقوم على ثلاثة أسس:
المنهج الحسيِّ، المنهج العقليِّ، المنهج العاطفيِّ.
أولاً: المنهج الحسي:
تعريفه: هو النظام الدعوي الذي يرتكز على الحواس، ويعتمد على المشاهدات والتَّجارب.
وقيل في تعريفه أيضاً: هو مجموعة الأساليب الدعوية، التي ترتكز على الحواس، وتعتمد على المشاهدات والتجارب.
فقد أودع الله في الإنسان قوةَ إدراكات كبيرة، تطَّلع على الكون، ولها منافذُ تُطِلُّ منها على العالم من حولها، وهي الحواسُّ الخمس: السَّمع، والبصر، والشَّمُّ، والتَّذوُّق، واللَّمس.
ومن خلال ما تشاهده تلك الحواس، وتنقله إلى عقل الإنسان وفكره، ممَّا هو حوله، حيث يقف على الحقيقة بيضاء ناصعة.
وقد وجه القرآن الكريم أهمَّ حاستين في الإنسان، وهما السمع والبصر، إلى استجلاء حقيقة الإيمان بالله والوقوف على دلائل القدرة وآيات عظمة الله في الخلق والتكوين والإبداع والإتقان، حيث تلامس تلك الحواس هذه الحقائق، فتؤمن عن يقين وتصدق عن اقتناع، قال تعالى:
وعن مسؤولية الحواس، قال تعالى:
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
وقال -جلَّ شأنه-:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78].
وقال تعالى:
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ
طِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:6 - 9].
ويُلاحظ في هذه الآيات، الترابطُ الوثيقُ، والتلازم الوطيد، بين كلٍّ من السمع والبصر والعقل والقلب؛ لأنَّ العقل يحكم على الأشياء، من خلال ما تنقله الحواس، ولا يستطيع أن يعمل بدونها، فإذا فقد الإنسان حاسَّة البصر حكم العقلُ على أنَّ كلَّ شيءٍ أسود، وإذا فقد حاسة السمع توقف العقل عن التمييز بين الأصوات، ولذلك فإنَّ من أسباب الكفر وانحراف الفكر تعطيل الحواس عن إدراك عظمة الخالق سبحانه وتعالى في الأنفس والآفاق، قال -تعالى- في شأن الكافرين:
وقد جمع القرآن الكريم بين الكافرين والمنافقين في فساد حواسِّهم، قال تعالى:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
وقال تعالى:
ولقد نقل القرآن الكريم صورة حسِّيَّةً حيَّة ومشاهدة، لتعمُّد تعطيل عمل الحواس، وذلك فيما حكاه عن نوح عليه السلام قال تعالى:
هذا، ولقد راعى الإسلام في المنهج الحسي، حاسَّة التَّذوُّق، وهي اختبار طعم الشيء وتذوقه، ويطلق على المطعومات التي يتذوقها اللسان، وقد استعملها القرآن الكريم مع حاسة اللمس، ليستدلَّ من خلالها على نعيم المؤمنين وعلى عذاب الكافرين.
فعن تذوُّق العذاب وتجرُّع آلامه، قال تعالى:
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57].
وقال تعالى:
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:24 - 26].
وقال تعالى:
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وكذلك للرحمة مذاق، يتجلى في هدوء النفس وانشراح الصدر وصدق النية وإخلاص العمل، قال تعالى:
{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} [الشورى:48].
وقال تعالى:
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم:36].
وقوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبََّ أليه ممَّا سواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفر، كراهة أن يُلقى به في النار)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعمَ الإيمان: مَن رضِي بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمَّد صلى الله عليه وسلم نبيَّاً ورسولاً.)).
فالقرآن الكريم، بما اشتمل عليه من الحقائق حول الإنسان والكون، يقوم على المنهج الحسي الذي يعتمد على الملاحظة، من خلال البرهان الساطع والدليل القاطع الذي تدركه الحواس.
وقد بين الحق سبحانه وتعالى، أن تعطيل الحواس وصرفها عن مشاهدة عظمة الله في الأنفس والآفاق، إفساد للفطرة وانحدارٌ بها إلى أقل من الحيوانات مرتبةً، قال تعالى:
ومن أبرز أساليب المنهج الحسي، في ميدان الدَّعوة إلى الله، ما يلي:
1 -
لفت الحواس إلى المشاهدات الكونية: وذلك بالنظر إليها والتأمل فيها، للتوصل للإيمان بوجود الله ووحدانيته، قال تعالى:
وقال تعالى:
هذا منهج حسي، يُوجِّهُ البشر إلى النَّظر والتَّأمُّل في ملكوت الله.
2 -
أسلوب التَّعليم التَّطبيقيّ: وذلك بأن يشاهد المدعوُّون الدَّاعيَ بأبصارهم، أو يتلقَّون بالسماع عنه، وهذا منهج حسي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسسه وقواعده، فقال لأصحابه:((صَلُّوا كما رأيتُمُوني أُصلِّي)) رواه البخاري.
وقال: ((خُذوا عنِّي مناسكَكُم)).
والسنة النبوية تحمل بين ثناياها حشداً هائلاً، لكلِّ أحوال الرَّسول صلى الله عليه وسلم التي كانت تتبعها الصَّحابة، ويُبصرونها بأعينهم، ويتعبَّدون بالاقتداء بها، امتثالاً
لقول الله تعالى:
وقد كانت أفعاله صلى الله عليه وسلم تطابق أقوالَه، وظلَّت حياته صلى الله عليه وسلم كتاباً منظوراً يشاهده المسلمون بحواسهم ويرصدونه بأفئدتهم، ويروون هذه الأخبار والأحوال؛ فتلقاها الرواة الثقات العدول، حتى تم تدوين ذلك، في أوائل القرن الثَّاني الهجري، مما يؤصِّل المنهج الحسي للدَّعوة إلى الله.
3 -
تأييد الله للأنبياء والمرسلين بالمعجزات الحسية: كعصا موسى، وناقة صالح، وكنزع خاصية الإحراق من النار التي أُُلقي فيها إبراهيم عليه السلام، وكمعجزات عيسى عليه السلام، كانت معجزات حسِّيَّة.
هذا بجانب معجزات الرَّسول صلى الله عليه وسلم فقد أيَّده الله بمعجزات حسية، شاهدها الصحابة، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، والبركة في الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وردِّ عين أبي قتادة رضي الله عنه وغير ذلك من المعجزات الحسِّيَّة، بجانب المعجزة المعنويَّة الكبرى: القرآن الكريم.
ممَّا يؤكد على أهمية المنهج الحسي، في الدَّعوة إلى الله.
رابعاً: اعتبر الإسلام درء المنكرات ودفع المعاصي باليد أو باللسان أو بالقلب، من الأمور المقرَّرة شرعاً، وينبغي على الأمة أن تقوم بهذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلم:((مَنْ رأى منكم منكراً؛ فليُغَيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه البخاري.
فاشتراك حاسة اللسان مع جارحة اليد مع مشاعر القلب بالكراهية لمرتكبي المنكر وفي هذا إبراز لفاعلية المنهج الحسي.
ثانياً: ضوابط المنهج الحِسِّي:
وضع الإسلام ضوابط المنهج الحسي،، وجعله في إطار ما أمر الله به ونهى عنه، وقد بيَّن القرآن الكريم والسنة النبوية وجوب صون الحواس وكفِّها عمَّا حرَّم الله، ومن هذه الضوابط:
1 -
الالتزام بالنصوص الشرعية، التي توضِّح حدود السَّمع والبصر: ومن ذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبحَ ابنُ آدم؛ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّر اللسان -أي تذلُّ له وتخضع- تقول: اتَّقِ الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوجَحْت اعوججنا)) رواه الترمذي.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: ((مَن سلِم المُسلمون، مِن لسانه ويده)) متفق عليه.
2 -
عدم النظر فيما لا يستطيع الإنسان الإحاطةَ به، أو لم يُكَلَّف بالنظر فيه: قال تعالى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء:36].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مِن حُسن إسلام المرء، تركُه ما لا يعنيه)).
قال تعالى موضحاً صفات المؤمنين:
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3].
وقال تعالى:
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
وقال تعالى:
3 -
اتباع المنهج الصحيح للنَّظر في الأنفس والآفاق:
وقد وضع القرآن الكريم أسسه وقواعده وفصَّل ضوابطه، ومن ذلك:
أ- النظر في عاقبة المكذبين، قال تعالى:
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11].
ب- وجوب النَّظر والتأمل، فيما أنعم الله على عباده من نعم، قال تعالى:
ج- النظر في السماوات والأرض، وما فيهما من دلائل العظمة وآيات القدرة، قال تعالى:
د- النظر في عواقب الأمور، والتفكر فيما يقدمه الإنسان يوم القيامة، قال تعالى:
والنظر فيما يأكله الإنسان، نظرة تدبُّر وتفكُّر، ومشاهدة جمال الخلق وبديع الصنع، قال تعالى:
فهذه الآيات تَلفتُ نظر البشر وحواسَّهم، إلى مشاهد الجمال في الكون، ممَّا يُعمِّق مشاعر الإيمان، ويوسِّع مدارك الحواس، فلقد انتكست الإنسانيَّة في هذا العصر، بسبب وسائل الإعلام، حيث جعلت الجمال يقتصر على توجُّه الحواس للمرأة دون غيرها، وإلى إثارة غرائزها وعرض مفاتنها، وأغمض الناس أعينهم عن رؤى الجمال في كل مظاهر الحياة من حولهم، سواء كان جمالاً حسياً فيما يرون ويسمعون، أو جمالاً معنوياً في فضائل الخير
…
قال -تعالى- مشيراً إلى حركة الكون وحسن مشاهده:
ثالثاً: آثار المنهج الحسي في الدَّعوة إلى الله:
للمنهج الحسي أثرٌ عميق وتأثيرٌ ملموس على المدعُوِّين، حيث يحملهم على الإيمان بالله إيماناً صادقاً، يتَّضح ذلك للأسباب التالية:
1 -
سرعة التأثير على الإنسان؛ لاعتماده على الحواس التي تتصل بالمظاهر من حوله اتصالاً مباشراً، وتنقل تلك المشاهدات للعقل مباشرة، حيث يقتنع ويُصَدِّقُ ويسلم بقدرة الله في الأنفس والآفاق.
2 -
عمق التَّأثير في النَّفس، لمعاينتها الشيءَ المحسوس، فتتفاعلَ معه، فإنَّ اشتراك الحواسِّ في تلقِّي أمرٍ من الأمور الدِّينيَّة أو الدُّنيويَّة ومعاينته، يُوَلِّد في النَّفس القَبول، وفي الصدر الانشراح، وفي العقل الاقتناع.
3 -
اتساع دائرة المنهج الحسي، لاشتراك البشر جميعاً. فالحواس الخمس تجتمع وتتواجد بصورة متماثلة في الناس أجمعين، قال -تعالى- عن هذا الخلق البديع:
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
فالحواسُّ، مصدر من مصادر المعرفة، ووسيلةٌ للتَّعرُّف على آثار قدرة الله.
ويجب على الدُّعاة إلى الله، أن يُرَشِّدوا عملها، وأن يوجِّهوها الوجهة التي خلقها الله من أجلها، وأن لا يحصروها في دوائر ضيِّقة محدودة، وأن ينطلقوا بها إلى أرجاء الكون الرَّحب الفسيح، لتتأمَّل ولتنظر في ملكوت السماوات والأرض، قال -تعالى-:
هذا هو المنهجُ الحِسِّيُّ في الدَّعوة إلى الله، وهذه هي قواعدُه وضوابطُه وآثاره، أمَّا عن المنهج العقليِّ والعاطفيِّ، فهذا موضوع المحاضرة القادمة، إن شاء الله.