الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(المنهج العاطفيُّ في الدَّعوة إلى الله)
1 -
المنهج العاطفيُّ للدَّعوة إلى الله
التَّعريف بالمنهجِ العاطفِيِّ
الحمد لله، خلقَ الإنسانَ في أحسن تقويم، وأودعَ بين ثنايا نفسه وخَلَجَات قلبه المشاعر والعواطف الَّتي تسمو به، على كثيرٍ من المخلوقات، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق وخاتم الرُّسل، هادي العقولِ إلى الخير، ومطهِّرِ النُّفوسِ من الشَّرِّ، وعلى آله وأصحابه الَّذين صحَّت عقيدتُهم، وسلمت عقولهم، وطهُرت قلوبهم، فرضيَ الله عنهم ورضُوا عنه، وأولئك هم المفلحون
…
السلام عليكم ورحمة الله، فقد تناولنا في اللِّقاءَين السَّابقين، تعريف وتوضيح المنهج الحِسِّيّ والعقليِّ، للدَّعوة إلى الله.
وفي هذه المحاضرة الرابعة، لمادة أصول الدعوة وطرقها، "المستوى الثاني"، نلقي الضوء على المنهج العاطفيِّ للدَّعوة إلى الله، وَفق العناصر التالية:
1 -
العطفُ لغةً:
يُقال: عَطِفَ وعَطَف يَعْطِفُ مَالَ، وعَطَفَ عليه أشفَقَ، وتعاطَفوا، أي عطف بعضُهم على بعض، أي: مال كلٌّ منهم للآخر وانحنى عليه، واستعطفه سأله أن يعطف عليه. "القاموس المحيط: مادة عطف"
2 -
العاطفة اصطلاحاً:
عُرِّفت العاطفة بعدة تعريفات، منها:
1 -
العواطف هي الانفعالات النَّفسيَّة المنظَّمة والموجَّهة إلى مؤثِّر خاصٍّ، وتنشأ عن الوِجدان الفرديِّ أو الاجتماعيِّ، فتكوِّنُ عواطف فردية أو جماعيَّة.
2 -
العاطفة هي ذلك الشيء الموجود في داخل النَّفس الإنسانيَّة، والتي تظهر واضحةً جليةً؛ إذا عُرض للإنسان موقفٌ ما أثار فيه هذه النَّزعة.
3 -
تعريف المنهج العاطفيِّ للدَّعوة إلى الله: هو النِّظام الدَّعويُّ الَّذي يرتكز على القلب، ويحرِّك المشاعر في النَّفس، لكلِّ جوانب الخير، ويدفع بالعواطف والأحاسيس، إلى الصدق وحسن التوجه إلى الله، وتعميق أواصر المحبة للهِ ولرسوله وللمؤمنين، وهذا المنهجُ عميقُ الصلة، وثيق الترابط بكلٍّ من المنهج الحسِّيِّ والعقليِّ، قال تعالى:
فالأفئدة هي القلوب، مركِزُ المشاعر، ومنبع العواطف، ومستقرُّ الأحاسيس.
ويصف الإمام أبو حامدٍ الغزاليُّ القلبَ وما يحتويه من أسرار، فيقول:
"القلب هو المقبول عند الله؛ إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله؛ إذا صار مستغرَقاً بغير الله، وهو المطالب، وهو المخاطب، وهو المعاتَب، وهو الذي
يسعد بالقرب من الله، فيُفلح إذا زكَّاه، وهو الَّذي يخيب ويشقى إذا دنَّسه ودسَّاه، وهو المُطيع بالحقيقة لله، وإنَّما الَّذي ينتشرُ على الجوارح من العبادات أنوارُه، وهو العاصي المتمرِّد على الله. وإنَّما السَّاري إلى الأعضاءِ من الفواحش آثارُه، وبإظلامِه واستنارتِه تظهر محاسنُ الظَّاهر ومساوِؤه، إذ إنَّ كلَّ إناءٍ ينضح بما فيه، وهو الَّذي إذا عرفه الإنسانُ فقد عرف نفسَه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربَّه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسَه، ومن جَهِلَ نفسَه فقد جهل ربه".
وإنَّ من أسرار الخلقِ وبديع الصُّنع، أنَّ الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوَّتَين مدرِكتين:
الأولى: قوَّةٌ مدركةٌ ظاهرةٌ واعيةٌ واضحةٌ.
والثانية: قوَّةٌ مدركةُ باطنةٌ مُبْهَمة.
فالقوَّة الأولى: العقلُ الَّذي يُدرك ما تنقلُه إليه الحواسُّ من العالم الخارجيِّ المُحيط بالإنسان، ويتأثَّر بعوامل كثيرة، كالعلم والتَّجارب والعادات والتَّقاليد وشتَّى جوانب الحياة، وقد أشرنا إلى ذلك في المحاضرة السابقة عن المنهج العقليِّ.
أمَّا القوَّة الثانية المدركة: فهي قوَّة الإدراك الشُّعوريَّة الوجدانيَّة داخل النَّفس البشريَّة، التي تُدرَك بها الأمور الباطنة، كالألم والجوع والعطش والفرح والحزن، وندرك بها الرِّضا والقَبول، والارتياح لشيءٍ ما، وندرك بها النُّفور والرَّفض لشيءٍ آخر، وهذا إدراكٌ باطنيٌّ مبهم، نَقبل به الشيء أو نرفضه وجداناً وشعوراً، وقد لا يكون لدينا مسوِّغٌ واضح لهذا القَبول أو الرفض، سوى الشعور بالارتياح أو الاستياء.
ثانياً: اختلاف العواطف والتفاوت بينها:
إنَّ من سنن الله في الخلق، اختلافَهم في العقول، وتفاوتَهم في المشاعر والعواطف، قال تعالى:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:117 - 118].
وقد بيَّن الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم اختلافَ القلوب والمشاعر، في الإيمان والكفر والنفاق، وقسم البشر إلى أنواعٍ تتباعد عواطفُهم وتتنافر أحاسيسهم، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((القلوبُ أربعةٌ: قلبٌ أجردُ فيه مثلُ السِّراج يُزهر، وقلب أغلفُ مربوطٌ على غلافه، وقلبٌ منكوسٌ، وقلبٌ مُصفَّحٌ. فأمَّا القلبُ الأجرَد، فقلبُ المؤمنِ سراجُه فيه نورٌ. وأمَّا القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح، فقلبٌ فيه إيمانٌ ونفاق فمثل الإيمان كمثل البقلة يمدُّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يمدُّها القيح والدَّم، فأيُّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)). مسند الإمام أحمد.
وقد بيَّن القرآن الكريم، أنَّ انشراح الصدر بمشاعر الإسلام، وأنَّ صدق العواطف بالإيمان، إنَّما هو بتوفيق الله، وأنَّ انقباضَ الصَّدر وتوتُّرَ النَّفس واضطرابَ الأحساسيس، إنَّما هو عقابٌ وغضبٌ من الله، بسبب انصراف القلوب عن طاعته، قال تعالى:
ولقد صوَّر القرآن الكريم المؤمنين بأنَّهم أصحابُ مشاعر حسَّاسة وعواطف صادقة، تقشعرُّ جلودهم، وتلينُ قلوبُهم لسماعهم للذِّكر الحكيم، وأنَّ الكافرين ذوو عواطف متبلِّدة، وقلوب قاسية مُتَحَجِّرة، قال تعالى:
فانشراحُ الصدر ثمرةٌ من ثمار الإيمان، فإذا ما انشرح صدرُ الإنسان؛ لان قلبُه، ورقَّت عواطفُه، وارتقت مشاعرُه، وصدقت أحاسيسُه، ولقد امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بانشراح الصَّدر، قال تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
ولقد دعا موسى ربَّه قائلاً:
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26].
ولقد أفاض القرآنُ الكريم، في إبراز عواطف المؤمنين، وصدق أحاسيسهم، ورقَّة مشاعرهم، ونبل عواطفهم؛ ممَّا انعكست آثار ذلك على الإنسانيَّة رأفةً ورحمةً وشفقة.
كما أبرز القرآن الكريم تحجُّر المشاعر للكافرين، وأبرز تبلُّد عواطفهم، وقسوة قلوبهم، وموت ضمائرهم، وفقدان الأحاسيس بمشاعر الآخرين، ممَّا كان له الأثر السيئ على الأفراد والجماعات قديماً وحديثاً.
وسوف نسوق بعض الآيات، التي تتحدَّث عن عواطف المسلمين، ومن ذلك قول الله تعالى::
1 -
2 -
3 -
بيَّن القرآنُ الكريم أنَّ رقَّة المشاعر ونبل الأحاسيس، هي سماتُ وصفاتُ العلماءِ المؤمنين، الَّذين اتَّقَوُا الله وتدبَّروا آياته، قال تعالى:
4 -
ذكر القرآنُ الكريمُ أنَّ رقيَّ المشاعر وصدق العواطف، أمرٌ يقتصرُ على مناهج الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الرُّسل محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى:
5 -
وصفَ القرآنُ الكريم صدق عاطفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ولين قلبه، فقال تعالى:
وقال تعالى:
قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وكما أشار القرآنُ الكريم، إلى ما اتَّصف به الرَّسول صلى الله عليه وسلم وصحابتُه، وكذلك المؤمنون في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، من سلامة القلب وطهارة النَّفس وسموِّ العواطف ونُبل المشاعر وصدق الأحاسيس، ممَّا كان له عميقُ الأثر في الدَّعوة إلى الله، وانتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجاً.
كذلك أشار القرآنُ الكريمُ في مواضع كثيرةٍ، إلى قسوة قلوب الكافرين، وفساد مشاعرهم، وتبلُّد عواطفهم، وموت أحاسيسهم، ومن ذلك ما يلي:
1 -
تحدَّث القرآن الكريم، عن قسوة قلوب بني إسرائيل، قسوةً لم توصف بها أمة من الأمم سواهم، وإنَّ واقعَ ما يحدث في فلسطين الآن، من قتل واغتيال وحرق للأخضر واليابس، وإبادة جماعيَّةٌ للمسلمين على أيدي إسرائيل، لأكثرَ من ثمانين عاماً، صورةٌ حيَّةٌ لما أخبر عنه القرآن الكريم، قال تعالى:
2 -
أشار القرآن الكريم إلى أسباب قسوة قلوب اليهود والنصارى، وهي:
أ- نقض ما أخذه الله عليهم من مواثيق، لا سيَّما ما يتعلَّق بدعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
ب- تحريف الكلم عن مواضعه.
ج- نسيانُ جزءٍ كبيرٍ ممَّا شرعه الله لهم، وذَكَّرَتهم به أنبياؤهم.
د- الخيانة التي تسري في عروقهمـ وشواهد التاريخ قديماً وحديثاً، تنطق بذلك.
وكان حصادُ ذلك ما بين بعض المذاهب النَّصرانيَّة وبعضها الآخر من عداء، وما بين اليهود والنَّصارى، من خلاف عميق واتِّهامات متبادلة بين الفريقين، وإن بدا في هذا العصر اتِّفاقُهم على ما به القضاءُ على الإسلام والمسلمين، قال تعالى:
3 -
ذكر القرآن الكريم، أنَّ من أسباب تَحَجُّر العواطف، وقسوة القلوب وموت المشاعر: انقطاعَ الصلة بالله، والتَّوقُّفَ عن التَّضرُّع والدُّعاء، خاصَّةً في أوقات الشَّدائد والمحن، قال تعالى:
فالآية من دلائل إعجاز القرآن الكريم، وهي إشارةٌ إلى سُنَّة من سنن الله في الكون، بخصوص الأمم الظَّالمة والحضارات المتجبِّرة في الأرض قديماً وحديثاً، وكذلك الطُّغاة، حيث ابتلاهم الله مع ما هم فيه من قسوة القلوب بانفتاح الدنيا من كل جوانبها، وتملُّكُهم لكلِّ وسائل القوَّة والبطش والجبروت، حتى خُيِّل لهم أنَّه لا غالب لهم من النَّاس، وليس على سطح الأرض قوةٌ يخشَون بأسها، أو شعبٌ يخرج عن طوع إرادتهم، وتاهوا بذلك زَهواً وخُيَلاءً واستعلاءً، وحينما بلغوا الغاية من ذلك، وافتُتن الناس بهم، وتزلَّفوا إليهم نفاقاً وخوفا، ً وإذا بالقصاص الإلهيِّ العادل يأتي بغتةً؛ فيبدد تلك القوى الظَّالمة، كما أشارت الآية السابقة:
4 -
بَيَّنَ القرآن الكريم، أنَّ الشيطان لا يتمكَّنُ بفتنه ووساوسه، إلا من القلوب المريضة والنفوس القاسية الظالمة، وأنَّ اطمئنانَ القلوب وصدق المشاعر، قاصرٌ على أولي العلم، الَّذين جمعوا بين العلم ومعرفة الحقِّ، فهداهم الله إلى الصِّراط المستقيم، قال تعالى:
5 -
ذكر القرآنُ الكريم أنَّ من أسبابِ قسوة القلوب وظلام النُّفوس وظلمِها: كثرةَ أمَد الناس بالكفر، وطولَ عهدهم بالمعاصي، وانغماسَ حياتهم في الشَّهوات، قال تعالى: