الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
•
قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}
.
قرأه الجمهور: (ص) بالسكون، منهم القراء السبعة، والتحقيق أن ص من الحروف المقطعة في أوائل السور كص في قوله تعالى {المص (1)} ، وقوله تعالى:{كهيعص (1)} .
وقد قدمنا الكلام مستوفًى على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وبذلك التحقيق المذكور، تعلم أن قراءة من قرأ (ص) بكسر الدال غير منونة، ومن قرأها بكسر الدال منونة، ومن قرأها بفتح الدال، ومن قرأها بضمها غير منونة، كلها قراءات شاذة لا يعول عليها.
وكذلك تفاسير بعض العلماء المبنية على تلك القراءات، فإنها لا يعوّل عليها أيضًا.
كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: إن (ص) بكسر الدال فعل أمر من صادى يصادي مصاداة إذا عارض، ومنه الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن وقابله به، يعني امتثل أوامره واخنب نواهيه واعتقد عقائده واعتبر بأمثاله واتعظ بمواعظه.
وعن الحسن أيضًا: أن ص بمعنى حادث، وهو قريب من الأول.
وقراءة ص بكسر الدال غير منونة: مروية عن أبي بن كعب، والحسن وابن أبي إسحاق وأبي السمال وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم.
والأظهر في هذه القراءة الشاذة، أن كسر الدال سببه التخفيف؛ لالتقاء الساكنين، وهو حرف هجاء لا فعل أمر من صادى.
وفي رواية عن ابن أبي إسحاق، أنه قرأ {ص} بكسر الدال مع التنوين على أنه مجرور بحرف قسم محذوف، وهو كما ترى، فسقوطه ظاهر.
وكذلك قراءة من قرأ {ص} بفتح القال من غير تنوين، فهي قراءة شاذة والتفاسير المبنية عليها ساقطة.
كقول من قال: صاد محمد قلوب الناس واستمالهم حتى آمنوا به، وقول من قال: هو منصوب على الإغراء. أي الزموا صاد، أي هذه السورة، وقول من قال: معناه اتل، وقول من قال: إنه منصوب بنزع الخافض، الذي هو حرف القسم المحذوف.
وأقرب الأقوال - على هذه القراءة الشاذة -: أن الدال فتحت تخفيفًا لالتقاء الساكنين، واختير فيها الفتح إتْباعًا للصاد، ولأن الفتح أخف الحركات، وهذه القراءة المذكورة قراءة عيسى بن عمر، وتروى عن محبوب عن أبي عمر.
وكذلك قراءة من قرأ صاد بضم الدال من غير تنوين، على أنه
علم للسورة، وأنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هذه صاد، وأنه منع من الصرف للعلمية والتأنيث؛ لأن السورة مؤنثة لفظًا.
وهذه القراءة مروية عن الحسن البصري، وابن السميقع، وهارون الأعور.
ومن قرأ صاد بفتح الدال قرأ: (ق)، و (ن)، كذلك، وكذلك من قرأها {ص} بضم الدال فإنه قرأ {ق} و {ن} بضم الفاء والنون.
والحاصل أن جميع هذه القراءات، وجميع هذه التفاسير المبنية عليها، كلها ساقطة، لا معوَّل عليها.
وإنما ذكرناها لأجل التنبيه على ذلك.
ولا شك أن التحقيق هو ما قدمنا من أن {ص} من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن القراءة التي لا يجوز العدول عنها هي قراءة الجمهور التي ذكرناها.
وقد قال بعض العلماء: إن (ص) مفتاح بعض أسماء الله تعالى كالصبور والصمد.
وقال بعضهم: معناه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله.
إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد ذكرنا أنا قدمنا الكلام على ذلك مستوفًى في أول سورة هود.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} ، قد قدمنا أن أصل القرآن مصدر، زيد فيه الألف والنون، كما زيدتا
في الطغيان، والرجحان، والكفران، والخسران، وأن هذا المصدر أريد به الوصف.
وأكثر أهل العلم يقولون: إن هذا الوصف المعبر عنه بالمصدر هو اسم المفعول.
وعليه، فالقرآن بمعنى المقروء، من قول العرب: قرأت الشيء إذا أظهرته وأبرزته، ومنه قرأت الناقة السلا والجنين إذا أظهرته وأبرزته من بطنها، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
تريك إذا دخلت على خلاء
…
وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر
…
هجان اللون لم تقرأ جنينا
على إحدى الروايتين في البيت.
ومعنى القرآن على هذا: المقروء الذي يظهره القارئ، ويبرزه من فِيه، بعباراته الواضحة.
وقال بعض أهل العلم: إن الوصف المعبر عنه بالمصدر، هو اسم الفاعل.
وعليه، فالقرآن بمعنى القارئ، وهو اسم فاعل قرأت، بمعنى جمعت.
ومنه قول العرب: قرأت الماء في الحوض أي جمعته فيه.
وعلى هذا، فالقرآن بمعنى القارئ أي الجامع، لأن الله جمع فيه جميع ما في الكتب المنزلة.
وقوله تعالى في هذه الكريمة: {ذِي الذِّكْرِ (1)} فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء:
أحدهما: أن الذكر بمعنى الشرف، والعرب تقول: فلان مذكور، يعنون له ذِكْر، أي شرف.
ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي شرف لكم، على أحد القولين.
الوجه الثاني: أن الذكر اسم مصدر بمعنى التذكير؛ لأن القرآن العظيم فيه التذكير والمواعظ، وهذا قول الجمهور واختاره ابن جرير.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} ، فقال بعضهم: إن المقسم عليه مذكور، والذين قالوا إنه مذكور، اختلفوا في تعيينه، وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط.
فمنهم من قال: إن المقسم عليه هو قوله تعالى {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} .
ومنهم من قال: هو قوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} .
ومنهم من قال: هو قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} ، كقوله:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)} ، وقوله:{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} .
ومنهم من قال: هو قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ} ، ومن قال هذا قال: إن الأصل: لكم أهلكنا. ولما طال الكلام، حذفت لام القسم، فقال: كم أهلكنا، بدون لام.
قالوا: ونظير ذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} ، لما طال
الكلام بين القسم والمقسم عليه، الذي هو {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} ، حذفت منه لام القسم.
ومنهم من قال: إن المقسم عليه هو قوله: (ص)، قالوا: معنى (ص) صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر. وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم .
ومنهم من قال: المعنى: هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} .
إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها.
وقال بعض العلماء: إن المقسم عليه محذوف. واختلفوا في تقديره، فقال الزمخشري في الكشاف: التقدير {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} . إنه لمعجز. وقدره ابن عطية وغيره فقال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} ما الأمر كما يقوله الكفار.
إلى غير ذلك من الأقوال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن: أن جواب القسم محذوف وأن تقديره: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} ، ما الأمر كما يقوله الكفار، وأن قولهم المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة:
الأول منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقًا، وأن الأمر ليس كما يقول الكفار في قوله تعالى عنهم:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} .
والثاني: أن الإله المعبود جل وعلا واحد، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} .
والثالث: أن الله جل وعلا يبعث من يموت، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} ، وقوله:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} ، وقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} .
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} ؛ لأن الإضراب بقوله (بل) دليل واضح على المقسم عليه المحذوف. أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا، بل الذين كفروا في عزة، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق، وشقاق، أي مخالفة ومعاندة.
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة، فلدلالة آيات كثيرة: أما صحة رسالة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكون الإله المعبود واحدًا لا شريك له، فقد أشار لهما هنا.
أما كون الرسول مرسلًا حقًا ففي قوله تعالى هنا: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} يعني: أي لا وجه للعجب المذكور، لأن يجيء المنذر الكائن منهم، ولا شك في أنه بإرسال من الله حقًا.
وقولهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} إنما ذكره تعالى إنكارًا عليهم وتكذيبًا لهم، فعرف بذلك أن في ضمن المعنى: والقرآن ذي الذكر إنك مرسل حقًا، ولو عجبوا من مجيئك منذرًا، وزعموا أنك ساحر كذاب، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه، وزعموا أن خاتم الرسل، وأكرمهم على الله، ساحر كذاب.
وأما كون الإله المعبود واحدًا لا شريك له، ففي قوله هنا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} ؛ لأن الهمزة في قوله: (أجعل) للإنكار المشتمل على معنى النفي، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد.
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم على أن الله أقسم على تكذيبهم فيهما وإثباتهما بالقسم صريحًا، كقوله تعالى مقسمًا على أن الرسول مرسل حقًا:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} فهي توضح معنى {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} إنك لمن المرسلين.
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} . وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} ونحو ذلك من الآيات. فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذُكِر، أي: والقرآن ذي الذكر، إن إلهكم لواحد، كما أشار إليه بقوله:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ} الآية.
وأما كون البعث حقًا، فقد أقسم عليه إقسامًا صحيحًا صريحًا، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} ، وقوله تعالى:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي الساعة، وقوله:{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} .
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران، وهي كون الرسول مرسلًا، والبعث حقًا، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة، وذلك في قوله تعالى: {ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}. فاتضح بذلك أن المعنى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} إن المنذر الكائن منكم الذي عجبتم من مجيئه لكم منذرًا رسولٌ منذر لكم من الله حقًا، وإن البعث الذي أنكرتموه واستبعدتموه غاية الإِنكار والاستبعاد في قوله تعالى عنكم:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} أي ذلك الرجع الذي هو البعث، رجع بعيد في زعمكم، واقع لا محالة، وإنه حق لا شك فيه، كما أشار له في قوله تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)} إذ المعنى أن ما أكلته الأرض من لحومهم، ومزقته من أجسامهم وعظامهم، يعلمه جل وعلا، لا يخفى عليه منه شيء، فهو قادر على رده كما كان.
وإحياء تلك الأجساد البالية، والشعور المتمزقة، والعظام النخرة كما قدمنا موضحًا بالآيات القرآنية، في سورة يس في الكلام على قوله تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} .
وكونه صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقًا، يستلزم استلزامًا لا شك فيه، أن القرآن العظيم منزل من الله حقًا وأنه ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
ولذلك أقسم تعالى في مواضع كثيرة، على أن القرآن أيضًا منزل من الله، كقوله تعالى في أول سورة الدخان:{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الآية، وقوله تعالى في أول سورة الزخرف {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} .